يبرُز تطوير السياسات بشأن العدالة الانتقالية عادة عندما نشهد “انتقالاً” سياسياً. بيد أنّ الدروس المُستخلَصة من السياسة العامة للعدالة الانتقالية التي اعتمدها الاتّحاد الأفريقي تشير إلى أنّه يمكنها أن تبدأ قبل ذلك بكثير. وبإمكان عملية تطوير السياسات بحدّ ذاتها أن ترسم معالم الخطاب الخاص بالعدالة الانتقاليّة وممارستها مصمّمَين ليناسبا بشكل أفضل السياقات الإقليمية ومدفوعَين بحاجات الضحايا. وفي سياق الاتّحاد الأفريقي، ساعد تطوير السياسات على تعزيز مبادئ العدالة والمساءلة والمصالحة والشفاء والسلام المستدام في أرجاء القارّة.
فهل بإمكان السياسات أن تؤدّي دوراً في إطلاق عمليات عدالة انتقالية ودعمها في العالم العربي؟ وكيف نُطلق تطويراً للسياسات عندما تكون الدول في خضمّ الصراع أو عندما تفتقر إلى مؤسّسات موثوقة وإرادة سياسية؟ كانت هذه الأسئلة المتعدّدة الأوجه موضع نقاش في خلال حلقة حوارية حول العدالة الانتقالية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في ورشة عمل أقامها مركز بروكنجز الدوحة في مارس 2020 بعنوان “الإبداع في العدالة الانتقالية: تجارب من المنطقة العربية”. وفي خلال التحضير لهذه الورشة، تأمّلتُ في تجاربي كشخص يمارس العدالة الانتقالية ويعمل في سياقات أفريقية مختلفة. واستقيت من الدروس المحصّلة من الخطاب المتغيّر للعدالة الانتقالية في أفريقيا لأحدّد إن كان بينها وبين منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أوجهُ شبه محتملة.
وتشكّل وثيقة السياسة العامة للعدالة الانتقالية خطوطاً توجيهية للدول الأعضاء لتطوير سياساتها واستراتيجياتها وبرامجها الخاصة التي تناسب سياقها من أجل الوصول إلى تحوّل ديمقراطي واجتماعي اقتصادي وسلام مستدام ومصالحة وعدالة. وتمّ التوصّل إلى عملية تطوير السياسات هذه بعد عشرة أعوام من البحوث والانخراط المجتمعي وإقامة الشبكات والمناصرة الاستراتيجية، وقد نجحت بحدّ ذاتها في تحسين التصوّرات الشعبية للعدالة الانتقالية والربط بين أصحاب المصلحة الإقليميين ووضع الأسُس لعمليّات عدالة مستقبلية بقيادة وطنية. ويمكن أن تلاقي مبادرةٌ من هذا القبيل نجاحاً مماثلاً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
الربط بين البحوث والسياسات والممارسة
مع أنّ العدالة الانتقالية السائدة ترتكز على العدالة والحقيقة والتعويضات وضمانات عدم التكرار، تُبيِّن عدّة دراساتِ حالات أفريقية أنّ هذه الركائز الأربعة وحدها لا تعالج بشكل ملائم تجاربَ الصراع ونتائجَه المتنوّعةَ في أرجاء القارّة. وعوضاً عن اعتماد مقاربة واحدة لكلّ الحالات تمّ استيرادها من بلدان الشمال، كان السياق الأفريقي بحاجة إلى عملية تعطي الأولوية للتصوّرات المحلّية الموضوعة للعدالة والمصالحة والسلام والشفاء وتستلهم منها. بالتالي، حدّدت السياسة العامة للعدالة الانتقالية 11 عنصراً تشكّل جزءاً لا يتجّزأ من وضع تصوّرٍ للعدالة الانتقالية وتطبيقها في سياقات وطنية مختلفة في أفريقيا.
لكن لتتحوّل السياسات إلى ممارسةٍ قابلة للتنفيذ ينبغي عليها أن تتحوّل من نظرية إلى واقع من ناحية التصميم والتطبيق. وتشكّل البحوث عنصراً حاسماً في ردم الهوّة بين الاثنين. وفي ما يخصّ السياسة العامة للعدالة الانتقالية، أمّنت التقارير القُطرية عن الصراعات البيانات والتحليل والمعلومات لصانعي السياسات والممارسين والجهات الحكومية. والمعلومات المُستخلصة من هذه البحوث مهمّة لأنّها سلّطت الضوء على حاجات الناس الأكثر هشاشة في الصراعات وعلى التجارب التي عاشوها، ممّا يحرص على معالجة مخاوفهم.
تأسيس مجتمع من الممارسة
العدالة الانتقالية عملية سياسية بشكل متأصّل، إذ تعتمد على إرادة الدولة ودعمها لكي تنطلق. وغالباً ما تُوجَّه إليها التهمة بأنّها عملية نخبوية. وفي بداية عملية تطوير السياسة العامة للعدالة الانتقالية، كانت الدول الأعضاء مقتنعة بأنّ العدالة الانتقالية مفهومٌ غربي يهدف إلى تجريد القيادة الأفريقية من سلطتها. بناء على ذلك، لم تقدّم دعماً يُذكر للمبادرة. وكان للضحايا والمجتمعات مفاهيمُ ضيّقة عن مكوّنات العدالة الانتقالية الأساسية، ولا سيّما مفاهيم العدالة والتعويضات والسلام، ممّا أفضى إلى توقّعات غير واقعية وإلى غياب الدعم المجتمعي للمبادرات بقيادة وطنية. ومن الأمثلة التي شهدناها عن ذلك في مالي وغامبيا وجنوب السودان الظنُّ بأنّ التعويضات تعني تعويضات مالية فحسب. ومع أنّ الدول تتحمّل المسؤولية الأساسية بتقديم التعويضات، علينا أن نتذكر بأنّنا نتعامل مع حكومات بموازنات محدودة لا تخوّلها تقديم تعويض نقدي ولن تكون قادرة على تلبية مطالب الضحايا أو حاجاتها.
وقد تشارَك الاتّحاد الأفريقي والمجتمع المدني في عدد من النشاطات التي شملت ورش عمل ومؤتمرات. وأتاحت هذه المنصّات الفرص لبناء قدرة أصحاب المصلحة في الدولة والمجتمع المدني بغية العمل على تحقيق أهداف العدالة الانتقالية وتسليط الضوء على منفعتها في السياق الأفريقي. وبذل قسم الشؤون الخارجية في الاتّحاد الأفريقي الجهودَ للحرص على تخصيص بعض النشاطات المحدّدة للمجموعات المُهمَّشة والهشّة، على غرار النساء والفتيات والكبار في السنّ وذوي الإعاقة والشباب والشتات.
في نهاية المطاف، نجحت عملية السياسة العامة للعدالة الانتقالية في دمج الخبرات والجهات الفاعلة والموارد الأفريقية. ونجحت أيضاً في تشكيل مجتمع ممارسة قارّي رسّخ شرعية المقاربة الأفريقية للعدالة الانتقالية. وسهّلت النقاشاتُ حول السياسات المحتملة الانخراطَ المباشر مع الدول الأعضاء وشدّدت على الحاجة إلى انخراط هذه الدول في عملية التطوير بحدّ ذاتها. وساعد هذا بدوره على بروز مناصرين للعدالة في عدّة دولٍ تشجّع هذه السياسة الآن. بهذه الطريقة، تمّ التخفيف من حدّة الأفكار النمطية السلبية حيال العدالة الانتقالية في أفريقيا.
غياب العمليات الانتقالية: تحدٍّ مستمرّ
في خلال ورشة العمل، برز سؤالان أساسيان بشكل متكرّر. أوّلاً، هل حصلت عمليات انتقال فعلاً في دول مثل مصر والسودان والجزائر وليبيا؟ وثانياً، هل تنفع العدالة الانتقالية في منطقة معقّدة مثل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث العمليات الانتقالية جزئية في أفضل حالاتها؟ ليس لهذَين السؤالَين أجوبةٌ بسيطة. لكن يبيّن عمل السياسة العامة للعدالة الانتقالية أنّ الجهات الفاعلة الإقليمية بحاجة إلى المساحة اللازمة للبدء بمعالجة هذَين السؤالين. وبالفعل، من المفترض أن تكون قادرة على البحث في أفكار جديدة وتوسيع حدود العدالة الانتقالية السائدة.
بغضّ النظر إن كانت الصراعات انتهت أو ما زالت الإرادة السياسية للتغيير المجتمعي قائمة، من شأن عمليّة بشأن السياسسات أن تتيح الفرصَ لوضع أساس للعدالة الانتقالية. وقد لا يحين “الوقت المناسب” للبدء بتطوير السياسات، فلم تحظَ السياسة العامة للعدالة الانتقالية بوقت مثالي للشروع بها، لكنّنا عرفنا أنّه لن يأتي يوم يكون فيه الوقت غير مناسب، وأنّه إن لم نحاول لن نعرف أبداً.
Commentary
Op-edالسياسات بشأن العدالة الانتقالية في المنطقة العربية؟ دروس مستخلصة من الاتّحاد الأفريقي
الثلاثاء، 24 نوفمبر 2020