لقد وجّه حضورُ الصين المتنامي في جيبوتي انتباهاً غير مسبوق إلى تلك الدولة المرفئية الأفريقية المعروفة قليلاً وجعلها المحكّ في النقاش حول أهداف بكين العالمية المتوسّعة. وفي العام 2017، افتتح جيش التحرير الشعبي الصيني هناك أوّل قاعدة عسكرية له عبر البحار، عند مدخل البحر الأحمر، مُتخلّياً بذلك عن سياسة قديمة تقضي بعدم تمركز جنود صينيين في الخارج. ولا تطّل هذه المنشأةُ الجديدة للبحرية الصينية على معبر استراتيجي مهمّ وعلى أحد ممرّات الشحن الأكثر نشاطاً في العالم فحسب، بل أيضاً على قاعدة عسكرية أمريكية، تبعد عنها حوالي 9,7 كيلومترات فقط.
وقد أطلق وصول جيش التحرير الشعبي نقاشاً جديداً حول تطوّر عقيدة الصين العسكرية وقوّتها البحرية وقدراتها الاستطلاعية. بيد أنّها لفتت انتباهاً جديداً أيضاً إلى استثمارات بكين الاقتصادية على ضفّتَي البحر الأحمر، وهذه تسبُق القاعدة بأكثر من عقد من الزمن. وقد سبّب هذا المزيج بين توسّع الصين التجاري والاستراتيجي القلقَ في أوساط الأمن القومي الأمريكي وسلّط الضوء على البحر الأحمر كمسرح محتمل للتنافس بين القوى العظمى.
جيبوتي بلد حارّ وجاف والموارد الطبيعية فيه قليلة، لكنّ موقعها الاستراتيجي ومجمّع ميناء المياه العميقة فيها لم يجذبا الجيشَين الأمريكي والصيني فحسب، بل أيضاً الفرنسي والياباني والإيطالي والإسباني، فضلاً عن إعراب روسيا والهند والمملكة العربية السعودية عن اهتمامها. ولا يتعدّى سكّان جيبوتي المليون نسمة وتقارب مساحتها مساحة ولاية فيرمونت الأمريكية ويبلغ ناتجها المحلّي الإجمالي 3 مليارات دولار، أي ما يوازي إنتاج الصين كلّ ساعتين. والتباين بين البلدَين كبيرٌ لدرجة يصعب التضخيم في أمره. وقد أدّى مزيج من مشاريع البنى التحتية الباهظة والتزامات بديون ضخمة إلى بروز قلق معهود حول نفوذ الصين الكبير على الأصول وصناعة القرار الجيبوتية، ممّا أجّج جولة أخرى من النقاشات حول ما يُعرف بدبلوماسية “فخّ الدين”.
وتتخطّى القروض وعقود البناء واستثمارات البنية التحتية الصينية في القرن الأفريقي ومنطقة البحر الأحمر الأوسع، التي بات معظمها ضمن مبادرة الحزام والطريق التي تسترعي الكثير من النقاشات، القروضَ والعقود والاستثمارات الأمريكية بأشواط. ومن المفترض أن تتوسّع هذه الهوّة التي تبيّن فرقاً كبيراً في المقاربة التي تنتهجها الدولتان.
حتّى الآن: فقد رأت واشنطن جيبوتي والقرن الأفريقي بشكل أساسي من منظار أمني، فيما كان منظار بكين “تنموياً” بالإجمال. لكن مَن المستفيد من هذه التنمية مسألةٌ خاضعة لبعض النقاشات.
وتعتقد النُخب الجيبوتية أنّ التمويل والتكنولوجيا الصينيين وحجم التبادل التجاري مع الصين لا تدفع بلادها لتصبح “سنغافورة أفريقيا” فحسب، بل تُسرّع النمو والتكامل في منطقة غير نامية إلى حدّ بعيد، وهذا كلام تكرّره بكين. بيد أنّ المشكّكين يرون في جيبوتي والدول المجاورة لها منافذَ لقدرات الصين الإنتاجية الفائضة محلّياً. ويقلقون أيضاً من أنّ جيبوتي، على غرار غيرها من الدول المتلقّية التوّاقة للسخاء الصيني، قد تتخلّف عن تسديد ديونها وتضطرّ إلى تقديم تنازلات لبكين، وهذا تسلسل يمكنه أن يهدّد المصالح الأمريكية الحيوية في المنطقة. وكما هو الحال في أرجاء العالم، تسبّبت جائحةُ فيروس كورونا المستجدّ وتعطّلُ سلسلة التوريد العالمية إلى ضرر حادّ ومفاجئ في أوائل العام 2020 في اقتصاد جيبوتي الذي يعوّل على التجارة. ومع أنّه من المبكر معرفة التداعيات المتوسّطة أو الطويلة الأمد، أضاف الانكماش المتوقّع في الناتج المحلّي الإجمالي في الصين وجيبوتي على حدّ سواء عقدةً جديدة إلى النقاشات حول ملاءة جيبوتي الطويلة الأمد.
وقد تزايدت المخاوف لدى الاستراتيجيين الأمريكيين بسبب الفساد والحوكمة الرديئة في أعلى النظام السياسي الجيبوتي، ورئيسٍ أسلوبه السلطوي يشبه أسلوب رعاته الجدد، بالإضافة إلى تجاوزاتٍ تكنولوجيةٍ ارتكبتها شركات ااتّصالات صينية. في هذا السياق، تُبرز جيبوتي التنافسَ الأوسع بين الصين والغرب، وهو تنافس يتّسم بمقاربتَين مختلفتَين للحوكمة والتنمية الاقتصادية والحرّيات الفردية.