في الوقت الذي توجّه فيه تركيز العالم نحو الأزمة في سوريا، واحتمال حدوث انفراج بين الولايات المتحدة وإيران، أصبحت حقيقة أن الوضع السياسي في مصر يسير من سيئ إلى أسوأ تحت الرادار السياسي.
يبدو أن الولايات المتحدة تحاول تأخير اتخاذ قرارٍ صعبٍ آخر حول سياستها الإقليمية في المنطقة، الأمر الذي يريح الجنرالات في القاهرة، وعلى الأرجح بعض أعضاء فريق الرئيس الأميركي باراك أوباما لسياسة الشرق الأوسط.
يعد هذا التأجيل خطأ بحد ذاته، فمن خلال قبول انقلاب 3 يوليو/تموز الماضي والحملة العسكرية التي تلته ضد أنصار الرئيس المخلوع محمد مرسي، قد تكون الولايات المتحدة تساعد في زرع بذور تمرّد من شأنه أن يكون مكلفاً ومزعزعاً لاستقرار مصر لسنوات قادمة.
جاء رد إدارة أوباما على حملات القمع العسكرية التي حصدت أكثر من ألف قتيل على شكل يماثل ضربات خفيفة على أكتاف جنرالات مصر.
فقد ألغت المناورات العسكرية المشتركة مع مصر، وأعلنت أن موظفي الأمن القومي في البيت الأبيض سيقومون بمراجعة شاملة للمساعدات الثنائية.
ومنذ أواخر أغسطس/آب الماضي حتى بداية أكتوبر/تشرين الأول الجاري وضع قرار تعليق المساعدات العسكرية الأميركية للقاهرة على مكتب الرئيس أوباما، وفي الوقت نفسه أعادت قوات الأمن المصرية تصعيد حملتها ضد الإخوان المسلمين بمداهمة معاقل الجماعة، معتقلةً ما تبقى من كبار شخصيات الإخوان الذين لم يعتقلوا بعد.
جاء قرار تعليق المساعدات الأميركية الجزئي، الذي أعلن مؤخرا، متأخرا جدا ورمزيا إلى حد كبير.
إن القرار لن يؤثر على المساعدات “الضرورية” أو أي دعم أساسي في ما يخصّ المسائل الأمنية، ليس هذا إلا نصف تدبير آخر مربك من قِبل إدارة أوباما والذي سيكون له، حتى باعتراف كيري، تأثير ضئيل على حسابات الجنرالات.
بالطبع، فإن إدارة أوباما على يقين تام بأن الأمور لا تسير على ما يرام في مصر. حاول المسؤولون الأميركيون سرا وبفتور، التراجع عن تصريح وزير الخارجية جون كيري الغريب حين زعم أن القادة العسكريين في مصر كانوا “يسترجعون الديمقراطية”، وأخّروا تسليم مقاتلات “أف16” لمصر، ومع ذلك، كان ردّ فعل واشنطن العام بالتراجع عن العملية الديمقراطية في مصر، غير مطابق لخطورة الأزمة.
تدل ردّة فعل إدارة أوباما الضعيفة على الانجراف الإستراتيجي الأكبر لأميركا ردًّا منها على الثورات العربية التي حصلت عام 2011.
وفي أعقاب اندلاع ثورتي مصر وتونس، اعترف أوباما بأن الولايات المتحدة لم تقم بأفضل ما يمكن لإحلال الديمقراطية في العالم العربي، ووعد بطريقة جديدة للعمل في المنطقة، ومع ذلك، كلما سنحت الفرصة أمام واشنطن لإظهار دعمها للديمقراطية الحقيقية في مصر، تختار الأولى بدائل أخرى “كالصفقة الاستبدادية” التي ميّزت سياسة الولايات المتحدة في المنطقة على مدى العقود الماضية.
بدا خطاب أوباما في الأمم المتحدة يوم 24 سبتمبر/أيلول الماضي كأنه يؤكد واقع السياسة الأميركية. ففي خطابه الذي اتسم بنبرته المنهكة حول العالم، أقرّ أوباما بعبارات واضحة -على غير عادة صناع القرار في الولايات المتحدة- بأن الديمقراطية ثانوية لسياسة الشرق الأوسط، وأن المخاوف الأمنية و”المصالح الأساسية” لها الأسبقية.
يبدو أن إدارة أوباما تأمل أن يسعى الجيش المصري -ورغم وحشيته أو ربما بسبب ذلك- إلى قليل من الاستقرار، مما قد ينشئ خطر تكرار الأخطاء نفسها التي وقعت قبل الربيع العربي.
وبينما ساد الهدوء في أجزاء من القاهرة، ما زال طيف أعمال العنف يلوح في الأفق. تقوم بعض الجماعات المسلحة بجمع قواها في شبه جزيرة سيناء، مع زيادة حادة في الهجمات على قوات الأمن بعد الإطاحة بمرسي، وفي الوقت نفسه فقدت الدولة السيطرة على عدد من معاقل مؤيدي مرسي التي تتطلب استخدام القوة الساحقة في مدينتي دلجا وكرداسة في محاولة لاستعادة السلطة عليهما.
قد تكون هذه التفجيرات مجرد مثال أوّلي عما سيتبع لاحقاً، إذ تقدّم الحرب الأهلية الجزائرية التي أسفرت عن مقتل عشرات الآلاف ملاحظة تحذيرية، مفادها أن تصاعد الصراع وتحوّله إلى عنف واسع النطاق لم يحصل بعد انقلاب 1992 العسكري مباشرةً، وإنما بعد ذلك بسبعة أشهر على أقل تقدير.
ولتزيد الأمور سوءًا، لا يبدو أن الحكومة المصرية الجديدة تطمح للعودة إلى النظام القديم، ولكن إلى ما هو أسوأ وأخطر من ذلك.
وعلى عكس نظام حسني مبارك الذي تحمّل المعارضة في البرلمان ووسائل الإعلام، يهدف هذا النظام السياسي الجديد إلى السيطرة على السلطة بشكل تام، حيث يمكن أن تؤدي أبسط الانتقادات تجاه الجيش المصري إلى الاتهام بالتخوين. سينتج عن هذا النوع من القمع الذي نشهده اليوم -بما في ذلك أربع عمليات قتل جماعي خلال الصيف، شكلت إحداها أسوأ مذبحة بشرية في التاريخ المصري الحديث وفقا لمنظمة هيومن رايتس ووتش- عواقب دائمة على المجتمع المصري. وكما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز مؤخراً، “لقد تحوّل الجيران بعضهم ضد بعض، وتفرّقت العائلات” بسبب الانقسامات السياسية.
وأسبوعا تلو أسبوع، يرسخ النظام الاستبدادي في مصر نفسه أكثر فأكثر. وفي 23 سبتمبر/أيلول، خطا القضاء في مصر خطوة خطيرة أخرى، إذ لم يكتف بحظر الإخوان المسلمين فحسب، بل حظر أيضا “المنظمات المنبثقة عنها والتابعة لها من ممارسة أي نشاط في البلاد”، كما أعلن القاضي الذي يرأس الجلسة.
قبل هذا القرار، كان من الممكن أن يتابع حزب الحرية والعدالة -الحزب التابع للإخوان المسلمين- عمله، في حين تحل جماعة الإخوان المسلمين، لكن هذا غير مرجّح حاليًّا.
وبدلا من انتظار السيناريوهات السلبية لتصبح حقيقة، تحتاج الولايات المتحدة إلى الابتعاد عن إدارة الأزمات المرتجلة، وتغيير سياستها في مصر تغييرًا جذريًّا.
نعم، ما من حلول سريعة، ولكن يجب ألا يكون ذلك عذرا لواشنطن كي تبقى مكتوفة الأيدي.
أولاً، يتعيّن على الولايات المتحدة تعليق المساعدات العسكرية للقاهرة بالكامل، كما ينبغي أن تحدد الظروف التي تسمح لها باستئناف دعمها، والتي لا بد أن تشمل إعادة دمج أنصار مرسي والناشطين المناهضين للانقلاب في العملية السياسية.
ومن شأن كل ذلك إعادة توضيح سياسة الولايات المتحدة والإشارة إلى أن المساعدات الخارجية لمصر لا يمكن أن تستمر بأيّ شكل من الأشكال -تخفيض، إعادة هيكلة، أو غير ذلك- في ظلّ الظروف الرّاهنة.
ومن أجل تعزيز نفوذها، ينبغي على واشنطن أن تنسق هذا التحول مع شركائها في أوروبا واليابان وبلدان أخرى في المنطقة، مثل تركيا وقطر.
قد لا تبدو المساعدات الفردية ذات أهمية، ولكنها مجتمعةً قد تتمتع بتأثير مهمّ. كما أن على أيّ اتفاق يقوم به صندوق النقد الدولي من أجل مصر -مضافاً إلى المساعدات والالتزامات قد يصل إلى 15 مليار دولار- أن يرتكز على تقدّم سياسي ملموس يشرك الأطراف السياسية كافّة.
وقد جادل بعض المراقبين للشأن المصري مثل الرئيس السابق لمكتب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمجلس الأمن القومي ستيفن سايمون حول ضعف نفوذ واشنطن، ذلك أن المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى تعهدت بسد أي نقص في التمويل.
ولكن هذا -بكل بساطة- غير صحيح، لأن الرياض وبعض دول الجوار تستطيع توفير المساعدات الاقتصادية الناقصة، لكنها لا تستطيع تأمين التدريبات العسكرية والمعدات اللازمة لصيانة الدبابات الأكثر تطورًا والطائرات المقاتلة المصرية.
بنيت العلاقات العسكرية بين واشنطن والقاهرة على مدى عقود، ولا يمكن التراجع عنها دون أن تتكبّد مصر تكاليف باهظة.
كما هددت السعودية بحجب التعاون الأمني إذا قطعت الولايات المتحدة المساعدات، ولكن هذه مجرد خدعة، وعلى أوباما مطالبة المملكة بذلك.
تدعم الرياض المتمردين السوريين وتساند جهود مكافحة “الإرهاب”، لأن هذه السياسات تصبّ مباشرة في مصالح السعودية، لا لأنها تحاول إرضاء المسؤولين الأميركيين.
إن الولايات المتحدة صاحبة النفوذ في هذه العلاقة، فالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تعتمدان على مظلة أمن واشنطن، خاصة في ما يتعلق بالتهديد الإيراني.
في نهاية المطاف، تحتاج الولايات المتحدة إلى إعادة ترتيب أولوياتها الإستراتيجية في مصر بشكل أساسي، ويجب أن تتجاوز أساطير كامب ديفد -حاجة واشنطن إلى “شراء” السلام مع إسرائيل من القاهرة- وترفض فكرة أن العالم العربي يواجه خيارًا بين الأمن والديمقراطية.
عوضًا عن ذلك، ينبغي أن تتصرف وفقًا لتصريحات وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون عام 2011، انطلاقا من أن “الخيار الحقيقي هو بين الإصلاح والاضطرابات”.
على المدى الطويل، لا يمكن صون مصالح الولايات المتحدة الإستراتيجية إلا عبر دعم ظهور ديمقراطية حقيقية في مصر، فالبلدان التي تخضع للمساءلة من مواطنيها تكون أكثر استقرارا لأنها توفّر للمواطنين وسائل سلمية ومشروعة للتعبير عن مظالمهم.
في المقابل، إن “استقرار” الأنظمة الاستبدادية هش ووهمي، كما أظهرت الثّورات في مصر وتونس في الأيام الأولى من الربيع العربي التي كانت مليئة بالبهجة والسرور.
ومن اللافت للنظر كيف يمكن نسيان دروس مماثلة بسهولة، وقد اعترفت بها إدارة أوباما من قبل، في حين يصعب تجاهل الأخطار يومًا بعد يوم، سواء أكان تخفيض النفقات الاستبدادية، أو التمرد المتصاعد أو فقدان الحكومة المصرية السيطرة على أراضيها. قد يكون تجاهل الأزمة في مصر مغريا، ولكن يجب على الولايات المتحدة مقاومته.
Commentary
Op-edالقاهرة.. أتذكرونها؟
September 30, 2013