تم نشر هذا المقال باللغة الإنكليزية في مجلة فورين آفيرز.
لا شكّ في أنّ أصابع الاتهام توجَّه إلى السياسة الخارجية الأميركية بسبب وصول اللاعبَين الرئيسيين في الحملة العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أي الحكومة العراقية المركزية وحكومة إقليم كردستان، إلى مرحلة من التناحر. فمنذ أربعة أيام، أرسلت بغداد الآلاف من قوّاتها وميليشيات قوات الحشد الشعبي الشيعي إلى محافظة كركوك، التي تطالب بها حكومة إقليم كردستان وبغداد على حدّ سواء. وبعد الاشتباكات التي أعقبت رفضَ حكومة إقليم كردستان تسليم المحافظة، باتت الآن بغداد تسيطر على تلك الأراضي الغنية بالنفط.
ولطالما شكّلت كركوك إحدى أخطر المناطق الساخنة ومحطّ رغبة الجميع من بين الأراضي المتنازَع عليها، إذ تحتوي على قرابة تسعة مليارات برميل نفط وتضمّ عدداً من المرافق والمنشآت الاستراتيجية، من بينها حقول النفط والمطار وقاعدة “كي وان” (K1) العسكرية الهامة. وعلى مرّ التاريخ، كانت أكثرية سكّان كركوك من الأكراد، إلا أنه في خلال فترة حكم حزب البعث أرسِلت عائلات عربية إلى كركوك لتغيير التركيبة السكانية، وهي سياسة عُرفت باسم “التعريب.” وكانت المنطقة تخضع إلى إدارة مشتركة بين بغداد وحكومة إقليم كردستان، لكنّها أصبحت تحت السيطرة الكردية الكاملة بعد أن انسحب الجيش العراقي من المحافظة في العام 2014 عندما شنّ تنظيم داعش هجومه على شمال العراق. فانتقل الأكراد فوراً إلى كركوك لملء الفراغ الأمني الناتج عن ذلك. وظنّت بغداد أنه إذا بقيت كركوك تحت السيطرة الكردية إلى أجل غير مسمّى سيؤدّي ذلك ربّما إلى تعزيز جرأة كردستان، في وقتٍ تعاني فيه الدولة العراقية الضعف وتواجه فيه الطبقة السياسية الشيعية الحاكمة في بغداد أزمة سلطة.
وسارع المراقبون في الإعلان أنّ خسارة كركوك قد تؤخّر حكومة إقليم كردستان ومشروع بناء الدولة الكردية بشكل عام بعشر سنوات، وذلك بعد وقت قصير من استفتاء الاستقلال الكردي الذي جرى منذ ثلاثة أسابيع. غير أنّ هذه ليست نهاية الطريق لكردستان، وهي ليست بالتأكيد المعركة الأولى التي تُخاض من أجل كركوك، وعلى الأرجح أنها لن تكون الأخيرة. ويتمحور الموضوع في الأساس في أنّ العراق يواجه أزمة وجودية ناجمة عن مؤسّساته الضعيفة أو المنهارة، والصراع الطائفي، والتهديد المتواصل من الجماعات الجهادية.
العبادي وقوّات الحشد الشعبي
لم تندّد الولايات المتحدة بالهجوم على كركوك، حتّى أنه، وفقاً لبعض التقارير، تلقّت الولايات المتحدة تنبيهاً مسبقاً بالهجوم. واستند قبولها بتعبئة القوات العسكرية في بغداد إلى أنّ ذلك سيعزّز قوّة الرئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي ويُحيّد الفصائل الشيعية المتشددة المتحالفة مع إيران جانباً. باختصار، كلّما بدا العبادي أقوى أمام الناخبين، تحسّنت حظوظه في الفوز في الانتخابات المقبلة، أو بالأحرى هذا هو التفكير السائد في واشنطن. إلا أن ذلك لطالما شكّل منطقاً غير سليم.
فلانضمام قوات الحشد الشعبي إلى قوّات الأمن العراقية دلالةٌ ملفتة، وهو يشير بحدّ ذاته إلى أن ثقةَ العبادي بأن القوّات العراقية التقليدية قادرة وحدها على استعادة كركوك غائبةٌ. بيد أن القيام بذلك عرّضه للخطر. فبالإجمال، سعت الفصائل المتحالفة مع إيران وخصوم العبادي في حزبه (حزب الدعوة الإسلامي)، بمن فيهم رئيس الوزراء السابق القوي والمثير للجدل، نوري المالكي، إلى إنهاء رئاسته للوزراء منذ العام 2014، وذلك عبر تبنّي موقف صدامي نحو الأكراد والعرب السنّة المعتدلين والفصائل الشيعية. وهدفت هذه الجهود عموماً إلى منع العبادي من إظهار نفسه زعيماً فعّالاً وموحّداً قبل الانتخابات في شهر أبريل 2018.
وإن أدّى الانتصار في كركوك إلى شيء، فهو مهّد الطريق نحو سقوط العبادي: فقد منح صعود قوات الحشد الشعبي المزيد من الزخم. في هذه الأثناء، وبعد ساعات من الفوز في كركوك، أنزلت قيادة منظمة بدر القوية، وهي ميليشيا أنشأها الحرس الثوري الإيراني في الثمانينيات، وكتائب حزب الله التي صنّفتها الولايات المتحدة كمنظمة إرهابية، علمَ كردستان في مجلس المحافظة، بالرغم من بروز ادّعاءات بأنّ القوات العراقية وحدها كانت في كركوك.
حلفاء غير اعتياديين
ربما منح إنشاء حكومةٍ كردستانية مستقلّة تماماً ومتحالفةٍ مع الولايات المتحدة تسيطر على كركوك حافزاً لكي تتّحد الفصائل الشيعية المختلفة في العراق. إلا أنّ هذا التحالف غير الاعتيادي سينحلّ سريعاً نظراً إلى تفاقم المعركة داخل الطبقة السياسية الشيعية بشأن الدولة العراقية ومواردها في الأشهر المقبلة. وعلاوة على الضغوط التي يمارسها المالكي والميليشيات الموالية لإيران في قوّات الحشد الشعبي، يواجه العبادي مقاومةً من رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، الذي يرأس الحركة الاجتماعية السياسية الأقوى في العراق، وقد جيّشت مئات الآلاف من المؤيدين ضد الحكومة في خلال العامين الماضيين.
فالسلطة في العراق منتشرة وموزّعة بين الأحزاب والميليشيات والعشائر ورجال الدين، وتحوّلت الدولة العراقية ووزاراتها إلى شبكات من المحسوبيات. ومنذ إطاحة نظام صدّام حسين، تمّ الطعن بالانتخابات على أساس الانتماء الإثني والطائفي، ممّا أدّى إلى قيام حكومات ائتلافية وترتيبات طائفية لتقاسم السلطة تطلّبت مفاوضات كبيرة بين فصائل عرقية طائفية متعددة. وعلى الرغم من أن هذا النظام قد يسمح بالوصول إلى حكم أكثر شمولية، فقد أدّى أيضاً إلى حالة من الجمود السياسي في ظلّ غياب الوحدة الوطنية.
وبالنسبة إلى الأكراد، يحسّن هذا الاختلال موقفهم في المفاوضات. فمنذ العام 2003، لم يتمّ تشكيل أيّ حكومة من دون مشاركة كردية. في الواقع، استغّل إقليم كردستان هذه الدينامية في خضمّ ترسيخ مكانته في أماكن مثل كركوك. فقد لا يسيطر الأكراد بعد اليوم على كركوك، لكنهم سيظلون عنصراً أساسياً لتشكيل أيّ حكومة في بغداد بعد الانتخابات المقبلة. وقد تضع بغداد حدّاً للمشاركة الكردية في الحكومة الائتلافية، إلا أنّ لذلك نتائجَ كارثية على العراق، وهو أمر تقاومه الفصائل السنية والشيعة العربية على حدّ سواء في بغداد، إلى جانب تركيا والولايات المتحدة وجِهات كثيرة من العالم العربي، لأنها تخشى من أن يدعم مثل هذا التدبير في نهاية المطاف عناصر الطبقة السياسية المدعومة من إيران مع وضع شرعية الدولة العراقية في موضع شكّ.
وعلى الصعيد الإقليمي، سيتخطّى إقليم كردستان الأوضاع نظراً إلى التقلّب الذي يشهده الشرق الأوسط والمعركة بين إيران وتركيا من أجل الهيمنة. إلا أنّ إيران وتركيا متّحدتان ضدّ الاستفتاء ودعمتا العملية في كركوك. غير أن ما يجمع أنقرة وبغداد وطهران ضدّ حكومة إقليم كردستان لن يصمد على المدى الطويل. ففي شمال العراق، سبق أن بدأت تركيا وإيران بدعم جماعات مسلّحة متنافسة تتصارع من أجل السيطرة على الأراضي الاستراتيجية الغنية بالموارد المحاذية لسوريا، حيث تتحارب إيران وتركيا كلٌّ على أحد الجانبين.
في غضون ذلك، تشكّل حكومة إقليم كردستان قناةً هامة يمكن من خلالها مواجهة الجماعات الكردية المتمركزة في تركيا وإيران وإدارتها، كما هو الحال منذ عقود. فبالنسبة إلى تركيا، تضطلع حكومة إقليم كردستان بدور حاسم في احتواء حزب العمال الكردستاني. كذلك، تواجه إيران حزب الحياة الحرة الكردستاني (بيجاك)، وهو المجموعة الشقيقة لحزب العمال الكردستاني في إيران، وقد استعادت عافيتها ونشاطها، والحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني. وقد منحت حكومة إقليم كردستان ملاذاً آمناً لهذا الحزب الذي امتنع عن الانخراط في صراع واسع النطاق مع إيران، ويعود جزء كبير من الفضل في ذلك إلى جهود القيادة الكردية العراقية.
وأمّنت شبكة العلاقات الشخصية والتنظيمية بين الأكراد لتركيا وإيران وسائل غير عنيفة وفعالة من حيث الكلفة لإدارة قضاياها الكردية الداخلية. ومن شأن إضعاف حكومة إقليم كردستان أن يقوّض هذه الجهود. بالإضافة إلى ذلك، قد تتنافس الدولتان قريباً على إقامة علاقات أقوى مع حكومة إقليم كردستان لترجيح كفّة ميزان القوى الإقليمي نحوها ولحماية نفسها ممّا قد يلي نهايةَ الحملات العسكرية ضد تنظيم داعش في سوريا والعراق.
مَن يواجه الأزمة؟
عند كتابة هذا التقرير، كان السكّان المحليّون في كركوك ومدينة خانقين (الواقعة في محافظة ديالى المتنازع عليها) يقاومون قوات الحشد الشعبي وقوات الأمن العراقية، وقد يتمكّنون من طردهم. وقد تدرك بغداد قريباً حجم التحدّي الذي انخرطت فيه من خلال مفاقمة التوترات العرقية والطائفية في محافظةٍ عجزت في السابق عن حكمها وإرساء الاستقرار فيها، فكيف بالحري السيطرة عليها. بعبارة أخرى، لا يسمح وضع بغداد اليوم بالاحتفال. فليس الأكراد مَن يواجهون أزمة وجودية بل العراق الذي ينقسم بين مراكز قوّة متعددة والذي يواجه السخط العربي السني الذي قد يسمح بعودة تنظيم داعش، والذي يفتقر إلى المصداقية والشرعية التي يحتاج إليها لحل أي من هذه المشاكل. من هذا المنطلق، قد يكون النجاح من نصيب الأكراد في النهاية.
Commentary
Op-edالصراع حول كركوك: لِمَ الأزمة الحقيقية في بغداد وليس في أربيل
الجمعة، 20 أكتوبر 2017