Commentary

هل ستعمل المحادثات النووية مع إيران على خلق أزمة في العلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية؟

أدت التلميحات عن تحسّن العلاقات بين إيران والولايات المتحدة، وهي مجرد تلميحات ليس إلا، إلى ردود فعل مثيرة للاهتمام (كي لا نستخدم عبارة أقسى) من قبل المملكة العربية السعودية. للمرة الأولى، تخلت الحكومة السعودية عن فرصتها السنوية لتقديم وجهة نظرها للعالم في الخطاب الذي كان من المفترض إلقاؤه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. أوضح السعوديون أن استيائهم من السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة – في ما يتعلق بإيران، وسوريا، والقضية الفلسطينية – أدى إلى هذا الاحتجاج. وقد أثار معلقون سعوديون ووسائل إعلام سعودية التساؤلات حول ما إذا تخلت الولايات المتحدة عن الرياض في صفقة جيوسياسية كبيرة مع طهران. فهل تتراءى لنا “أزمة” أخرى في العلاقات السعودية-الأمريكية؟

باختصار لا. فلا شيء جديد هنا. واجهت الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية اختلافات أكثر خطورةً في الماضي، من دون أن تشهد العلاقات الثنائية تغييراً جذرياً – الحظر النفطي في العامين 1973 و1974، والخلافات حول اتفاقية كامب ديفيد والثورة الإيرانية في أواخر السبعينات، والأزمة العميقة التي خلفتها أحداث 11 سبتمبر وحرب العراق. في الواقع تبدو الأزمات العرضية، سواءً أحقيقية كانت أم وهمية، بين الرياض وواشنطن شائكة يصعب حلّها. فهي ناجمة عن عنصرين دائمين من عناصر العلاقة: أولاً، الحقيقة البنيوية القائلة أن السعوديين هم الطرف الأكثر ضعفاً في هذه الشراكة؛ وثانياً، الاعتقاد الخاطئ المنتشر بين الأمريكيين أكثر مما هو منتشر بين السعوديين، أن التحالف هذا قد قام أساساً على تكامل كامل بين المصالح.

في أي تحالف يضم طرفين أحدهما قوي والآخر ضعيف، يجد الضعيف نفسه تائهاً بين مخاوف، عكسية وخطيرة في الوقت عينه، الوقوع في الشرك والتخلي عنه. حين كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي على خلاف شديد أثناء الحرب الباردة، خشي حلفاء أمريكا في أوروبا الغربية الانجرار إلى حرب لم يختاروها. وحين شاركت الولايات المتحدة الاتحاد السوفييتي للتوصل إلى انفراج، قلق الأوروبيين من احتمال تجاهل مصالحهم. لكنه لم يكن للأوروبيين الغربيين حلاً آخر، إذ لم يكن هناك قوة عالمية ثالثة يمكن التوجه إليها طلباً للأمان. امتلك البريطانيون والفرنسيون قوتهم النووية الخاصة الصغيرة. أظهر الفرنسيون لفتات استقلال رمزية، ومنها الانسحاب من القيادة العسكرية لحلف الناتو. ولكن لم يأتِ ببال أحد أن لندن أو باريس قد تقفان في وجه السوفييت. في النهاية، تمسك الأوروبيون الغربيون بالولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لأنهم لم يكن لديهم أي بديل معقول.

تجد المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأصغر حجماً نفسها في وضع هيكلي مماثل إزاء الولايات المتحدة وإيران. عندما تهدد الولايات المتحدة إيران بضربات عسكرية بسبب برنامجها النووي، تخشى دول الخليج أن ينقلب الانتقام الإيراني عليها. عندما تشير الولايات المتحدة إلى استعدادها للتفاوض مع إيران، تشعر دول الخليج بالقلق من أن تتحول طهران في نظر واشنطن إلى القوة المهيمنة في المنطقة. في حال توفرت قوة عظمى بديلة يمكن التحالف معها، فإن المملكة العربية السعودية ستميل للقيام بذلك. لكن الصين بعيدة عن إبراز قوتها العسكرية لمنطقة الخليج. على غرار حلفاء حلف شمال الأطلسي في الحرب الباردة، تبدو الخيارات الاستراتيجية المطروحة أمام السعوديين محدودة جداً.

إنّ الدافع وراء التلميحات المتكررة أنّ الرياض تفكر في امتلاك أسلحة نووية إذا امتلكت إيران أسلحة مماثلة، هي المخاوف نفسها التي دفعت الفرنسيين والبريطانيين لبناء قوتهما النووية. إلا أنّ السعوديين مترددون بشأن المسألة النووية، خوفاً من إغضاب حليفتهم الولايات المتحدة التي تثير غضبهم في بعض الأحيان، ولكن لا يمكن الاستغناء عنها. إن سخرية المأزق الاستراتيجي السعودي هو أنه كالأخطاء الأمريكية الأخرى – حرب العراق على سبيل المثال – يعزز نفوذ إيران على المستوى الإقليمي، بالتالي تحتاج الرياض للولايات المتحدة حتى أكثر. كلما بدا أن واشنطن تتصالح مع إيران، زادت أهمية الحفاظ على العلاقة الأمنية الأمريكية بالنسبة للسعوديين.

إن الخوف من تخلي أحد الطرفين عن الآخر في العلاقات الأمريكية -السعودية هو بنيوي ولكن مبالغ فيه أيضاً. على مدى عقود، هدفت السياسة الأمريكية في الخليج إلى منع أي قوة أخرى من الاضطلاع بمركز مهيمن في عالم النفط. تمتلك الولايات المتحدة قواعد عدة في الخليج. لا تريد إدارة أوباما أن تحول السيطرة في المنطقة إلى نظام إيراني لم يكن له أي علاقات دبلوماسية مع الولايات المتحدة لأكثر من 30 عام والذي لا تزال مستويات عدم الثقة قائمة بينهما. إنها من مهام الدبلوماسيين الأمريكيين أن يذكّروا المحاورين السعوديين والخليجيين بهذه الحقيقة. إن الأمر ليس “حمولة ثقيلة” كما يقولون في واشنطن .

أما العنصر الهيكلي الثاني في العلاقات السعودية-الأمريكية الذي يؤدي إلى المبالغات العرضية بشأن “الأزمات” هو سوء فهم الكثيرين لأسس هذه العلاقات. لم تتفق واشنطن والرياض يوماً بشكل كامل على الأهداف الاستراتيجية في الشرق الأوسط. إنّ اختلافهما بشأن المسائل العربية-الإسرائيلية واضحة كل الوضوح. لا طالما كانت علاقة أمريكا الوثيقة بالشاه في ستينات وسبعينات القرن الماضي مصدر قلق للسعوديين، كما كانوا بكل قوتهم ضد الغزو الأمريكي للعراق في العام 2003. كان يقلق واشنطن التدخل السعودي في بلدان أخرى في مناسبات عدة، وفي الآونة الأخيرة، دعمها لنشر نسختها الخاصة من الإسلام.

لطالما كانت المصلحة الأساسية في العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة تكمن في التزامهما المتبادل بأمن قطاع النفط السعودي ومعارضتهم المشتركة لأي طرف آخر كقوة إقليمية أخرى. ساهم موقفهما المتشابه في أثناء الحرب الباردة في تسوية الخلافات الأخرى، كما أعطاهما جدول أعمال مشترك في بعض الأحيان، في أماكن مثل أفغانستان. إلا أنّ عنصر التعاون هذا اختفى مع نهاية الحرب الباردة، غير أنّ المصلحة المشتركة الأساسية بقيت.

إلا أنّ العديد من المراقبين يسيئون فهم هذا الواقع، وذلك من خلال المبالغة في التأثير السعودي على صناعة القرار الأمريكي، على افتراض أن واشنطن ترى أنه من الضروري استرضاء الرياض من أجل تحقيق أهدافها الإقليمية الأوسع. كان المحلل مارك لينش آخر من قدّم هذه الحجة. يتخوف لينش من أن السعوديين ودول الخليج الأخرى سيدفعون بواشنطن إلى عمق المستنقع السوري ويجعلون قيادة إدارة أوباما تتخلى عن أجندتها الديمقراطية الإقليمية. لكن لا داعي للقلق كثيراً. ففي الوقت الذي كان يعبر فيه عن هذه المخاوف، غيّرت الولايات المتحدة رأيها بشأن توجيه ضربة عسكرية ضد سوريا كان السعوديون يريدونها حقاً، وتوصلوا إلى اتفاق بشأن الأسلحة الكيميائية السورية لم يرق للسعوديين كثيراً، ومن ثم قطعوا المساعدات العسكرية عن الحكومة المصرية التي يدعمها السعوديون بحق. وهذا ليس بسياسة إقليمية تملي بها الرياض على الولايات المتحدة. إنّ البحرين هو حقاً المكان الوحيد حيث قد يكون لتنفيذ أجندة ديمقراطية واشنطن السلس علاقة بالمملكة العربية السعودية.

رغم ذلك، يتجلى سوء الفهم المعتاد في أنه عندما يختلف السعوديون والأميركيون، تمر العلاقة في “أزمة”. ولكن تاريخ العلاقة يُظهر أنه لم يحصل قط اتفاق كامل على مجموعة من القضايا الإقليمية التي من شأنها أن تبقي حالة العلاقة السعودية-الأمريكية على حالها، إنما حصل تفاهم مشترك بشأن الفائدة الجوهرية التي قد تنجم عن أمن الخليج. مما لا شكّ فيه هو أنّ نقط الاختلاف حالياً قليلة جداً بين واشنطن والرياض بدءاً من كيفية التعامل مع سوريا مروراً بنظام الجنرالات في القاهرة وصولاً إلى وعود رئاسة روحاني في إيران والمخاوف التي يثيرها، وعلى رأسها قضية فلسطين الصعبة الأبدية. صحيح أنّ هذه الاختلافات خطيرة، إلا أنها لا تصل إلى حدِ يحوّلها إلى أزمة ثنائية. شهدت العلاقات هذه خلافات أوسع في الماضي، وتبقى المصالح المشتركة التي تجمع البلدين بارزة تماماً كما كانت على مدى العقود الستة الماضية.

وفي الوقت الذي تمضي فيه الولايات المتحدة قدماً في ما يتعلق بالملف الإيراني، من المهم أن تُبقي إدارة أوباما السعوديين على علمٍ بما يجري و طمأنتهم عند الاقتضاء بشأن استمرارية الأهداف الاستراتيجية الأمريكية في منطقة الخليج. يمكن أن تنّبه الدبلوماسية الأميركية أيضاً شركائها من دول الخليج إلى الفوائد التي يمكن أن تعود على مختلف الأطراف المعنية من إرساء علاقة أكثر من طبيعية مع إيران، كما قال على الأقل أحد المعلّقين السعوديين البارزين في الأيام الأخيرة. لا ينبغي أن تصرف الآمال الضخمة أو المخاوف المبالغة التي تعتري الجهات الفاعلة الأخرى انتباه الإدارة الأمريكية عن وصولها الحذر إنما الواعد إلى إيران.