Commentary

طريق بوتين من دمشق: ماذا بعد “النصر”؟

FILE PHOTO: Russian President Vladimir Putin addresses servicemen as he visits the Hmeymim air base in Latakia Province, Syria December 11, 2017. Sputnik/Mikhail Klimentyev/Sputnik via REUTERS ATTENTION EDITORS - THIS IMAGE WAS PROVIDED BY A THIRD PARTY/File Photo - RC13F85C4140

في العام 2018 دخلت الحرب الأهلية في سوريا عامها السابع، مخلّفةً حوالي 400,000 قتيل وأكثر من 12 مليون نازح. وعلى الرغم من الهزيمة العسكرية لما يُسمّى بالدولة الإسلامية في الرقة، إلا أنّ البلاد لا تديرها أي جهة، ويكاد الأمل يكون ضئيلاً في أن تنتهي المأساة قريباً.

ولذلك، بدا إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين النصر الروسي في سوريا الشهر الماضي إلى حدّ ما غير مناسب، علماً أنّ روسيا لم تحقق الحد الأدنى من “النصر” في ضمان بقاء نظام بشار الأسد. وقد أمر بوتين بانسحاب الجزء الرئيسي من الوجود العسكري الروسي، وأفاد وزير الدفاع سيرجي شويجو أنّ 38 طائرة وبعض وحدات الدعم قد عادت إلى روسيا. والجدير بالذكر أنّ هذا يشكّل أقل من نصف مجموع القوات الروسية في سوريا، من دون الأخذ في الحسبان عدد المستشارين الخاصين. هذا ويتطلّب التوسع المخطط للقواعد الجوية والبحرية الروسية مزيداً من القوات لإبقائها آمنة، ومن الضروري زيادة عدد المستشارين الروس إذا كان الجيش السوري يهدف إلى شن هجمات جديدة، على سبيل المثال ضد مدينة إدلب.

وتبقى روسيا عالقة في الفخ السوري وسيتلاشى نجاحها المتصور تدريجياً ليتحوّل في أحسن الأحوال إلى طريق مسدود. في غضون ذلك، تبدو الخيارات السيئة كثيرة وأسوأ السيناريوهات هو السقوط المفاجئ لنظام الأسد الذي لا يبدو بعيد المنال.

الترويج للنصر كان فاشلاً

وتأتي تصريحات بوتين المتكررة بالانتصار في سوريا لتكذّب الوقائع على أرض الواقع، كما أنها لم تثر إعجاب جمهوره المحلي ولا القادة في أنقرة وطهران. وكان بوتين قد أعلن انتصار القوات الروسية في سوريا في 22 نوفمبر في خلال لقائه ببشار الأسد في سوتشي، وفي 6 ديسمبر عند إعلانه الذي طال انتظاره حول مشاركته في الانتخابات الرئاسية التي ستُجرى في مارس، وكذلك في 11 ديسمبر في خلال زيارته لقاعدة حميميم الجوية وإعلانه دعم الأسد مرة أخرى.

وبعد زيارة بوتين إلى سوريا في ديسمبر الماضي، واصلت القاذفات الروسية شن ضربات جوية، وعلى الأخص من ارتفاعات عالية، وما زالت تقصف المناطق التي يسيطر عليها المتمردون. في الواقع، وقع أحد أخطر حوادث الحرب بين مقاتلات روسية وأمريكية في وادي نهر الفرات الأوسط في 13 ديسمبر.

أما المواطن الروسي العادي، فما يعنيه بالدرجة الأولى هو تراجع الدخل وتفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية في البلاد. وفي المؤتمر الصحفي السنوي الذي أقامه بوتين في 14 ديسمبر والذي شاهده كثيرون، لم يذكر الرئيس الروسي سوريا إلا مرّة واحدة.

وبالنسبة للرئيسين رجب طيب أردوغان وحسن روحاني، لم يكن لإعلان بوتن النصر في سوريا الشهر الماضي أي مبرر: فمن وجهة نظر الرئيس أردوغان، تحقيق النصر يعني هزيمة وحدات حماية الشعب الكردية؛ أما من وجهة نظر الرئيس روحاني، فالنصر لا يتحقق إلا مع الانسحاب الكامل للقوات الأمريكية من سوريا. والاثنتان لم تتحققا بعد.

توقيت محيّر

لماذا قام بذلك إذاً؟

من المحتمل أنّ بوتين أراد ببساطة أن يسبق الآخرين إلى إعلان الفوز، وإن كان فوزاً مبهماً. أقيم في بغداد استعراضاً عسكرياً في 10 ديسمبر احتفالاً بهزيمة داعش عسكرياً في العراق؛ في غضون ذلك، كانت إدارة الرئيس ترامب تضع لمساتها الأخيرة على استراتيجيتها الأولى للأمن القومي، وتوقّع الكرملين منها أن تعلن “اتمام المهمة” في كلٍ من سوريا والعراق. وبالفعل تم محو دولة الخلافة المزعومة من خريطة هذه البلدان وعادت المدن الكبيرة كافةً – بما في ذلك حلب التي تعرضت لقصفٍ عنيف – إلى سيطرة قوات الأسد، وبالتالي ما كان بوتين ليجد توقيتاً أفضل من ذلك لإعلان النصر.

ولكن تعيّن على أصحاب المصلحة الذين صدّقوا إعلان بوتين المستعجل نسيان أهدافه المتعلقة بسوريا في المقام الأول. فهزيمة داعش لم تكن يوماً الهدف الأهم الذي من أجله خاطرت روسيا وتدخّلت؛ إنما كان إثبات المدى البعيد للاستراتيجية الروسية للولايات المتحدة من خلال ضمان بقاء نظام الأسد والسيطرة على كامل الأراضي السورية. وفي حين تحقّق الهدف الأول، رغم أنه قد يكون قد تحقق بشكلٍ مؤقت، إلا أنّ الهدف الثاني لا يزال بعيد المنال: فأجزاء كبيرة من الأرض السورية تخضع لسيطرة الأكراد ، ويسيطر متمردون من خلفيات سياسية مختلفة على محافظة إدلب، أما”منطقة خفض التصعيد” في جنوبي درعا فهي بمأمن عن القوات الحكومية (الأمر الذي خيّب ظن القيادة العليا الروسية، ودفعها للاستمرار في اتهام واشنطن بإعادة تنظيم بقايا داعش وتسليحها، مقدمةً كدليل على ذلك مقاطع مصورة لألعاب فيديو).

علاوةً على ذلك، تصوّر الكرملين أنّ التدخل سيجعل من سوريا حصناً في وجه المد الثوري الذي بدأ ينحسر في العالم العربي ولكن من المحتمل أن يظهر مجدداً بشكلٍ غير متوقّع في إيران. إنّ دور البطل في القضية المناهضة للثورة ينحصر حالياً بهذا الحد.

الموضوع الإيراني المثير للجدل

تحضيراً للاحتفالات الباهتة بعودة قواتها العسكرية، تشعر وزارة الدفاع الروسية بالقلق إزاء نتائج الانسحاب الجزئي، مما يزيد من ضعف القوات المتبقية في أرض المعركة. أياً كانت النوايا والأهداف، تُعد الميليشيات الشيعية التي تتلقى تدريباً إيرانياً ضماناً لإحكام قبضة الأسد على السلطة أكثر أهمية من الجيش السوري المدعوم من روسيا. وقد يكون قرار الأسد باستبدال وزير الدفاع دليلاً على تبديل التوجه ذاك. والثكنات العسكرية الروسية في قاعدتي حميميم وطرطوس هي رهن، بالنية الحسنة، لتلك الميليشيات، التي تشبه على نحوٍ متزايد الحرس الثوري الإيراني سيء السمعة.

يتعارض توسّع النفوذ الإيراني في سوريا مع الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، رغم كونها غير واضحة وغير مترابطة. وتسعى موسكو لتكون مفيدة لتحركات ترامب المحتملة، ولكن أيضاً لطمأنة طهران بتمسّكها بالمسار المشترك. وتعيّن على وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف استخدام كل ما لديه من موارد الرياء في محاولته توضيح بُعدَ القوات الإيرانية عن الوعد الذي مُنح لواشنطن لتشجيع على “التخلص من القوات غير السورية داخل وخارج منطقة خفض التصعيد” الواقعة على مقربة من هضبة الجولان. وهذا الغموض غير مقبول البتة من الجانب الإسرائيلي الذي زاد الغارات الجوية على الأهداف الإيرانية في سوريا. وقد توقّفت موسكو عن إصدار الاحتجاجات ضد تلك الغارات، في ظل سعي بوتين إلى تحسين العلاقات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو.

وقد شكّلت قدرة بوتين واستعداده على التفاوض مع مختلف أطراف الصراعات في الشرق الأوسط – بدءاً من حركة حماس مروراً بالأكراد في سوريا والعائلة المالكة السعودية ووصولاً إلى القادة العسكريين في ليبيا – ميزةً مهمةً لسياسته الشخصية في المنطقة. كان من المفترض أن يقوّي التدخل في سوريا تلك العلاقات، وأن يمنح موسكو مكانة إقليمية بارزة لتقديم مصالحها. ولكن الآن، تعين عليها أن تقرّر ما إذا كان التآخي في السلاح مع إيران يتماشي مع هذه المصالح وكيف يخدمها. إنّ الحيلة المعتادة بالتوجّه إلى كلّ طرف في الحوار بما يود سماعه لن تساعد على اتخاذ هذا القرار.

نقص الموارد يقتل أفصل المكائد

من الطبيعي جداً أن يكون بوتين لا يملك خطة عملية للخروج من الفوضى المعقدة العنيفة في سوريا ولتقديم ترتيب فعّال. وربما كان يملك بداية خطة أوّلية لترويض بعض المجموعات المعارضة. ولكن فكرته للتأكيد على صلاحية إعلان “النصر” في مجلس شعب سوري قادمٍ في سوتشي، قد فشلت فشلاً تاماً، وبالتالي، فإنّ الموعد الجديد في فبراير يبدو غير أكيد. إنّ توحيد ائتلاف المترددين مع تركيا وإيران مهمّةٌ صعبة على نحوٍ تدريجي، لا سيما وأنّ أنقرة وطهران تتشكّكان في نوايا موسكو الحقيقية في ما يتعلق بالأكراد وإسرائيل، على التوالي – ولا يمكن لبوتين أن يتملق لهما لتبديد شكوكهما.

قد يزيد الانسحاب الجزئي للجنود من سوريا مرونة روسيا في إسقاط القوة العسكرية في المنطقة، وهو ما أصبح أداة مفضّلة في أسلوبه لصناعة السياسة. وغالباً ما يشير المراقبون القلقون إلى ليبيا كالهدف التالي، ويضيف الاتفاق الأخير مع مصر بشأن دخول القوات الجوية الروسية إلى القواعد الجوية المصرية مصداقية لهذه التوقعات. لكن البحرية الروسية مرهقة جداً من المهمات الداعمة للتدخل في سوريا، ووضعها لا يسمح لها بالانخراط في أي التزام آخر. إنّ خيار إنشاء قاعدة بحرية روسية في بنغازي غير واقعي، حتى خطة توسيع قاعدة طرطوس، التي تتمتع حالياً بقوة القانون، قد تكون مكلفةً جداً.

والملفت في نشاط بوتين الدبلوماسي المفرط مؤخراً هو أنّ المكيدة السورية لا علاقة لها باهتمام روسيا الكبير بالهيدروكربون في الشرق الأوسط. بالتأكيد، تم مؤخراً تمديد اتفاقية الكارتل مع أوبك بشأن حصص انتاج الغاز حتى نهاية العام 2018، حتى وإن كان التأثير على مسار سعر الغاز غير مؤكّد. وربما وجد بوتين أنه من الأسهل إتمام هذه الاتفاقات بدلاً من الخروج منها، ولا يمكن لتقاربه من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أن يساعد على حلّ هذه المعضلة. ولكن، ما هو واضحٌ هو أنّ الشراكة المدروسة مع إيران والاعتماد المتزايد عليها – التي نتجت عن التدخل في سوريا – ليست مفيدة على الإطلاق لتطوير العلاقة مع السعودية.

في نهاية المطاف، ستقوّض قاعدة روسيا الاقتصادية الضعيفة طموحها السياسي في الشرق الأوسط. يمكن للمسؤولين الروسيين التباهي بالفرص التجارية المربحة في سوريا، ولكن في الحقيقة، تعجز موسكو عن تحمل عبء الاستثمارات في عملية البناء بعد الحرب. لقد قدّمت روسيا لتركيا اعتماداً مهماً على الصعيد الجيوسياسي لإتمام شراء منظومة صواريخ إس – 400 أرض جو بعد عناء، إلا أنّه ليس بمقدورها اتباع النمط السوفيتي في تقديم الأسلحة للدكتاتوريين الأصدقاء بشكلٍ مجاني. حتى الاتفاق الذي جرى الحديث عنه كثيراً لتصدير طائرات هليكوبتر وصواريخ إلى مصر ليس إلا اتفاقاً مبدئياً، والوعد بتحمّل كلفة أي استخدام محتمل لقواعدها الجوية لم يعطَ إلا بعد تفاوض.

وتتطلب أي جهود جدية لإرساء السلام في الشرق الأوسط الالتزام بالموارد، وغالباً ما تعلن روسيا استعدادها – ثم تلجأ إلى التهرب الدبلوماسي فقط لتجد نفسها مهمَّشة. ولا يمكن لروسيا إلّا أن تلعب بالجانب العسكري للسياسة، طالما أنّ الصراع لا يزال قائماً، صراع متوفر بالتأكيد وجزءٌ منه – كالحرب في اليمن – يبقى خارج المدى الروسي المحدود. لا يمكن للمزاعم السياسية بتأدية دور مؤيد الاستقرار وصانع السلام أن تموّه بشكلٍ مقنع الحاجة إلى ضمان مكانة المستفيد الرئيسي من حالة عدم الاستقرار. وقد يسعى بوتين إلى الحدّ من التعرّض للمخاطر السورية، وقد يرغب على الأرجح نسج مكائد مسلّحة أخرى، ويهدف بالتأكيد إلى حصد بعض المكاسب المادية – إلا أنه لا يملك سياسة قابلة للتنفيذ لتحقيق هذه الرغبات المتفكّكة.