في 24 يناير 2018، تحادث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الأمريكي دونالد ترامب عبر الهاتف. واعتُبر توقيت هذه المكالمة حسّاساً لأنّها تلَت العمليةَ العسكرية التركية في مدينة عفرين، وهي منطقة تقع شمال غرب سوريا وتسيطر عليها وحدات حماية الشعب الكردية السورية التابعة لحزب العمّال الكردستاني المحظور في تركيا.
بالطبع لا يعدّ إجراء مكالمة هاتفية بين رئيسي بلدين عضوين في حلف شمال الأطلسي بالأمر غير العادي، لكن ما حصل عقب هذه المحادثة هو ما بدا غريباً. فقد أصدر البيت الأبيض نسخةً عن المكالمة أكّدت أنّ ترامب قد عبّر عن قلقه إزاء العنف المتصاعد جرّاء العملية التركية في عفرين وإزاء “الخطابات المدمِّرة والكاذبة الصادرة عن تركيا”. فسارع المسؤولون الأتراك إلى الادّعاء بأنّ مضمون هذه النسخة لا يعبّر عن طبيعة المكالمة الحقيقية. ويعكس هذا الخلاف القصير الأمد حول مضمون مكالمةٍ هاتفية وضعَ العلاقات الأمريكية التركية الراهنة، وهي علاقات تشوبها الخلافات والنزاعات وسوء التواصل.
صحيحٌ أنّ لسوء التواصل دوراً في هذا الخلاف، إلا أنّه لا يمكن اختصار مصدر الاختلاف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وتركيا بخطاب سياسي أو بسوء في التواصل. إذ يظهر التوتّر الحالي على المستوى الشخصي والمؤسساتي والجيوسياسي على حدّ سواء. وتنعكس مصادر هذه التوتّرات بأوضح أشكالها في سياق الحرب الأهلية السورية. فعلاوة على تأثير هذا الوضع الفوضوي بشكل كبير في السياق السياسي المحلّي التركي، لقد ترك بصمةً في هيكلية تحالفات تركيا الدولية والإقليمية.
ففي خلال الأزمة السورية، شهدت العلاقات التركية الأمريكية من جهة والتركية الروسية من جهة أخرى فترات من التعاون الوثيق التي ترافقت بانشقاقات كبيرة. ففي نوفمبر 2015، بعد أن أسقطت تركيا مقاتلة روسية، ازدادت العداوة والخطابات العدوانية كثيراً بين الدولتين، لكنّ الأحداث اتّخذت مساراً درامياً منذ ذلك الحين.
ففيما أخذت العلاقات التركية الروسية تتعافى منذ النصف الثاني من العام 2016 وشهدت تعاوناً حذراً في السياق السوري، اتّخذت العلاقات التركية الأمريكية اتّجاهاً معاكساً. فقد أدّى تراكم المشاكل الجديدة التي أضيفت إلى توتّرات محتدمة قديمة إلى تعكير صفو هذه العلاقات الثنائية.
ونظراً لأهمّية سوريا في السياق التركي الأمريكي، من الضروري اعتماد رؤية أوسع لتطوّر الأزمة السورية وتداعياتها بالنسبة إلى العلاقات التركية الأمريكية.
ففي خلال المرحلة الأولى من الثورات العربية، كان المأخذ الكبير لتركيا على الولايات المتحدة تردّدَها الملحوظ وعدمَ تحرّكها حيال تغيير النظام في سوريا. غير أنّه في السنوات الأخيرة، أصبحت سياسة الولايات المتحدة إزاء وحدات حماية الشعب الكردية في إطار الحرب على تنظيم داعش العثرةَ الأهمّ. في الواقع، أظهرت الأزمة السورية والحرب ضدّ تنظيم داعش أنّ الفجوة تتّسع بين ما تعتبره كلٌّ من تركيا والولايات المتحدة تهديداً وفي طريقة تعاملهما معه. فعلى سبيل المثال، اعتبرت تركيا أنّ مساعدة الولايات المتحدة لوحدات حماية الشعب الكردية تعكس لامبالاتها حيال أمن تركيا. ومع سقوط الحصار الذي فرضه تنظيم داعش على مدينة عين العرب (كوباني) الكردية السورية في أوائل العام 2015، والذي كان للدعم الجوي الأمريكي دورٌ حيوي في انهياره، أصبحت وحدات حماية الشعب الكردية بشكل متزايد الشريك المحلّي الأوّل للولايات المتحدة في المعركة على البرّ ضدّ تنظيم داعش. وقد حوّلت الولايات المتحدة تدريجياً تركيزها ومواردها من المجموعات المعارضة السورية إلى حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب الكردية التي غدت لاحقاً قوات سوريا الديمقراطية مع انضمام القوات العربية إليها في شرق الفرات ومنبج.
وقد سبّبت مساعدةُ الولايات المتحدة لقوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب الكردية قلقاً كبيراً لتركيا. وازداد هذا القلق بعد فشل عملية السلام الكردية المحلّية في تركيا في النصف الثاني من العام 2015، ممّا جعل تركيا تُعيد أمننة المسألة الكردية على الصعيدين المحلّي والإقليمي. ونظراً إلى ارتباط حزب العمّال الكردستاني بوحدات حماية الشعب الكردية، غيّر فشل عملية السلام في تركيا فوراً في الطريقة التي ترى فيها تركيا وحدات حماية الشعب الكردية.
وعلى الرغم من قلق تركيا الكبير في هذه المرحلة، لم تتخلَّ بالكامل عن الولايات المتحدة في سوريا، لا بل كانت من بين البلدان القليلة التي رحّبت بحرارة بانتخاب دونالد ترامب رئيساً، واعتبرت معظمَ الاحتكاكات في العلاقات الثنائية، ولا سيّما تلك التي سبّبتها الحرب الأهلية السورية، نتيجةً لسياسة أوباما غير الفعّالة في سوريا. لذلك، من خلال وصف التصدّع في العلاقات على هذا النحو، أملت تركيا أن تتمكّن من كتابة فصل جديد في العلاقات مع إدارة ترامب. وتبيّن لاحقاً أنّ هذا الأمل خائبٌ لأنّ ترامب حافظ نوعاً ما على التوجّهات العامة لسياسة أوباما حيال سوريا. لذلك، على الرغم من خوف تركيا من تحسّن العلاقات بين الولايات المتحدة ووحدات حماية الشعب الكردية بين العامين 2015 و2017، بقيت تترقّب أو تأمل أن تتراجع بعد هزيمة داعش (أقلّه من ناحية شكل التنظيم المناطقي) فائدةَ الأكراد في نظر الولايات المتحدة فيتلاشى معها الالتزام الأمريكي بهم.
إنّ محافظة الولايات المتحدة على تحالفها مع قوات سوريا الديمقراطية وترسيخه بعد انهزام داعش قد بدّدت أيَّ توقّعات في أنقرة حول ظهور تبدّل في السياسة الأمريكية في موضوع الأكراد السوريين. وترى أنقرة هذا التحالف على أنه تطوّر للشراكة الكردية السورية مع الولايات المتحدة لتتّخذ صيغةً أكثر استراتيجية وثباتاً فتتخطّى بالتالي اعتبارَ هذه العلاقات مجرّد نتيجةٍ لزواج مصلحة. وفي هذا السياق، تعتبر تركيا أنّ التزام الولايات المتحدة المفتوح الأخير هدفه الإبقاء على قوّة عسكرية في سوريا والسعي إلى إنشاء قوّة لمراقبة الحدود مؤلّفة من 30 ألف عنصر من المتوقّع أن يأتي معظمهم من الأكراد في وحدات حماية الشعب الكردية.
وقد حثّت هذه التطوراتُ تركيا إلى البحث عن خيارات أخرى، ولا سيّما مع روسيا، بدلاً من محاولة إقناع الولايات المتحدة بقطع العلاقات مع الأكراد السوريين. وتُعدّ عملية تركيا الجارية في مدينة عفرين مثالاً على ذلك. إذ يبدو أنّ مثلّث العلاقات الروسية التركية الأمريكية قد حدّد صيغة العملية في عفرين وطبيعتها وبالتأكيد نطاقها. وفيما أنّ خيبة تركيا من سياسة الولايات المتحدة القائمة على التعاون مع قوات سوريا الديمقراطية التي يسيطر عليها الأكراد هي التي دفعت بها جزئياً إلى العمل بشكل أوثق مع روسيا، إنما السياسة الروسية هي ما سيحدّد بشكل عام حدود العملية التركية في عفرين وطبيعتها.
وفي الوضع الراهن، تستفيد تركيا وروسيا كلتاهما من تعاونهما في سوريا. ففيما احتاجت تركيا إلى موافقة روسية على عمليتيها في سوريا (درع الفرات وغصن الزيتون في عفرين) يتعيّن على روسيا إبقاء تركيا قريبة منها للمحافظة على مسارها في سوريا. غير أنّ الخطر على تركيا يكمن في أنّ اعتمادها المفرط على روسيا سيحدّ من قدرتها على اتّباع استقلالية استراتيجية في سياستها الخارجية، ولا سيّما في سوريا. فروسيا تحيط بتركيا أكثر فأكثر، إذ لا يزداد امتدادها إلى شمال تركيا فحسب، بل من الجنوب (نظراً لحضورها في سوريا وليبيا) ومن الشرق أيضاً (نظراً لحضورها في جمهوريات سوفياتية سابقة مثل أرمينيا)، ممّا سيشكّل تهديداً استراتيجياً على تركيا على المدى المتوسط إلى البعيد.
أخيراً وليس آخراً، على الرغم من تزايد حالات الخلاف في العلاقات التركية الأمريكية، أدّى غيابُ آلية فاعلة لحلّ المشاكل بين هذين البلدين إلى تفاقم العلاقات بينهما. ولزيادة الوضع سوءاً، تضاءلت كثيراً الملكية المؤسساتية للطبقة النخبة الداعمة للعلاقات التركية الأمريكية في كلا البلدين. بالتالي، نتيجة هذه العوامل كلها، لا بد أن نتحضّر للمزيد من التدهور في العلاقات التركية الأمريكية.
Commentary
Op-edتضاربٌ في الآراء؟ انشقاقات في العلاقات الأمريكية التركية بعد سوريا
الجمعة، 26 يناير 2018