Commentary

مبدأ ترامب للشرق الأوسط

U.S. President Donald Trump makes a statement about Syria at the White House in Washington, U.S., April 13, 2018. REUTERS/Yuri Gripas - RC19863CAF90

شكّل مساء الجمعة الواقع فيه 13 أبريل 2018 الأزمة الأولى لجون بولتون كمستشار الأمن القومي للرئيس ترامب. فبالكاد مرّت ثلاثة أيّام على استلامه منصبه حتّى اتّخذ مكانه بمنأى عن الكاميرات في غرفة اللقاءات الدبلوماسية في البيت الأبيض، فيما خاطب رئيسه الجديد الأمّة ليفسّر سبب مهاجمة الصواريخ والطائرات الأمريكية والبريطانية والفرنسية أهدافاً مرتبطة ببرنامج الأسلحة الكيميائية السوري.

وقد قرأ ترامب كلمته من شاشة التلقين، واقفاً أمام صورة لوجه الرئيس جورج واشنطن يحيط به من الجهتين تمثالٌ برونزي لنِسر أمريكي مرفوع الجانحَين مع باقة من الورود الصفراء والبيضاء. ويرمز هذا المنظر إلى أنّ البيت الأبيض إدارةٌ عازمة في ريعان عطائها. وفيما ألقى رئيس بولتون الجديد ما اعتُبر نصّاً مدروساً بعناية، تفحّص المستشار نسخةً عن ملاحظات ترامب بواسطة قلم كما لو كان يتأكّد من أنّه بقي الرئيس وفياً لنصّه.

وللتأكّد، تخلّل إعلان ترامب بعضاً من العبارات “الترامبية” الكلاسيكية، فبرز الأسدُ بصورة “وحش” والاقتصادُ الأمريكي بصورة الاقتصاد “الأعظم والأقوى… في تاريخ العالم” وأملُ ترامب الدائم والوشيك بأنّ “يوماً ما سنتّفق مع روسيا”.

لكنّ الرسالة الفعلية من الخطاب كانت مكبوتة أكثر ممّا رغب فيه ترامب أو مستشاره للأمن القومي. فقد تمّ تدمير مركزٍ للأبحاث والتطوير حول الأسلحة الكيميائية ومنشأتَي تخزين بهدف إضعاف قدرات الأسد وليس تدميرها وبهدف إرسال إشارة بأنّ الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيّين لن يقبلوا باستخدام أسلحة الدمار الشامل هذه. ولم تُضرَب أيّ أهداف أخرى تعود للنظام ولم تُدمَّر أيّ طائرات سورية ولم تُهدَّد أيّ قواعد إيرانية أو روسية ولم تُخرق أيّ منطقة دفاع جوّي روسي. لقد كان الهجوم “ضربةً لمرّة واحدة”، بحسب ما وصفه وزير الدفاع جيمس ماتيس لاحقاً. ولا شكّ في أنّه في وقت آخر، تحت إدارة رئيس آخر، كان ترامب وبولتون ليصفا الهجوم بدقّة على أنّه “هجوم أشبه بوخزة طفيفة”.

لقد كان في وسع ترامب أن يصرّ بسهولة على هجوم أكبر، باعتبار أنّه القائد الأعلى للقوّات المسلّحة، وبوقوف بولتون إلى جانبه لدعم غرائزه العدوانية. وقد ركّز قرارُه بالعزف عن هذا النوع من الهجوم على المغزى الكامن للصواريخ التي أطلقها والرسالة التي أراد أن ترافقها. فقد شكّلت تلك الرسالةُ المسألةَ الفعلية التي أخفاها ترامب في خطاب يوم الجمعة، وهي عبارة عن مبدأ ترامب للشرق الأوسط.

وأكّد ترامب قائلاً: “لا يمكننا أن نطهّر العالم من الشرّ أو نتحرّك أينما حلّ الاستبداد”، في تناقض واضح مع كلمات الرئيس الأمريكي الراحل جون ف. كنيدي الذي قال: “ادفعوا أيّ ثمن وتحمّلوا أيّ عبء… للحرص على بقاء الحرية ونجاحها”. بدلاً من ذلك، كان ترامب عازماً على التخفيف من أهمّية التوقّعات والحدّ من الالتزام الأمريكي. فأعلن قائلاً: “ليس بإمكان أيّ دم أمريكي أو أيّ ثروة أن تحافظ على سلام وأمن دائمَين في الشرق الأوسط، فهذا مكان مضطرب”. وقد وعد ترامب بأن “يحاول تحسينه”، لكنّه كرّر قائلاً: “إنّه مكان مضطرب”.

وعلى غرار “هيلاري غير النزيهة” و”ماركو الصغير” و”تيد الكاذب” و”كومي المسرِّب”، أطلق ترامب الآن على الشرق الأوسط صفة “مكان مضطرب”. من الواضح أنّه ليس المكان الأنسب لكي تستثمر فيه الولاياتُ المتحدة، التي باتت عظيمة مجدّداً، طاقتَها. ومن خلال الاستعانة بالقوّة الأمريكية، أراد ترامب أن يبني رادعاً منيعاً أمام استخدام الأسد أسلحةً كيميائية لأنّه اعتبر المسألةَ “مصلحةَ أمن قومي حيوية للولايات المتحدة”. لكنّ هذه المصلحة الحيوية ستبقى محدّدة بشكل ضيّق. في المقابل، فسّر ترامب قائلاً: “مصير المنطقة في يد شعبها”.

بعبارة أخرى، لن تُبذَل أيُّ جهود للإطاحة بالأسد أو بأيّ مستبدٍّ شرق أوسطي آخر. وبهدف حماية الشعب الأمريكي، سيتابع ترامب تدمير تنظيم داعش في سوريا “بقوّة صغيرة”. لكن سيتعيّن على أصدقاء الولايات المتحدة الإقليميين أن “يحرصوا على ألّا تستفيد إيران من القضاء على داعش”. بالفعل، وضّح ترامب قائلاً: “طلبنا من شركائنا أن يتحمّلوا مسؤولية أكبر في فرض الأمن في منطقتهم”. لقد انتهت مرحلة استلام الولايات المتحدة مهمّة إضعاف الهيمنة التي اكتسبتها إيران في الشرق الأوسط، كما لمّح انتقادُ ترامب الحادّ للاتفاق النووي الإيراني. وقد أعلن ترامب الآن فعلياً أنّه سيدير الدفّة من الخلف في الشرق الأوسط، على غرار غريمه أوباما.

ويبدو أنّ نقّاد ترامب الذين يعتقدون أنّ الضربة على منشآت الأسلحة الكيميائية السورية يجب أن تكون جزءاً من استراتيجية أوسع يديرون أذناً صمّاء لهذه الرسالة. لعلّهم يظنّون أنّه بإمكانهم حثّه على بذل جهود طموحة أكثر بأن يجعل سوريا أو المنطقة الأوسع على صورة الولايات المتحدة. غير أنّ ترامب سبق أن وضع استراتيجية للشرق الأوسط. لكنّها ليست الاستراتيجية التي يحبّذونها أو قد يحبّذها بولتون. فسيدعم ترامب شركاءَ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، أأوتوقراطيين كانوا أم ديمقراطيين، ويبيعهم كلّ ما أمكنهم شراءه من سلاح. لكن عبء التعامل مع هذا المكان المضطرب سيقع على كاهلهم وليس كاهله.

وأوضح ترامب أنّه سيضرب من جديد في حال تجرّأ الأسد على استخدام أسلحة كيميائية مرّة أخرى. لكن إذا أراد الأسد أن يتابع ذبح شعبه بواسطة أسلحة تقليدية، فليتكفّل الآخرون بالتعامل معه. اسمعوا جيّداً: “مصير المنطقة في يد شعبها”، وليس في يد ترامب.

لقد أشار ترامب بوضوح إلى نيّته ترك سوريا تقوم بما تشاء عندما أعلن في 29 مارس أنّ الجنود الأمريكيين سيرحلون من سوريا “قريباً جداً”. وقال لحشدٍ من داعميه في ولاية أوهايو: “ليهتمّ الآخرون بالموضوع”، ملمّحاً إلى ملاحظاته المفصّلة أكثر التي قالها مساء الجمعة.

لكنّه سبق أن أوضح نواياه في سوريا أو غيابَ نواياه بالأحرى على مدى السنة الماضية عندما تفادى مراراً مساعدة إسرائيل، حليفة الولايات المتحدة الأقرب في الشرق الأوسط، على احتواء انتهاكات إيران في المنطقة. وقد حاول رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مراراً أن يحصل على مساعدة ترامب لإنشاء خطوط حمراء في سوريا تواجه بناءَ إيران قاعدةً جوية ومصانعَ لصواريخ موجّهة بدقّة من أجل تسليمها لحزب الله وانتهاكَ الميليشيات المدعومة من إيران لمرتفعات الجولان. بدلاً من ذلك، تعيّن على نتنياهو أن يسافر سبع مرّات إلى موسكو ليناشد بوتين المساعدةَ التي لم يحظَ بها من ترامب. لكن مع غياب انخراط ترامب، لم يكن في مصلحة بوتين أن يتحدّى شريكه الإيراني في إعادة غزو الأسد للأراضي التي يسيطر عليها المتمرّدون. بالتالي، لم تلقَ تضرّعات نتنياهو آذاناً روسية صاغية.

وما بقي أمام إسرائيل إلّا أن تعزّز خطوطها الحمراء من خلال مهاجمة منشآت وقوافل إيرانية. والآن، تزيد وعود طهران بالثأر من حدّة التوترات وتلوح في الأفق مواجهة شاملة قد تشمل لبنان أيضاً. وفي حال وقعت هذه المواجهة، يمكن الاعتماد على ترامب ليشجّع إسرائيل من الخارج فيما يتحوّل المكان المضطرب إلى مكان أكثر اضطراباً كما هو متوقّع.

على نحو مماثل في اليمن، لا يتوانى ترامب عن مساعدة صديقه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان على التخبّط في مأزق، مقدّماً له كلّ الأسلحة والأجهزة الاستخباراتية التي قد يحتاج إليها. لكن لن يتمّ تقديم أيّ التزام دبلوماسي أمريكي لتعزيز تسوية سياسية قد تساعد المملكة العربية السعودية على وضع خطّة خروج ضرورية وإنهاء الأزمة الإنسانية. ومن يستفيد في غضون ذلك؟ إيران، طبعاً. فعبر مدّ الثوّار الحوثيين بالصواريخ، تؤسس إيران لنفسها مركز نفوذ على حدود المملكة العربية السعودية الجنوبية من دون أيّ تكاليف تذكر.

حريّ بنا ألّا نظنّ أنّ بولتون سيغيّر أيّاً من هذه الأمور. لعلّه أراد هجوماً أقوى. لعلّه أراد أن يفتعل مواجهة مع روسيا. لكنّ مقارنته نصّ ترامب المكتوب بكلام الرئيس المنطوق في غرفة اللقاءات الدبلوماسية صورةٌ تعبّر عن ألف كلمة. فقد كان يتأكّد من أن مبدأ ترامب حول الانسحاب من الشرق الأوسط يجري إعلانه بدقّة.