Commentary

داعش وحرب الشرق الأوسط الباردة الجديدة

أضافت الأراضي التي اكتسبتها الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) هذا الصيف في العراق وسوريا عنصراً جديداً إلى حرب الشرق الأوسط الباردة الجديدة التي كتبتُ عنها في ورقة تحليلية أصدرها مركز بروكنجز الدوحة في وقت سابق من هذا الصيف. بدّلت داعش اسمها ليصبح “الدولة الإسلامية” وأعلنت الخلافة في الموصل. وشكلت داعش تهديداً لكل من بغداد وأربيل، فيما عززت سيطرتها على جزء أكبر من شرقي سوريا وتقدمت في قتالها في حلب. وقد زادت نجاحاتها إلى أرقامها، أكان من حيث المنطويين تحت لوائها أو من حيث المجموعات القتالية الأخرى، التي قد لا تشاركها الأيديولوجية نفسها، ولكنها تنضم إلى صف منتصر بارز. وصحيحٌ أن إعدامها للصحافي الأمريكي جايمس فولي بشكل وحشي لفت أنظار العالم، إلا أن نجاحاتها سبقت ذلك الحدث بأشهر. وقد ساعدت الغارات الأمريكية بدحر داعش من بعض المواقع التي اكتسبتها مؤخراً في شمالي العراق، بيد أن أحداً لا يزعم أنها قد مُنيت بالهزيمة.

بشكلٍ ما، تُعتبر داعش إحدى نِتاج الحرب الباردة الجديدة في الشرق الأوسط. إلا أن السبب الأساسي وراء هذه الأزمة التي تمتد على المنطقة بأسرها هو فشل الدول في السيطرة على حدودها وأراضيها، وتقديم الخدمات لمواطنيها، وأخيراً بالتوصل إلى هوية سياسية مشتركة تُكون أساساً للمجتمع السياسي. وتجدر الإشارة إل أن انهيار سلطة الدولة الطبيعية لم يحصل في مناطق واسعة من سوريا والعراق فحسب، بل يحصل أيضاً في لبنان واليمن وليبيا وربما حتى في أجزاء من مصر. وفي غياب سيطرة الحكومة المركزية، تنشأ قوى محلية ترتكز على هويات طائفية واثنية وعشائرية وهويات إقليمية لملء هذه الثغرة. ويمثل كل من حكومة إقليم كردستان العراق، وحزب الله في لبنان، والحركة الحوثية في اليمن، والميليشيات الطائفية المختلفة في سوريا والعراق أشكالاً مختلفة للظاهرة نفسها والناتجة عن إخفاق الحكم المركزي في هذه البلاد.

غير أن داعش مختلفة عن هذه الكيانات الأخرى اختلافاً هامّاً؛ فهي لا تملك أي حليف إقليمي أو قوة عظمى حليفة. والفراغات السياسية التي نشأت في المنطقة هي ساحات معارك حرب الشرق الأوسط الباردة الجديدة. تدعم إيران والمملكة العربية السعودية أولاً، وقوى إقليمية أخرى (كتركيا وقطر والإمارات العربية المتحدة ومصر) أيضاً، المجموعات المحلية في هذه الصراعات السياسية المحلية والحروب الأهلية من أجل زيادة قوتها وإرساء التوازن مع منافسيها والتقدم بأجنداتها الأيديولوجية. تدعم إيران حزب الله وعدة ميليشيات شيعية عراقية وحكومة بشار الأسد والحكومة ذات القيادة الشيعية في بغداد. أما السعوديون، فيدعمون المجموعات العلمانية والسلفية التي تقاتل الأسد، فيما دعمت تركيا وقطر المجموعات التابعة للإخوان المسلمين في سوريا. وكانت قطر الداعم المالي الرئيسي لحكومة الإخوان المسلمين التي تم إسقاطها في مصر. أما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، فتدعمان حكومة السيسي التي أخرجت الإخوان المسلمين من السلطة. وحين باتت حكومة إقليم كردستان تحت التهديد، تحركت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لدعمها.

لكن ما من راعٍ لداعش، مما يصعّب وضعها على الخارطة الجيوسياسية في حرب الشرق الأوسط الباردة الجديدة. والجميع يود أن يلقي اللوم على أي قوى إقليمية أو عظمى بوجود داعش.. ولا يستطيع البعض في العالم العربي تخيّل بروز مجموعة تنجح بهذا الشكل من دون دعم خفي من قوى خارجية أو من دون رؤية يد الولايات المتحدة و/أو إسرائيل خلفها. ونظراً إلى ميل داعش الأيديولوجي الإسلامي السلفي، تُتهَم المملكة العربية السعودية بكونها الراعي لها، إن لم يكن ذلك بشكل مباشر فبطريقة ما. وحاول البعض إلقاء اللوم بوجود داعش على قطر أو تركيا.

في الواقع ليس أي من هذه النظريات صحيح بالكامل. لا شك في أن داعش حصلت على الدعم من أفراد في المملكة العربية السعودية ودول الخليج على مستوى المتطوعين والمساهمات المالية. وقد دفعت الحكومتان السعودية والقطرية الكثير من الأموال للمعارضة السورية، ومن الممكن أن يكون قسم من هذا المال قد وصل إلى يد داعش. لكن ما من إثبات على دعم الحكومة السعودية أو القطرية المباشر للتنظيم. وبفتح الحدود أمام المعارضة السورية، سمحت تركيا لكافة المجموعات بأن تنظم وتُنشىء خطوط تزويد، إلا أن أحداً لم يتمكن من النجاح كما فعلت داعش.

لم تبرز داعش بالقوة التي هي عليها الآن بسبب وجود حكومة ما خلفها. فقد باتت تؤمن تمويلها الذاتي بشكل كبير وتحقق العائدات من عمليات السلب والابتزاز وتقديم الحماية والسيطرة على الطرق التجارية وعلى الأصول المربحة، كمحطات تكرير النفط، محطات الوقود. تجند داعش مجموعات كبيرة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والعالم، فيما يساعد نجاحها بجذب الجهاديين والمتعاطفين للانضمام إليها. وهي تتميز بتنظيم وانضباط فائقين. ومن أهم نقاط قوتها الدعائية هو أنها ليست عميلاً لأي قوة أجنبية. في الواقع، يمكنها أن تقدم نفسها للسوريين والعراقيين السنة الذين تحكمهم وتعتمد عليهم للدعم (بالتعاون الفاعل أو القبول السلبي) كحارس لمصالحهم ضد الحكومات الطائفية في دمشق وبغداد.

ومع أن استقلالية داعش هي نقطة قوة إلا أنها أيضاً مكمن ضعف. فهي تتمتع بقدرة فريدة على توحيد معظم اللاعبين في حرب الشرق الأوسط الباردة الجديدة ضدها. فإيران وحلفاؤها يكرهونها بسبب أيديولوجيتها المعادية جدّاً للشيعة. أما السعوديون، فيخافون منها لأنها تهديد محلي محتمل إذ تحول السلفية إلى أيديولوجية سياسية ثورية بوجه الحصن المنيع الموالي للنظام في المملكة العربية السعودية. وتركيا والأكراد والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا كلها ستفشل إذا انتصرت داعش. وقد أدت نجاحاتها مؤخراً إلى تردد الإدارة الأمريكية بإعادة إدخال الجيش إلى العراق، وجعلت الإيرانيين يتراجعون عن دعم نوري المالكي لرئاسة الحكومة في العراق. ويجد كل من واشنطن وطهران وبغداد وأربيل وأنقرة ودمشق والرياض أمام مصالح متوازية إن لم تكن متطابقة بالتعامل مع داعش. وفي النهاية، إنّ مهارة التنظيم، التي لا شك فيها، في خلق الأعداء ستتجلى ليس فقط بين القوى الخارجية فحسب، بل أيضاً بين الأشخاص الذين تدعي حمايتهم.

إلا أن الحفاظ على هذا التحالف المؤقت ضد داعش سيتطلب عملاً. وبما أنّ اللاعبين الإقليميين منغمسون في حرب باردة فيما بينهم، سيكونون عرضة لانتقال تركيزهم من داعش، إذا عانت من النكسات، إلى خصوماتهم المتبادلة. وصحيح أن للقوة العسكرية الجوية الأمريكية والعمل الاستخباراتي دوراً ضد داعش، إلا أن الأهم بالنسبة لواشنطن هو المحافظة على التحالف المناسب ضد داعش مستمراً. مما يعني الالتزام مع حلفاء الولايات المتحدة، كتركيا والمملكة العربية السعودية والحكومة الكردية في أربيل، للاستمرار في فرض الضغط على داعش. ومما يعني أيضاً الدعم والضغط على الحكومة المركزية العراقية لدفعها إلى التعاون. ويعني ذلك الإقرار بمصالحنا التي تلتقي بالمصالح الإيرانية في هذا السياق. وليس أي من هذه المهام سهلاً، إلا أنه أسهل من الاضطرار إلى التعاون مع دولة جهادية قوية في قلب الشرق الأوسط.