في مقال نُشِر مؤخراً حول المأزق السياسي في المغرب، أبرزنا “معضلة الملك“، حول كيفية التطوير دون فقدانه السيطرة. فقد تحرك الملك محمد السادس وأقال رئيس الحكومة، الذي يمتلك شعبية كبيرة، عبد الإله بنكيران في 15 مارس. وأشار الملك إلى عجز بنكيران عن تشكيل حكومة بعد خمسة أشهر من المفاوضات الفاشلة، ثم كلَف وزير الخارجية السابق (2012 – 2013) سعدالدين العثماني – الرجل الثاني بعد بنكيران في حزب العدالة والتنمية – بتشكيل حكومة ائتلافية، وهو ما قام به على الفور في غضون اسبوع.
خلال احتجاجات الربيع العربي في العام 2011، وعد ملك المغرب – إلى جانب عدد من قادة المنطقة – بتقاسم السلطة بشكلٍ أكبر. إلا أن التحركات الأخيرة تشير إلى أنه لا يزال يتحكم على نحو واسع بالمشهد السياسي، على غرار المسارات المعتمدة في أنظمة أخرى في المنطقة. وقد أثار ذلك بُعداً آخراً في معضلة الرئيس: هل يمكن الحدّ من المعارضة الرسمية السياسية وصُنع معارضة جديدة أكثر راديكالية؟
فك المأزق السياسي
تحول حزب العدالة والتنمية إلى حزب معارضة آخر تم احتواؤه من قبل القصر، وقد عمّق هذا التطور الأخير الواقع.
بعد فوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات أكتوبر الماضي، حاول بنكيران أن يقف في وجه محاولات القصر الرامية إلى إضعاف الحزب الإسلامي الشعبي. وأصر حزب التجمع الوطني للأحرار، برئاسة صديق الملك ورجل الأعمال عزيز أخنوش، أن تنضم أحزاب أصغر، على غرار الاتحاد الدستوري والاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية، كجزء من الائتلاف. حاول القصر ووسائل الإعلام إعطاء انطباع أن الملك حكمه محايد في صراع السياسة المغربية، إلا أن الدور الأهم لأخنوش في إيقاف عملية الائتلاف ومحاربة بنكيران يظهر إلى أي مدى يبقى القصر سيد اللعبة السياسية.
قام أخنوش بمعارضة خطط بنكيران بتشكيل حكومة ائتلافية لإضعاف دور حزب العدالة والتنمية في الائتلاف الحاكم. بدلاً من ذلك، حاول بنكيران من جهته أن يتحالف مع حزب الاستقلال الذي أتى في المركز الثالث. كان من الممكن أن يحظى حزب العدالة والتنمية تبعاً لهذا الترتيب على تمثيل أقوى في الائتلاف.
ولكن بعد ستة أشهر من المفاوضات الفاشلة وحملة إعلامية شرسة لإلقاء للوم على بنكيران، عاد الملك محمد السادس من جولته الأفريقية وأعلن على الفور انتهاء عهد بنكيران. بينما ركزت وسائل الإعلام المغربية على عجز بنكيران في تشكيل حكومة، أشار الصحفي المخضرم علي أنوزلا إلى أن إقالته أتت كقرار سياسي لنزع فتيل تهديد للنظام، مضيفاً: “إن تصريحات رئيس الوزراء المقال على مدى السنتين الماضيتين جعلته أكبر معارض رسمي للدولة العميقة في المغرب”.
يحتل العثماني المرتبة الثانية في حزب العدالة والتنمية – فهو الرجل الثاني بعد بنكيران وصديقه المقرب. ما إن تم تعيين العثماني لتشكيل الحكومة، أدرك أن خياراته ووقته محدود، وتحرك سريعاً لتشكيل ائتلاف مع خمسة أحزاب أخرى.
عبّر بنكيران صراحة عن احترامه لقرار القصر، وقد زاره وزراء الحكومة الجدد غداة الإعلان عن حكومة العثماني، كدليل على استمرار شعبيته. وقد انتشرت شائعات تشير إلى أن بنكيران سيُعيّن مستشاراً ملكياً، مما قد يحيد أي تهديد قد يشكله في وجه شرعية حكومة العثماني الجديدة، ويسكت أي اعتراضات قد يبديها إزاء دستورية قرار الملك.
لذلك رغم الخلط الظاهر، أصبح حزب العدالة والتنمية ببساطة حزب معارضة آخر تم احتواؤه من قبل القصر – إلى جانب الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية الذي أصبح مؤيداً للنظام في تسعينيات القرن الماضي وفي العقد الأول من القرن الحالي. أثبتت التطورات الأخيرة أن القصر والحكومة يسيطران بشكلٍ محكم على المشهد السياسي في المغرب.
حكومة العثماني الجديدة
قلّص تدخل القصر قبل انتخابات أكتوبر البرلمانية وبعدها نفوذ حزب العدالة والتنمية، وهو الحزب الإسلامي المعارض الوحيد في الحكومة، في حين قوّى حزب التجمع الوطني للأحرار الموالي للملك والمؤلف من تكنوقراطيي القصر. وقد أشار هذا التدخل أيضاً إلى تجاهل المؤسسات الديمقراطية في تقاسم السلطة بين الملك والأحزاب السياسية.
عكست التغييرات الأخيرة في الحكومة التهميش المتعمد لشخصيات حزب العدالة والتنمية في ما يتعلق بالحكومة. يمتلك ممثلو حزب العدالة والتنمية الآن أقل من نصف المناصب الوزارية رغم الفوز الذي حققه في الانتخابات. في المقابل، يمتلك أعضاء حزب التجمع الوطني للأحرار أهم الحقائب: الشؤون الخارجية، العدل، الاقتصاد والمالية – رغم أن حزب التجمع الوطني للأحرار أتى رابعاً في انتخابات أكتوبر، إذ لم يفز إلا بـ 37 مقعداً.
في افتتاحية انتقادية صدرت في مجلة Telquel الأسبوعية المغربية، كتبت رئيسة التحرير عائشة أكالاي أن أخنوش “حصل على امتيازات لا تُمنح عادة إلا من خلال الفوز في الانتخابات. وقد أصبح حزب التجمع الوطني للأحرار إلى جانب حلفائه في الاتحاد الدستوري والاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية القوة الرئيسة المتحكمة بهذه الحكومة.”
بشكلٍ عام، لا تعكس الحكومة الحالية الإرادة الشعبية للمواطنين المغاربة، حيث تسيطر عليها إلى حدٍ كبير حزب يتألف من تكنوقراطيي القصر، والمغاربة على دراية تامة بهذا الأمر.
المزيد من المعارضة المتطرفة؟
تماماَ كما خلّف الموت السياسي الذي تعرض له الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية في أوائل العقد الأول من القرن العشرين، وبعدها حكومة رئيس الوزراء آنذاك عبد الرحمن اليوسفي التي تميل ليسار الوسط، ترك ذلك فراغاً لحركة المعارضة. كذلك فإن إضعاف حزب العدالة والتنمية يمكن أن يفتح الطريق أيضاً. فالسياسة تكره الفراغ، ولملئه يوجد طريقتان: نشأة معارضة أقوى من خارج النظام، أو انقسام حزب العدالة والتنمية. وسيعتمد الكثير على إرث ثورات العام 2011 والشعبية الحقيقية لحزب العدالة والتنمية.
من أين يمكن أن تنبثق هذه المعارضة الأكثر تطرفاً؟ على الأرجح من فيدرالية اليسار الديمقراطي، وهي لاعب صغير إنما واعد في النظام السياسي. ولكن حتى مع حملة إعلامية قوية على وسائل التواصل الاجتماعي وجهود التوعية الكبيرة، لم يفز تجمع فيدرالية اليسار الديمقراطي إلا بمقعدين في البرلمان. غالباً ما يظهر اليسار المغربي منقسماً وضعيفاً وبعيداً عن اهتمامات المغاربة العاديين – ويركز بدلاً من ذلك على انقساماته مع الإسلاميين ودور القصر في السياسية.
هناك مصدر آخر محتمل لا بدّ من الانتباه له في المعارضة، وهو اللاعبون الإسلاميون المعروفون على غرار جماعة العدل والإحسان. قاطعت هذا الجماعة انتخابات عام 2016، وهي التي طالما شككت في نتائج أي مشاركة رسمية في السياسة. بصفتها الجماعة الإسلامية الأكثر شعبية في المغرب، وفي ظل ضعف حزب العدالة والتنمية، تبدو الفرصة سانحة أمام العدل والإحسان أكثر من أي وقتٍ مضى ليشكل تحدياً أساسياً في وجه النظام المغربي. في الحقيقة، من المرجح أن تكبر شرعية مجموعات المعارضة الدائمة كجماعة العدل والإحسان في عين عددٍ كبير من المغاربة.
ويتضمن سيناريو آخر انقساماً في حزب العدالة والتنمية يصبح فيه بنكيران شهيداً سياسياً ما يؤدي إلى نشوء فرعاً أكثر تطرفاً داخل الحزب في السنوات المقبلة. حتى إن قبٍل بنكيران علناً بهذا القرار، لا يزال بإمكانه اختيار استحضار التدخل الأخير ليجمع حوله عدداً كبيراً من الداعمين للمضي نحو اتجاه جديد. يفسر هذا الاحتمال الشائعات بتعيين بنكيران كمستشار ملكي والميل للتخفيف من أي تهديد قد يطرحه.
المنطقة في هذا السياق
بعد ست سنوات من ثورات الربيع العربي في المنطقة، تريد القيادة المغربية اليوم المحافظة على سمعتها كقصة نجاح.
لم ينشأ التوتر بين الملك وحزب العدالة والتنمية من فراغ، فالأحزاب الإسلامية في المنطقة تحقق انتصارات وتعاني الانتكاسات. فعلى سبيل المثال، راقبت الحكومة المغربية بحذر تقدم رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية في تركيا – بما في ذلك عقب محاولة الانقلاب على حكومة أردوغان في يوليو الماضي. في مصر، تمت الإطاحة بالإخوان المسلمين في العام 2013 بعد سنة مزرية في السلطة – إلا أن مصر لم تنعم بعد بالاستقرار أو الازدهار السياسي الذي وعد به الرئيس عبد الفتاح السيسي. سجلت جبهة العمل الإسلامي، الحزب الإسلامي في الأردن، عودةً في الانتخابات البرلمانية في سبتمبر الماضي في ما عُرِف بفوزٍ صغير إنما مهم في وجه نظام الملك عبدالله.
عموماً، كل ذلك يعد ضغطاً على المغرب – الحريص على المحافظة على صورته كقصة نجاح أمام الثورات العربية –لتجنب السيناريوهات التركية والمصرية وللترويج للمزيد من أوجه الديمقراطية. لذلك تمّ التعبير عن تدخل الملك بأحكام دستورية ولم تسلب حزب العدالة والتنمية صراحةً من فوزه.
اختار الملك محمد السادس، في إدارته للأزمة، الحفاظ على السيطرة الصارمة على العملية السياسية مبدياً ولاءً منمقاً فقط للدستور. واستمر في اختيار السيطرة السياسية على الديموقراطية الدائمة التي وعد بها عقب الثورات العربية في العام 2011. قد يعود ذلك تردد النظام الملكي، فحتى وإن تم إشراك حزب العدالة والتنمية بنجاح، قد تقوي أشكالاً أكثر تطرفاً من معارضة. هذا بدوره يمكن أن يكون بمثابة نوع من العمل خارج النظام، وهو أمر قد لا يرغب القصر بتشجيعه.
هذا المنحدر المنزلق – حيث لا يزال القصر يحد من سلطات الأحزاب السياسية والمجتمع المدني ومجموعات المعارضة كالعدل والإحسان – يعرض المكاسب المتواضعة المنجزة بعد الربيع العربي للخطر. في حال تحولت شائعات تغيير الدستور المغربي إلى حقيقة، قد يشكل ذلك نكسة حقيقية للمغرب.
Commentary
هل يمكن أن يزيد الخلط السياسي الحاصل في المغرب العناصر الأكثر تطرفاً؟
الإثنين، 17 أبريل 2017