اعترض جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترامب وكبير مستشاريه حول الشرق الأوسط، مؤخّراً على الاقتراحات بأن تؤجّل خطّة “صفقة القرن” المتوقّعة للسلام في الشرق الأوسط بسبب مخاوف من أنّها ستُولد ميْتة على الأرجح. وكجزء من عملية الكشف عن هذه الخطة، أفصحت الإدارة الأمريكية عن خطط لإقامة “ورشة عمل اقتصادية” في البحرين لمناقشة “الاستثمارات والمبادرات الاقتصادية المحتملة التي يمكن أن تتيحها اتفاقية السلام”. فرفض الفلسطينيون الفكرة على الفور واصفينها بأنّها محاولة “لتعزيز التطبيع الاقتصادي للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين”.
وفيما ما زالت تفاصيل خطّة ترامب غير معروفة، نعرف أصلاً المبادئ المُقلقة التي ترتكز عليها هذه الخطة.
بغضّ النظر عن التفاصيل، لا تبتعد مقاربة ترامب عن القانون الدولي والسياسات الأمريكية المعتمدة منذ زمن فحسب، بل هي تكرّس المسؤولية الأمريكية التاريخية في عمليةٍ غير عادلة سترتدّ في نهاية المطاف عكسياً على إسرائيل والفلسطينيين والمصالح الأمريكية.
لنبدأ مع مبادئ هذه المقاربة كما كشف عنها كوشنر وأعضاء آخرون في فريق ترامب. وتتجاهل مقاربة ترامب اتفاقيات السلام السابقة وقرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي، وترتكز على ثلاثة مبادئ خاطئة: “الحقائق” كما هي على الأرض، والاعتماد على التبريرات الإثنية/الدينية للسيطرة الإسرائيلية على الأراضي المحتلّة، والمحفّزات الاقتصادية لتلبية التطلّعات السياسية الفلسطينية. يتجاهل المبدأ الأول تاريخ دور الولايات المتحدة في خلق هذه الحقائق، ويتجاهل الثاني التداعيات العتيدة لوضع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في إطار نزاع إثني/ديني عوضاً عن إطار قومي، أما المبدأ الثالث، فهو بعيد كلّ البعد عن طبيعة الكفاح الفلسطيني وعن الحالة الإنسانية على حدّ سواء.
ومن دون ثقل القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، تميل “الحقائق” على الأرض بشكل هائل لصالح إسرائيل: فما زال الفلسطينيون بدون دولة وتحت الاحتلال. وبدرجات متفاوتة، تسيطر إسرائيل على كلّ الأراضي الفلسطينية، مع مستوطنات إسرائيلية آخذة في التوسّع في الضفّة الغربية المحتلّة. وفيما يحظى الفلسطينيون بقوّات أمن وميليشيات مسلّحة محدودة، لدى إسرائيل الجيش الأقوى في المنطقة، وناتجها المحلّي الإجمالي يفوق ناتج الفلسطينيين في غزّة والضفة الغربية 23 ضعفاً.
ويُعزى بعض من هذه الحقائق بشكل كبير إلى دعم الولايات المتحدة التاريخي لإسرائيل. وللأمانة، انخرطت عدّة إدارات أمريكية بجهودٍ حسنةِ النية لمعالجة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وكانت هذه الجهود واعدة أحياناً. وينبغي أن يُوزَّع اللوم لفشل هذه الجهود ليطال الإسرائيليين والفلسطينيين والعرب الآخرين. لكنّ التمكين الجوهري الأمريكي لإسرائيل لم يتغيّر طوال تلك الفترة بالإجمال.
وسال الكثير من الحبر حيال المساعدات التي تقدّمها الولايات المتحدة لإسرائيل والتي تبلغ 3,8 مليار دولار سنوياً، وهو مبلغ يفوق مجموع المساعدات الأمريكية الأمنية لباقي العالم كله. لكنّ المساعدة الكبرى لإسرائيل ليست مالية. فقد حمت ثلاثة عناصر استراتيجية أمريكية إسرائيلَ من الشعور بأي ضغط إقليمي أو دولي فعلي حيال احتلالها أراضيَ فلسطينية وتشييدها مستوطنات غير شرعية فيها.
وأحد أهمّ العناصر التي تميل الدفّة لصالح إسرائيل هو الوساطة الأمريكية لاتفاقية كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر منذ 40 سنة وبذل نفوذ كبير للمحافظة عليها منذ ذلك الوقت. وقد خدمت هذه الاتفاقية المصالح الإسرائيلية والمصرية والأمريكية، وخفّفت إلى حدّ بعيد من فرصة اندلاع حرب بين إسرائيل ومصر (وهذا حسن). لكنّها حدّت النفوذ لصالح المساومة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، وهذا عكس ما أمل به الرئيس جيمي كارتر، وأمْر يعبّر الآن عن بعض من “الندم المتأخّر” حياله.
ثانياً، لقد حمت الولايات المتحدة إسرائيل في الأمم المتحدة. فمنذ قيام الدولة الإسرائيلية في العام 1948، أكثرية حقوق النقض التي استخدمتها الولايات المتحدة في مجلس التابع للأمم المتحدة كانت لها علاقة بإسرائيل (43 مرّة). لذا من المنطقي أن يظنّ المرء أنّه لولا التهديد الأمريكي بحقّ النقض لكان المجتمع الدولي فرض عقوبات على المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية.
ثالثاً، يعزى تفوّق الجيش الإسرائيلي جزئياً إلى نجاحه في بناء منظّمة فعّالة. ففي غضون بضعة عقود، بنى الإسرائيليون دولة متقدّمة ناجحة ومزدهرة. لكن لا ينخدعنّ أحد، إذ يأتي هذا التفوّق الذي تتميّز به إسرائيل على الجيوش الإقليمية مجتمعة، وربّما القوّات الروسية في سوريا حتّى، بفضل أمر واحد: الالتزام الأمريكي بمنح إسرائيل التكنولوجيا المتقدّمة للحرص على تحلّيها بأفضلية عسكرية نوعية مقارنة بأيّ جهة أخرى.
لقد جعلت المساعدات إسرائيل أكثر أمنا، كما كانت النية. ولطالما خدمت مصالح إسرائيلية وأمريكية مشتركة. لكنّ إحدى الحجج المستخدمة لتبرير هذا المستوى الفريد من الدعم هي أنّه إن كانت إسرائيل آمنة فستكون قادرة أكثر على المساومة. لكن عوضاً عن ذلك، ولّدت المساعدات المزيد من عدم التناسق، مع تراجع في الحافز الإسرائيلي للانصياع إلى القانون الدولي وللمساومة.
ويمكن الاستنتاج من كلّ ما سبق أنّ التزام الولايات المتحدة التاريخي مع إسرائيل، الذي يتجلّى بالدعم الفريد المقدّم لها، يعني أنّ على الولايات المتحدة مسؤولية التخفيف من الحقائق غير المتناسقة المتأتّية عن هذا الدعم من خلال اللجوء إلى الجهود العادلة. عوضاً عن ذلك، لا يعد ترامب بتكريس عدم المساواة الشديدة فحسب، بل باستخدام قدرات دولة عظمى للتأثير في الجهة الأضعف أيضاً، بما في ذلك حجب المساعدات الإنسانية كأداة ضغط سياسي.
وبعيداً عن “الحقائق” التي تتجاهل الماضي، تعتمد مقاربة ترامب تأطيراً خطيراً يضع الصراع في خانة الصراع الديني/الإثني بدون بوادر نهاية له. ويلجأ مستشارو ترامب إلى الإيمان والادّعاءات التوراتية لتبرير المستوطنات الإسرائيلية في الضفّة الغربية والسيادة الإسرائيلية على مدينة قدس موحّدة، وهذا أمر خاطئ وخطير على حدّ سواء. فهو خاطئ لأنّه، حتى لو كان لكلّ واحد الحقّ في اختيار إيمانه وخطابه الديني، لا يمكن أن تكون خطابات دينية كهذه الأساس للسيادة السياسية في زمننا الحاضر. وهو خطير لأنّه يضع الخطاب “اليهودي” و”المسيحي” في وجه الخطابات المسلمة/العربية، ممّا يحرص بذلك على استمرار الصراع لعقود مع أمل ضئيل بالمساومة.
طبعاً، ستقوم الحكومات العربية بما يناسبها ويناسب بلدانها دائماً، وقد تدفعها أولوياتها على السكوت والخضوع. لكن فلنفكّر في التالي: على الرغم من أربعين سنة من السلام الفعّال بين إسرائيل ومصر، و24 سنة من السلام بين إسرائيل والأردن، يرفض المصريون والأردنيون “التطبيع” مع إسرائيل ويعتبرون إسرائيل عدوّتهم بالإجمال. وقد يتماهى المصريون والأردنيون (على غرار غيرهم في الدول العربية) مع بلادهم أولاً، لكنّهم لن يقلعوا عن اعتبار نفسهم عرباً ومسلمين (بالإجمال)، وهي هويّات يتمّ التشديد عليها، خصوصاً أنّ إسرائيل حدّدت طبيعتها بشكل متزايد من خلال تعابير دينية/إثنية.
ويشكّل سلامٌ مع الفلسطينيين يعالج تطلّعاتهم السياسية وتوقهم للحرّية المسارَ الذي على إسرائيل انتهاجه لتلقى القبول في صفوف العرب والمسلمين. فمن دون سلام إسرائيلي فلسطيني النتيجة هي صراع يهودي مسلم أو صراع عربي إسرائيل لعقود وعقود.
وفيما ينصح كوشنر بالتخلّي عن حلّ الدولتين، وسيرفض بالتأكيد المساواة الكاملة بين الإسرائيليين والفلسطينيين كحلّ بديل، لن تتمكّن كلّ المحفّزات الاقتصادية التي قد يقدّمها ترامب للفلسطينيين من روي ظمأ تطلّعاتهم. ففي أيّام التسعينيات المفعمة بالأمل، تمّ استثمار الكثير في مشاريع طموحة مثل بيت لحم 2000. وعندما انهارت المفاوضات السياسية، اندلع العنف وذهبت الاستثمارات أدراج الرياح. والظنّ أنّ الوعد بالتحسّن الاقتصادي يفوق أهمّية التطلّعات الإنسانية العادية لشعب كافح بألم لعقود يعني عدم فهمٍ لطبيعة الحالة الإنسانية.
يتشاطر القادة الإسرائيليون والفلسطينيون والعرب اللوم لانعدام السلام. بيد أنّ الدور الأمريكي لا مفرّ منه. فبعيداً عن التفاصيل، تورّط المبادئُ التي تنتهجها مقاربة ترامب الولاياتِ المتحدةَ في مسار خاسر يؤدّي إلى المزيد من المتاعب في المستقبل. فما من فائز هنا، بل خاسرون فحسب. وبعضهم خاسر أكبر من غيره.
Commentary
مقاربة ترامب للشرق الأوسط تتجاهل الماضي والمستقبل والحالة الإنسانية
الإثنين، 20 مايو 2019