Commentary

التقارب السعودي-الإيراني: الحوافز والعوائق

هل من الواقعي التفكير في إمكانية حدوث تقارب بين الأقطاب الإقليمية المتنافسة الأكثر خطورة في الشرق الأوسط اليوم ؟ في نواحٍ كثيرة، تقود المملكة العربية السعودية وإيران حرب الشرق الأوسط الباردة الجديدة. وقد سبق أن تنازعت الدولتان على النفوذ في العراق ولبنان وفلسطين، وهاهما تتنازعان حالياً للاستئثار بالنفوذ في سوريا (وإلى حدِ أقل في اليمن والدول الخليجية الأصغر). إنهما القوتان الكبيرتان اللتان تقفان وراء جانبي الانقسام الطائفي الذي يساعد على تأجيج العديد من الصراعات في المنطقة. لكن، من الخطأ أن نفترض أن شدة المواجهة بينهما أمر لا مفر منه. منذ بدايات القرن الواحد والعشرين، لم يسيطر النزاع على العلاقات الثنائية بين طهران والرياض، إذ كانت كل منهما تسعى لبناء علاقات دبلوماسية طبيعية حتى حين كانتا تتزاحمان للاستئثار بالنفوذ في المنطقة. تعرض التوجهات المحلية الحديثة امكانية إعادة تقييم السياسة الخارجية الإقليمية لكل بلد، في طرق يمكن أن تؤدي إلى استكشاف العودة إلى تلك الفترة السابقة من الهدوء بدلاَ من الصراع المفتوح. إن العوائق التي تقف في وجه التقارب هي عوائق حقيقية. ستعارض الجهات الفاعلية المحلية في كلا البلدين تخفيف حدة الانقسام الطائفي في المنطقة. إن الحقيقة الهيكلية لعددٍ من النزاعات الأهلية في بعض الدول العربية الضعيفة، حيث تطلب الأطراف المتنافسة فيها مساعدة طهران أو إيران، تجعل ضبط النفس المتبادل الذي يتطلبه تقارب كهذا أمراً يصعب تحقيقه. رغم تلك العوائق، ليس مستحيلاً أن نتخيل توجّهاً نحو بناء علاقات أكثر طبيعية بين إيران والمملكة العربية السعودية في السنوات المقبلة.

سيناريو مستحيل؟

كثيرة هي الأسباب التي تجعل من العلاقات السعودية-الإيرانية علاقات يشوبها النزاع. منذ الثورة الإيرانية، شكلت الدولتان قطبين متعارضين في السياسات الإسلاموية – جمهورية ثورية مقابل مملكة محافظة، تزعم كلّ منهما أنها تمثل “الإسلام” تمثيلاً أكثر شرعية في المجال السياسي. إن الإنقسام الطائفي بين السنة والشيعة، وحتى الأكثر وضوحاً نظراً للموقف الحاقد المناهض للشيعة الذي يُظهره الوهابيون، يؤدي ببساطة إلى تفاقم هذا الصراع الأيديولوجي العميق. ويُضاف إلى ذلك، التنافس الجيوسياسي الطبيعي في منطقة الخليج والمصالح المختلفة إلى حد ما حول قضايا النفط، لنجد أنفسنا أمام معطيات تهيء لعلاقة ثنائية متوترة.

إلا أن مستوى التوتر هذا ارتفع وانخفض على مرّ السنين. فقد تميزت ثمانينيات القرن الماضي بالصراع المفتوح. فقد صنّف آية الله روح الله الخميني الحكم الملكي بغير الإسلامي . وقد حاول النظام الثوري بجهد أن ينشر الثورة الإسلامية في العالم العربي، في حين ساعدت المملكة العربية السعودية في تمويل حرب العراق ضد إيران. علاوةً على ذلك، تواجهت الدولتان لفترة قصيرة عسكرياً، حين أسقطت طائرات سعودية طيارتين إيرانيتين في العام 1984. في العام 1987، هاجمت قوات الأمن السعودية حجاجاً إيرانيين فيما كانوا يحجون إلى مكة المكرمة، مما أدى إلى مقتل 275 إيراني و87 سعودي.

ساهمت وفاة الخميني ونهاية الحرب الإيرانية-العراقية في تهدئة التوتر بين الدولتين. وقد شدد الرئيسان الإيرانيان المتتاليان علي أكبر هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي أنهما يريدان إرساء علاقات دبلوماسية طبيعية مع الرياض، وخففا من حدة عنصر “تصدير الثورة” للسياسة الخارجية الإيرانية. ولكن بعض الجهات الفاعلة الأخرى في إيران، على غرار الحرس الثوري الإسلامي، لم تتوقف عن تصدير الثورة، إلا أن الحكومة الإيرانية كانت تسعى إلى قلب الصفحة وفتح صفحة جديدة. ساهم اجتياح العراق للكويت في توتر العلاقة بين السعوديين وحليفهم الرئيس العراقي صدام حسين، أكّدت التطورات الحاصلة في أسواق النفط العالمية في أواخر التسعينيات للرياض ضرورة أن تكون قادرة على التعاطي بطريقة عملية مع إيران. حتى بعد انتخاب الرئيس محمود أحمدي نجاد، ظهرت مؤشرات حول إمكانية قيام علاقات طبيعية بين الطرفين. استضاف السعوديون أحمدي نجاد في الرياض في أبريل من العام 2007، في الوقت الذي تعاونت فيه الدولتان على تهدئة العلاقات بين حلفائهم في لبنان في أوائل العام 2007. في شكلٍ عام، بالكاد كانت العلاقات الثنائية في خلال تلك الفترة ودية، إلا أنها لم تكن سامة كما كانت سابقاً أو كما هي اليوم.

إذاً، يشير الماضي القريب إلى أنه ليس من المستحيل تخيّل تقاربٍ سعودي–إيراني، غير أن هذا التقارب لن يتحول إلى تحالف. تتعارض مصالح الطرفين في نواحٍ عديدة. ولا يمكن حتى أن نشهد على زواج قسري، كذلك الذي ميّز العلاقات في خلال فترة حكم الشاه، حين جمعت ديناميكيات الحرب الباردة والتعاطف المشترك مع القومية العربية اليسارية بين الرياض وطهران. قد يتمثل التقارب ببساطة باتفاق يقضي بالتخفيف من حدة الإدانة المتبادلة والتصرف ضمن قيود ذاتية بهدف الحدّ من تبعات امتداد النتائج غير المباشرة للصراع المحلي المحتدم في كلّ من سوريا والعراق.

التوجهات الداخلية وإمكانية التقارب

من الجانب الإيراني، زاد انتخاب حسن روحاني رئيساً للجمهورية بشكلٍ كبير من فرص التقارب السعودي-الإيراني. احتك سلف روحاني المتعالي بالسعوديين بطريقة خاطئة على مستويات عدة، ليس أقلها عودته إلى الخطاب الثوري الذي ساد في الثمانينيات وإلى علاقاته الوثيقة مع الحرس الثوري الإيراني. إن نجاح إيران في ضرب السعوديين في ظلّ لعبة النفوذ الإقليمي في العراق ولبنان وفلسطين خلال فترة أحمدي نجاد الرئاسية، صعّبت على السعوديين أمر احتماله. يمثل روحاني العودة، أو على الأقل إمكانية العودة، إلى خط السياسة الخارجية الإقليمية الذي اعتمده رفسنجاني وخاتمي والذي وضع إرساء علاقات طبيعية مع الرياض ضمن الأولويات الدبلوماسية الإيرانية. منذ استلامه للرئاسة وصف روحاني السعودية “بالصديقة والشقيقة”، مشدداً أن تحسين العلاقات مع دول الخليج المجاورة يأتي على رأس أولويات سياسته الخارجية. على المدى الأطول، يفتح انتخاب روحاني المجال أمام إمكانية اعتماد سياسة خارجية إيرانية أكثر تركيزاً على التنمية الاقتصادية المحلية وعلى إعادة الاندماج ضمن الاقتصاد العالمي، وأقل استعداداً لتخصيص الموارد الإيرانية للعالم العربي. لا يُعتبر ذلك احتمالاً وشيكاً، نظراً لعدم وضوح السياسات الإقليمية والساحة الداخلية الإيرانية. ولكن رغبة روحاني بالعودة إلى علاقة ثنائية أكثر طبيعية مع المملكة العربية السعودية تبدو واضحة.

أما على الجانب السعودي، لا تبدو التوجهات الداخلية بذلك الوضوح. لكن التغيير الواضح في ما يتعلق بالسياسة السورية يدلّ على أن الرياض تشعر بقلقٍ متزايدٍ إزاء العواقب السياسية الداخلية التي قد تنجم عن استمرار الصراع الطائفي الإقليمي. يبدو الأمير محمد بن نايف، وزير الداخلية الذي اكتسب شهرته من خلال قيادة حملة ضد تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية وفي المملكة العربية السعودية نفسها في منتصف العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، الآن مسيطراً على الملف السوري. روّج الأمير بندر بن سلطان، الذي كان يدير الملف على مدى العامين الماضيين، لسياسة عدوانية قدّمت الدعم السعودي للمقاتلين السوريين، بما في ذلك الجماعات الجهادية السلفية الذين لا ينتمون رسمياً إلى تنظيم القاعدة. كون الأمير محمد يسيطر الآن على الملف السوري يشير إلى أنّ الرياض قد (وأشدد، قد) تفكر في تقليص دعمها للمتمردين في سوريا. ثمة دلالات أخرى تشير إلى أن الرياض يمكن أن تعيد التركيز على النتائج المحلية التي يمكن أن تترتب عن استمرار القتال في سوريا: أصدرت المملكة مؤخراً قانوناً يفرض عقوبات قاسية على السعوديين الذين يقاتلون في الخارج؛ وأعلنت جماعة الإخوان المسلمين ضمن المنظمات الإرهابية؛ وهي تسعى حالياً للضغط على قطر للحد من دعمها لجماعة الإخوان على الصعيد الإقليمي. طالما أن الرياض تركز أكثر على الأعداء من داخل العالم السني، فإنها ستكون أكثر استعداداً للتقليل من تركيزها على المواجهة مع إيران.

لا تبدو هذه التوجهات السياسية على المستوى الداخلي نهائية، لكنها تشير إلى أن تركيز كل من طهران والرياض في شكلٍ متزايد على العواقب السلبية للسياسات المحلية الإقليمية الطموحة قد يؤدي إلى رغبة الجانبين في النظر في سياسات أقل صدامية. إن استعداداً متبادلاً مماثلاً يشكل شرطاً مسبقاً لتقارب مستدام. راجت بعض الشائعات القائلة بأن كلا الجانبين هما حالياً بصدد البحث في هذا الاحتمال.

العوائق التي تقف في وجه التقارب

في كل جانب ثمة عقبات سياسية داخلية تقف في وجه التقارب. في إيران، يلتزم الحرس الثوري بالحفاظ على المكاسب الجيوسياسية لإيران في المنطقة، بما في ذلك دعم نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا. بل إنه يُظهر التزاماً أكبر بالخطاب المصدر للثورة وبنيته التحتية. طالما أن الحرس الثوري يحافظ على نفوذه في السياسة الخارجية الإيرانية، سيكون من الصعب أكثر تحقيق تفاهمٍ جديد مع المملكة العربية السعودية. ومن غير الواضح النقاط التي ستشتعل المواجهة عندها بين المرشد الأعلى وروحاني والحرس الثوري بشأن السياسة الإقليمية الإيرانية الأقل طموحاً.

تتمتع الطائفية بأهمية أقل في السياسة الخارجية السعودية بالمقارنة مع التصلب وعدم اليقين القيادي. مع القيادة العليا القديمة جداً في البلاد والخلافة التي تلوح في الأفق، من الممكن أن تعجز الرياض عن الاستجابة لإشارات الاعتدال الإيرانية. يبقى أن نرى ما إذا كانت سيطرة الأمير محمد بن نايف الظاهرية على الملف السوري ستشير إلى الدور المتنامي الذي يؤديه في السياسة الخارجية السعودية في شكلٍ عام أم لا. لا أهمية تذكر للرأي العام السعودي في تشكيل سياسة البلاد الخارجية، ولكن الحرب الأهلية السورية أثارت مشاعر عامة قوية داعمة للمتمردين. في حالة الغموض على مستوى القيادة، يمكن للرأي العام أن يكون عاملاً مثبطاً لأي شخصية كبرى من آل سعود، فتُعتبر بأنها مطالبة باتخاذ موقف أكثر ليونة تجاه إيران.

ومن العوائق الأخرى التي تقف في وجه التقارب السعودي-الإيراني، نذكر ضعف سلطة الدولة أو انهيارها في الكثير من الدول العربية. في الواقع، يدعو الفراغ السياسي في لبنان وسوريا والعراق إلى تدخلٍ إقليمي. عندما كانت العلاقات بين السعوديين والإيرانيين جيّدة بعض الشيء، كانت الخريطة الإقليمية أكثر استقراراً – كان قد تمّ إضعاف صدام إلا أنه كان لا يزال في الحكم في بغداد وكانت سوريا لاعباً، ولم تكن ساحة معركة، في السياسات الدولية. لم تتوفر فرص كثيرة كالآن لبسط نفوذ الدولة على الصعيد الإقليمي. حتى وإن كانت الحوافز الدفاعية هي وحدها التي كانت تقود القيادتين السعودية والإيرانية، فسيكون صعباً بالنسبة لهما البقاء خارج الصراعات الأهلية التي اشتعلت في مختلف أنحاء العالم العربي الشرقي. هذا العامل الجديد في البنية السياسة الدولية في الشرق الأوسط، والذي سبق الربيع العربي ولكن تفاقم بعد انطلاقه، يجعل ضبط النفس المتبادل الضروري لإرساء التقارب السعودي-الإيراني أمراً صعب التحقيق.

خاتمة: البنية مقابل الوكالة

تعتمد إمكانية التقارب السعودي-الإيراني إلى حد كبير على الإرادة السياسية عند قادة الجانبين. يبدو أن بنية السياسة الإقليمية، مع الصراعات الأهلية التي تجتاح عدداً كبيراً من الدول في العالم العربي الشرقي، قد تدفع البلدين إلى مزيد من الصراعات. في كل من إيران والمملكة العربية السعودية، تعمل عناصر السياسة الداخلية أيضاً ضد امكانية المطالبة بالإرادة السياسية لتحسين العلاقات. ففي إيران، تتجسد هذه العناصر في قوة لاعب معين في اللعبة السياسية الداخلية، وهو الحرس الثوري، والذي تستدعي مصالحه الأيديولوجية والتنظيمية اعتماد سياسة إقليمية عدوانية. أما في المملكة العربية السعودية، فيتجلى هذا العنصر في قيادة مُسِنة وفي عدم التيقن بسياسات الخلافة التي تعمل ضد العمل السياسي الحاسم. يتطلب الأمر أن يأخذ القادة الذين لديهم السلطة واختاروا اتباع سياسة خارجية إقليمية أكثر اعتدالاً إجراءات جماعية للتغلب على هذه العوائق البنيوية، إذا قُدر أن تتوفر فرصة للتقارب السعودي-الإيراني. ثمة دلائل تشير إلى أن عناصر من كلا القيادتين يفضلون منطقة أقل تقاتلاً وعلاقة ثنائية أفضل. أما السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما إذا كانوا يتمتّعون بالقدرة على اتخاذ الخطوات اللازمة لتحقيق تلك الأهداف.

لا شكّ أن الولايات المتحدة تستفيد من تقارب سعودي-إيراني، ولكن يتعين عليها أن تتعامل بخفة مع هذه المسألة. تخشى السعودية أصلاً أن تتجاهل واشنطن المصالح السعودية في ظل رغبتها بالتوصل إلى اتفاق مع طهران وذلك نتيجةً للتحسن الحالي في العلاقات الأمريكية-الإيرانية – بقدر ما يبدو الأمر مؤقتاً. ويُعتبر أي تشجيع من جهة واشنطن إزاء انفتاح السعوديين على إيران جزء من تحرك الولايات المتحدة تجاه إيران، وسيخلق شكوك كبيرة. من الأفضل أن تترك إدارة أوباما العوامل الداخلية في كلا البلدين تعمل من أجل بناء علاقات أفضل لتعمل من دون أي وكزة أمريكية.