Commentary

Op-ed

البداية في مصر: الموجة الرابعة من الديمقراطية؟

إذا كان النصف الأخير من القرن العشرين هو وقت الحاكم في السياسات العربية، وإذا كان العقد الأول من القرن الحادي والعشرين هو وقت التطرف، فنحن نشهد الآن – إذا ما استعرنا جملة من أقوال اللورد الراحل رالف داريندورف – وقت المواطن. لقد اجتاحت ثلاث موجات من الديمقراطية العالم في التاريخ الحديث، كما قيل، كما أن كل منها قد تجاوز العالم العربي بأكمله. ومع الانهيار المفاجئ للاستبداد في تونس وترنح نظام حسني مبارك، قد تظهر موجة رابعة من الديمقراطية يكون مركزها العالم العربي.

إن ما يستحق التأمل هنا هو الشكل الذي ستبدو عليه هذه الموجة الرابعة من الديمقراطية، وهذا بالاعتماد على ما حدث منذ عقدين سابقين في الكتلة الشرقية السابقة:

أولاً، من غير المحتمل أن تسقط الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي جميعًا بسرعة مثل قطع الدومينو كما شهدنا في أوروبا الشرقية. ومما لا شك فيه أن الحركات الاحتجاجية سوف تظهر في البلاد العربية الأخرى، ومن ثم قد تسقط نظم أخرى. بيد أنه من الأرجح أن تستمر العديد من الحكومات العربية الاستبدادية معنا لفترة أطول. لقد تم دعم الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية بشكل مصطنع عن طريق القوة العسكرية السوفييتية. وعندما أصبح من الواضح أن جورباتشوف لم يكن راغبًا في التدخل لفترة أطول في شؤونها الداخلية، انهارت هذه الأنظمة بسرعة في مواجهة الاحتجاجات الشعبية. لقد مثل كل من النفط والغاز الطبيعي الدعائم التي كانت تدعم عددًا من الأنظمة العربية (على الرغم من أن هذه الدعائم كانت متمثلة في المساعدات الأميركية لدى كل من مصر والأردن)، كما أن هذه الموارد الطبيعية والثروات التي نتجت عنها لم يكن من المحتمل أن تختفي في وقت قريب. علاوة على ما سبق، على الرغم من تشارك دول العالم العربي في اللغة والتاريخ والعديد من السمات الثقافية الأخرى، فإنها تختلف بشكل مهم في طبيعة أنظمتها، وفي المدى الذي انفتحت من خلاله في الماضي على العالم الخارجي وفي مستوى تعليم مواطنيها وفي قوة مؤسساتها المدنية. إن ما حدث في الأسابيع الأخيرة في مصر، وهي الدولة العربية الأكثر شهرة، سوف يشجع المواطنين العاديين في هذه المنطقة على أن تُسمع أصواتهم، مع الوضع في الاعتبار طبعًا اختلاف النتائج التي قد تنتج عن هذا الأمر نظرًا للاختلافات التي ذكرناها للتو.

ثانيًا، سوف يأتي التغيير السياسي في أشكال عدة، ولن يظهر في مجرد احتجاجات في الشوارع. إن الأحداث التي شهدناها في الأسابيع الأخيرة قد أعطت إنذارًا للقادة العرب. بمعنى آخر، سوف يتخذ العديد منهم الآن خطوات لمنع أي احتمال بوقوع اضطرابات سياسية. وقد رأينا ذلك بالفعل في الأردن؛ حيث أعلن الملك عبد الله تعيين حكومة جديدة في محاولة منه للسيطرة على الاحتجاجات المتزايدة في بلاده. من المرجح أن يكون بعض هذه التغييرات حقيقيًا، وذلك في استجابة لقوة التغيير الديناميكية التي تسود المنطقة. على الجانب الآخر، قد يكون البعض الآخر من هذه التغييرات تجميليًا (كما رأينا في العديد من الدول التي خلفت الاتحاد السوفيتي السابق)؛ أي إنها عبارة عن تغييرات تهدف لصرف الانتباه أو لمجرد كسب الوقت أملاً في تبدد الحمى العامة التي تدعو للتغيير في النهاية.

ثالثًا، إن التغيير السياسي لا يعني دائمًا تحقيق الديمقراطية. وقد بررت إدارة أوباما قلقها إزاء الانهيار السريع للسلطة في كل من تونس ومصر. ومن المرجح أن يكون الطريق طويلاً ومحفوفًا بالمخاطر نتيجة للثغرات السياسية التي شهدناها في الأسابيع الأخيرة للديمقراطية الحقيقية. كذلك، سيتطلب الأمر تشكيل الحكومات الانتقالية وإعادة صياغة الدساتير وإجراء الانتخابات الحرة والنزيهة وتأسيس المؤسسات السياسية الديمقراطية الجديدة. بيد أن هذه المؤسسات الجديدة سوف تكون مجرد حبر على ورق إذا لم تستمر الجماهير في العمل بشكل بنّاء لضمان عمل تلك المؤسسات وفقًا لإرادة الشعب. وكما أظهرت التجربة في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي السابق، سيكون هناك العديد من الفرص خلال هذه العملية الانتقالية الممتدة لمشاركة الدخلاء من النظام السابق والمتطرفين والانتهازيين السياسيين وحتى العناصر الإجرامية في القيام باستمالة هذه الثورات الشعبية لتحقيق أغراضها الخاصة. ومن بين 28 بلدًا من الاتحاد السوفيتي السابق، لم يتم تصنيف سوى 13 بلدًا فقط كبلاد “حرة” من قبل بيت الحرية (فريدوم هاوس)، بينما تم تصنيف 8 منها على أنها بلاد “حرة جزئيًا”. ومثلما هو الحال مع الكتلة الشرقية السابقة، فإن طبيعة كل مجتمع سوف تمثل أهمية بشكل ملحوظ فيما يختص بالبلاد العربية التي ستنجح في الانتقال إلى الديمقراطية وتلك التي لن تنجح في الانتقال إليها. بوجه عام، من المرجح أن يكون أداء الدول المثقفة التي تتمتع بمجتمعات مترابطة بشكل كبير والمنفتحة نسبيًا على العالم الخارجي أفضل من أداء غيرها من الدول.

رابعًا، من المحتمل أن تدور المعارك السياسية القادمة في هذه المجتمعات بشكل أكبر حول قضايا الرزق أكثر من تعلقها بالأيديولوجية. ولكن على النقيض مما حدث في الكتلة الشرقية السابقة، من المحتمل أن يكون دور الدين هو القضية الأكثر ضراوة. إن الشيء الذي أثار الانتباه أكثر في الاحتجاجات التي حدثت في كل من تونس ومصر هو طابعها غير الأيديولوجي. فقد كان للمحتجين مطالب بسيطة للغاية متركزة على إنهاء الديكتاتورية والفساد الذي نتج عنها وتحسين الحقوق الأساسية ومستويات المعيشة المادية. وإلى حد ما، فقد اقتربت صرخاتهم من الأيديولوجية، لقد كانت تدعو إلى قدر أكبر من الحرية والديمقراطية – وليس الإسلام – مع الدعوة إلى محاولة التوصل لوسيلة للخروج من المشكلات الحالية. لسنوات عدة، طرح العديد من المعلقين الغربيين، بغير عدل في كثير من الأحيان، السؤال التالي: أين هم المعتدلون؟ حسنًا ،ها هم المعتدلون يسيرون في مسيرة سلمية وبأعداد كبيرة تزيد عن أية أعداد أخرى شهدها العالم العربي. في مصر، تأخر الإخوان المسلمون في المشاركة في هذه المسيرة السلمية، فقد انضموا بأعداد كبيرة للمظاهرات في اليوم الخامس من الاحتجاجات. والأهم من ذلك أنها لم تسعى للسيطرة على الاحتجاجات بأكملها. مع ذلك، هناك احتمال بأن يكون هناك نزاعات ساخنة آتية حول الدور الصحيح للدين في الحياة العامة، وهو الموضوع الذي لم يتم التوصل لحل له بعد في العالم العربي. بوجه عام، من الأفضل أن يتم شن هذه المعركة على نحو سلمي، وفي إطار المؤسسات الديمقراطية، عن أن يتم شنها بشكل عنيف في الشوارع.

خامسًا، من الممكن أن يأتي انهيار الأنظمة الاستبدادية في كل من تونس ومصر بنتائج جيدة في التحول الأساسي في الجغرافيا السياسية، وقد تكون تلك النتائج مقاربة لما حدث من إعادة تخطيط بسبب سقوط جدار برلين وهجمات الحادي عشر من سبتمبر. لقد توصلنا بالفعل إلى توقع مبدئي لهذا التحول من خلال التغطية الإعلامية العالمية في الأسابيع الأخيرة – بدءًا من تغطية الهجمات الانتحارية من قبل المتطرفين في أفغانستان وباكستان ووصولاً إلى تغطية احتجاجات المواطنين العاديين في كل من تونس ومصر. ومستقبلاً، من المرجح أن يتم استهلاك كل من طاقة وانتباه الولايات المتحدة والقوى الكبرى في التغيير السياسي الذي يحدث في الشرق الأوسط. فسوف يجدون أنفسهم يسعون جاهدين لمواكبة الآمال العالية للجماهير العربية الحديثة – متملقين القادة السياسيين الموجودين للوصول إلى الطليعة من خلال تطبيق عمليات إصلاح ذات مغزى وإدارة عمليات التحول السياسية السلمية ومساعدة المؤسسات السياسية الديمقراطية، والأهم من ذلك كله، السعي وراء ضمان الاستقرار نظرًا لأن المواطنين يطالبون بصخب بأنظمة لا تستمد شرعيتها من القوة بل من إرادة الشعب.

وأخيرًا، من المحتمل أن تنتشر الموجة الرابعة من الديمقراطية خارج العالم العربي. ومن الممكن أن نتصور أن المشاهد الخاصة بكل من تونس والقاهرة سوف تكون بمثابة الشعار أو الحدث الملهم الذي سيعيد تحفيز الحركة الخضراء في إيران. ومن الممكن أن تعتبر هذه الأحداث أيضًا مصدر إلهام للمعارضين الصينيين؛ حيث يمكن أن تدفعهم لتحدي قوة الاحتكار السياسي للحزب الشيوعي. ومع قرب قدوم الانتخابات الرئاسية في روسيا بحلول عام 2012، من الممكن أن يكون للديمقراطية فرصة في الظهور هناك أيضًا.

إن ذلك سوف يكون من الأمور المثيرة للاهتمام، والمحفوفة بالمخاطر أيضًا، في الأيام المقبلة.

ستيفن جراند هو زميل ومدير مشروع علاقات الولايات المتحدة مع العالم الإسلامي، وهو القائم في مركز سابان لسياسة الشرق الأوسط في بروكنجز.