Commentary

قطع السيولة عن داعش

تُعتبر داعش “المنظمة الإرهابية الأفضل تمويلاً بين المنظمات التي سبق لنا أن واجهنا”، ولكن “نحن لا نملك حلاً، أو سلاحاً سرياً يُمكنّنا من تفريغ صناديق داعش [من ثرواتها] بين ليلة وضحاها”. هذا ما قاله ديفيد كوهين، وكيل وزارة الخزانة لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية، في خطاب ألقاه بالأمس أشار فيه إلى تقييم الحكومة الأمريكية لوضع داعش المالي وإلى الاستراتيجية اللازمة لمواجهته.

وفقاً لما صرّح به كوهين، فإن مصدر تمويل داعش الرئيسي لا يزال نابعاً من سيطرتها على النفط وبيعه ، إذ يؤمّن للتنظيم، حسب تقديره، مليون دولار يوميا. ويأتي المزيد من الأموال عن طريق طلب فدية مقابل الرهائن الذين تختطفهم داعش، وشبكات ابتزاز الأموال، والأعمال الإجرامية، والتبرعات من أفراد خارجيين، علماً أن المصدر الأخير يُعتبر الأقل أهمية من حيث حجم الأموال. ومن أجل مواجهة مصادر الأموال هذه، شرح كوهين أن الاستراتيجية الأمريكية تركّز على تعطيل مصادر دخل داعش، ومنعها من الوصول إلى النظام المالي العالمي، بالإضافة إلى فرض العقوبات على قادة التنظيم وكلّ من يسهل أعماله ويدعمه.

رغم الاستخفاف الشديد بقدرة داعش في الأشهر والسنوات التي سبقت الاعتداءات التي نفذتها في العام 2014 في سوريا والعراق، إلا أن تقييم وزارة الخزينة، لا بل الحكومة بأكملها، لوضع داعش المالي وللطريقة الفضلى لمحاربته يبدو على صواب إلى حدّ كبير. صحيح بالفعل أن الهبات المالية الخارجية لا تعني كثيراً بالنسبة لداعش. منذ العام 2005، سعى كل من تنظيم القاعدة في العراق (سلف تنظيم داعش)، ومجلس شورى المجاهدين، ودولة العراق الإسلامية باستمرار إلى تطوير هياكل داخلية مكرّسة للحفاظ على الاكتفاء الذاتي المالي والاستقلال عن الجهات المانحة من الخارج والتي تكون عرضةً للهجوم. لكن، في ظلّ المناخ الراهن، إن تراجع قدرة التنظيم على كسب المال من بيع النفط قد يزيد من أهمية الموارد الخارجية لتمويل داعش وذلك لتتمكن من المحافظة على استمراريتها الداخلية

مانحو داعش في الخارج

لهذا السبب، بات من المهم جداً التركيز حالياً على الجهات المانحة في الخارج– لا سيما في الخليج –وذلك بهدف التقليل من قدرتهم على التوسع حين تبرز الحاجة إلى ذلك. وكما وضّح كوهين، يبدو أن المبادرات في السعودية والإمارات العربية قد حققت بعض التقدم، أما في الكويت وقطر، فأشار أنه رغم أن التشريعات الجديدة هدفت إلى مكافحة تمويل الإرهاب ، إلا أنّ السلطات القضائية في هاتين الدولتين لا تزال “متساهلة” مع هذا النوع من الأنشطة وأن “لدى كل منهما المزيد من العمل للقيام به”. في هذه المرحلة، من غير الواضح ما إذا كانت التشريعات الجديدة، التي قدمتها قطر في منتصف سبتمبر والكويت في يناير، –بطيئة لإحداث أي تأثير أو هي ببساطة ضعيفة أو غير قادر كما يجب أن تكون. أياً كان الوضع، من الواضح أن على قطر والكويت القيام بالمزيد من أجل تطبيق قوانينهما.

ليس لأي دولة خليجية مصلحة في تسهيل تمويل الإرهاب أو غض الطرف عنه، لاسيما وأنّ المستفيدين من هذه الأموال هم علنياً أعداءٌ لهذه الدول. في الحقيقة، وصفت داعش مراراً وتكراراً قطر ووزارة خارجيتها على نحوٍ خاص كجهات كافرة نظراً لدورها في تأمين المساعدات الإنسانية من خلال مجموعات الجبهة الإسلامية في شمال سوريا – وهي هيئة تسميها داعش بالصحوة – في إشارةٍ إلى الميليشيات العشائرية التي انتفضت ضدّ دولة العراق الإسلامية في منتصف إلى أواخر العقد الماضي.

يشكل الابتزاز وأنظمة الضرائب غير المشروعة أيضاً مصدراً مهماً تحصل منه داعش على العائدات المالية، ومن المحتمل أن يكون واحداً من أكثر المصادر استمرارية. قبل السيطرة على الموصل، كانت داعش تكسب 12 مليون دولار شهرياً من هذه المدينة لوحدها. حالياً، يتكرر الأمر، وإن كان بطريقة منظّمة أكثر، في الأراضي التي تسيطر عليها داعش وضمنياً في مناطق أخرى تخضع جزئياً لسيطرتها. ولكن، من الضروري الاعتراف بأن عمليات “الابتزاز” وجمع الضرائب لا تُنفذ دائماً وحصرياً لمصلحة داعش. فعلى سبيل المثال، فرضت داعش نظاماً متطوراً للضرائب على طريق عمان-بغداد الدولي يحلّ محل الضرائب التي تفرضها الحكومة على الاستيراد من خلال فرض مبالغ أقل على نقل السلع إلى داخل العاصمة العراقية. كذلك، تسيطر العشائر السنية بشكل أساسي على نقل البضائع بالشاحنات عبر غرب العراق، وبالتالي، من خلال فرض ضرائب أقل تكسب داعش عائدات ثابتة إلا أنها تقدم لضامنيها من أفراد العشائر فرصة لزيادة أرباحهم. وهناك أنظمة مماثلة تُطبّق في مناطق أخرى من غربي العراق وشرقي سوريا، مع تشديد متزايد على هذا التركيز المزدوج على كسب المال بينما يحافظون على عمليات الشراء بالجملة من العشائر التي تعتمد داعش عليها وجودياً لتأمين استمراريتها على الصعيد الاجتماعي.

إن استدامة عمليات الابتزاز وفرض الضرائب التي تقوم بها داعش تُصعّب عملية مكافحة تمويل الإرهاب. وكما أكد كوهين، فإن القضاء على هذا المصدر لعائدات داعش يعني تقويض سيطرتها على الأرض. إلا أن الأمر لن يحصل بهذه البساطة من دون قوات محلية قادرة فعلياً على متابعة غارات التحالف. لا تزال وحدات الجيش العراقي تخسر وتتراجع بفعل هجمات داعش في محافظة الأنبار، في حين وعلى نحو ملحوظ ،لا يزال المتمردون المدعومون من قبل الولايات المتحدة يشتكون من غياب التنسيق مع قوات التحالف.

عائدات داعش النفطية

يُعتبر تعطيل عائدات داعش النفطية تحدياً أكبر مما قد نتصور. وبالتالي، تمّ التركيز بشدة على تقييم خاطئ يفيد بأن داعش تعتمد بشدة على بيع نفطها إلى عملاء أجانب (في تركيا، كردستان العراق، الأردن ومناطق أخرى). ولكن، في حين أنّ هذا التركيز على السوق موجود بالفعل، إلا أنه بدأ يتراجع. منذ الصيف الماضي، ركّزت داعش على نحوٍ متزايد على إنشاء سوق داخلي مستدام لنفطها، مما يساعدها على تأمين مصدرٍ موثوق للوقود لآلياتها وكذلك وبشكلٍ مهمٍ على خلق حالة من الاعتماد بين المدنيين وقدرتها على تأمين نفط بأسعارٍ رخيصة. في هذا الصدد، إنّ الغارات الأخيرة التي شنّتها قوات التحالف والتي استهدفت منابع النفط– بدلاً من وسائل نقله أو نقاط بيعه على سبيل المثال – قد تكون مضرّة بشكل كبير بالجهود التي يبذلها المجتمع الدولي لمواجهة داعش.

في مناقشات جرت مؤخراً مع حوالي 24 مجموعة مسلّحة في سوريا، تمت الإشارة إلى هذا الأمر بوصفه خطأً فادحاً في هدف الضربات (ناهيك عن الإحباط الموجود ضمن صفوف المعارضة في ما يتعلق بالضربات). أسابيع قليلة تفصلنا عن بداية فصل الشتاء وسيسجل نقص في الوقود الضروري للمولدات والمخابز وغير ذلك من المنشآت المحلية، وهذا أقل ما يُقال – داخل الأراضي التابعة لداعش وخارجها. لو لم تكن داعش قادرة على نقل النفط إلى المدنيين، كانت ستضطر إلى أن تتحمل المسؤولية، ولكن بعد الدمار الذي لحق بآبار النفط والمصافي المؤقتة، سيحاول التنظيم إلقاء اللوم على ” الصليبيين” (وقد ينجح في ذلك). وفي هذا الصدد، قال أحد القادة المتمردين البارزين حرفياً: “لقد قدمتم لهم هدية حقيقية”.

في حين لطالما ركزت داعش على الاكتفاء الذاتي والاستقلالية المالية، تأسست القاعدة على نموذج مختلف، بينما تجد المجموعات التابعة الإقليمية نفسها ضمن بنية غير مركزية يجمعها جزئياً مانحين فرديين وشبكات مالية. لا تختلف جبهة النصرة، المجموعة التابعة للقاعدة في سوريا، كثيراً عن هذا الواقع، لا سيما وأن مصدر عائداتها الرئيس يتمثل في المانحين الخارجيين، مع مساهمة الفديات ونظام الضرائب الداخلي البسيط وأنشطة الأسواق السوداء المحلية.

إن بروز التمويل الخارجي – من أفراد (عدد كبير منهم من الخليج) وشبكات تنظيم القاعدة الداخلية حول العالم – يسهّل تحديد هدف مكافحة تمويل الإرهاب. يبدو أن تحديد هويات الأفراد المشتبه بمشاركتهم في تسهيل جمع الأموال ونقلها إلى جبهة النصرة ومعاقبتهم قد وضع الكثير من الملح على الجرح جراء خسارة النصرة لحقول النفط في شمال سوريا لصالح داعش في وقتٍ مبكر من هذا العام. وبينما دفع تراجع مصدر دخل النصرة إلى توسيع عمليات الخطف مقابل فدية، سرّعت النصرة أيضاً عملية تغير داخلي تقوم بموجبه بتقليّص قواتها واعتماد طبيعة تنظيم القاعدة النموذجية بشكلٍ متزايد.

محاربة جبهة النصرة

بحسب ما قاله متمرّدون في إدلب وحماه وحلب، تقوم النصرة حالياً ببيع أسلحتها الثقيلة في شمال سوريا للحصول على ما السيولة التي هي بأشد الحاجة إليها، ولتتحول إلى قوة ذات ردات فعل سريعة وخفيفة أقدر على الاستعداد بسهولة لمعارك أخرى. بدأت قيادة النصرة العليا تفقد طابعها السوري وتأثير قادة تنظيم القاعدة المحنكين يزداد. يحصل المقاتلون الأجانب على الكثير من الاهتمام، بينما تراجع التشديد على الهوية السورية للمجموعة بشكل ملحوظ. في حين عينت النصرة قيادات إقليمية في حلب وحماه وإدلب وحمص والقلمون ودمشق ودرعا (علماً أن الأخيرة تضم القنيطرة)، فإن وجودها في معقلها في إدلب وإلى حدٍ ما في درعا أيضاً يتحول على نحوٍ متزايد إلى وجود ذي طبيعة ذاتية المصلحة وأحادية الجانب.

قد يكون هذا التحول في بنية النصرة الداخلية ووضعها التشغيلي العام جزءاً من تطورها الطبيعي، ولكن يبدو أنه تسارع بفعل تراجع الأموال. بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن بدء ضربات قوات التحالف ضدّ مجموعة “الذئب” المتمركزة خارجياً في حلب قد دعمت هذا التحول المتطرف. وبالتالي وبشكلٍ مثير للسخرية، قد تؤدي تدابير مكافحة الإرهاب إلى عدائية أشد من جانب جبهة النصرة، تفوق ما كان سائداً في السابق.

يُعتبر مكافحة تمويل الإرهاب مجهوداً معقداً ومليئاً بالتحديات. على المدى القصير، يمكن أن تؤدي إلى مجموعة من النتائج الإيجابية والسلبية، ولكن على المدى الطويل، يمكن أن تشل، قدرة المنظمة الإرهابية على العمل والنمو، إن نُقّذت بشكلٍ صحيح،. في هذا الصدد، يُعتبر تنظيما داعش وجبهة النصرة وحشين مختلفين اختلافاً تاماً، لذلك لا بدّ من التعامل معهما من هذا المنطلق.

نظراً لسيطرتها على هذه المساحات الواسعة من الأراضي والموارد، تُعتبر داعش أضعف على المدى الفوري، ولكن لا بدّ أن نأخذ بعين الاعتبار قدرتها على إلقاء اللوم على المجتمع الدولي لانخفاض قدرتها على توفير النفط. رغم المجهود العظيم المطلوب في وقتٍ ضئيل، لا بدّ أن يأتي تأمين كميات كبيرة من وقود الديزل والنفط للمولدات في مناطق المعارضة في شمال سوريا على رأس أولويات السياسة العاجلة. على المدى الطويل، لن يكون إضعاف داعش ممكناً إلا من خلال هجوم قوي تشنه قوات محلية قادرة وتحظى بموارد هامة. في سوريا، حيث تقع عاصمة داعش، يبدو ذلك للأسف بعيد المنال. 

أما بالنسبة لجبهة النصرة، فهي لا تزال تحتفظ بشعبية كبيرة جداً داخل المعارضة. ما زال من الصعب جداً جعل المتمردين سوريين، بمن فيهم ضباط وطنيين علمانيين منشقين، يدينون دور النصرة ضمن المعارضة المسلحة المناهضة لنظام الأسد. إلا أن هذا الواقع يتغيّر قليلاً، وذلك بفضل تطور جبهة النصرة على الصعيد الداخلي. في حال استمر تطبيق الضغط المالي، قد تتسارع عملية العزل التدريجي مع الوقت. 

تبقى هزيمة المنظمات الإرهابية على يد الجهات الخارجية أمراً صعباً للغاية إن لم يكن مستحيلاً. بدلاً من ذلك، تميل هذه المجموعات إلى تدمير نفسها بنفسها في نهاية المطاف. من شأن محاربة مصادر تمويلها أن تسرّع هذه العملية، ولكن فقط حين تتمّ بشكلٍ تدريجي وحين تعتمد على تقييم حقيقي ودقيق للمنظمة وللديناميكيات المحيطة بها – أي السمكة والبحر، على حدّ قول زعيم الحزب الشيوعي الصيني السابق ماو تسي تونغ.