لقد أتى الجواب الفلسطيني على “صفقة القرن” التي طرحها الرئيس الأمريكي ترامب رفضاً سريعاً ومتوقَّعاً. فبعد مغازلة وجيزة مع ترامب وفريقه منذ أكثر من عامَين، بات محمود عباس، رئيس منظّمة التحرير الفلسطينية ورئيس السلطة الفلسطينية، منذ تلك الآونة يعتبر جهود البيت الأبيض مؤامرةً لتصفية الحركة الوطنية الفلسطينية، وهي تهمة كرّرها في مجلس الأمن يوم الثلاثاء.
وفي الأيام التي تلت إعلان الخطّة في 28 يناير، دعا عبّاس شعبه للنزول إلى الشارع للاحتجاج وطلب انعقاد اجتماع طارئ للجامعة العربية في مصر وبعث برسالة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي يهدّد فيها بوقف كلّ التنسيق بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، بما في ذلك موضوع الأمن.
وتثبّت تفاصيل الخطّة مخاوف عبّاس بالإجمال. فما يُدعى “رؤية” ترامب يلتزم بشكل وثيق للغاية بالمواقف التي يتبنّاها أقصى اليمين الإيديولوجي في إسرائيل، لا بل حتّى يستعين بلغته وخطابه، مثل اللجوء إلى إشارات توراتية لتبرير السيطرة السياسية الإسرائيلية على القدس. بالتالي، في حال تمّ السماح بنشوء دولة فلسطينية، ستكون دولة بالاسم لا أكثر، إذ ستُجرّد من كلّ عناصر السيادة ذات المغزى وستقع في أرخبيل من الجيوب المعزولة والمهمّشة التي تشبه البانتوستانات في جنوب أفريقيا في حقبة الفصل العنصري. وستحتفظ إسرائيل بأكثر من 30 في المئة من الضفّة الغربية وكلّ مستوطناتها والقدس بأسرها، فضلاً عن سيطرة تامّة على الأمن والمياه والأجواء والحدود وحتّى المعاهدات والتحالفات في فلسطين. وستكون الاستقلالية الفلسطينية مقيّدة جداً لدرجة أنّ على “الدولة” الجديدة طلب الإذن من إسرائيل لحفر بئرٍ لأنّ حقوق المياه الجوفية تبقى في يد إسرائيل.
بعبارة أخرى، الخطّة مهزلة. لكن مع ذلك، لا يأتي التهديد الفعلي لتصفية الحركة الوطنية الفلسطينية من إسرائيل أو الولايات المتحدة، بل من فشل قيادتها. طبعاً لقد كشفت رئاسة ترامب عن الوهن الأساسي للسياسة الفلسطينية وخمول قادتها وحالة مؤسّساتها الرثّة بعد أكثر من ربع قرن من عمليات السلام والفشل التام لاتفاقيات أوسلو.
سلسلة من النكسات
منذ زمن الانتداب البريطاني في فلسطين إلى تجدّد الحركة الوطنية تحت لواء منظّمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات وإلى اليوم، عارضت إسرائيل بالإجمال التطلّعات الوطنية الفلسطينية، وعادة ما تكون الولايات المتحدة حليفاً حاضراً في الجهد المبذول لإعاقة هذه التطلّعات. مع ذلك، لم تختفِ الحركة الوطنية ببساطة، بل صمدت وتخطّت الكثير من التحديات والنكسات عبر الزمن.
ومع أنّ إسرائيل اعترفت في نهاية المطاف بمنظّمة التحرير الفلسطينية مُمثلاً شرعياً للفلسطينيين في العام 1993 مع توقيع اتّفاقيات أوسلو، لم تقبل آنذاك بحقّ الفلسطينيين بتقرير مصيرهم في دولة سيادية خاصّة بهم. عوضاً عن ذلك، عكست اتفاقيات أوسلو حدودَ ما كانت إسرائيل مستعدّة للقبول به منذ بداية المفاوضات: كيان فلسطيني مجرّد من الجنسية للاهتمام بالحوكمة المحلّية في الضفّة الغربية وقطاع غزّة، فيعفي إسرائيل بذلك من معظم موجباتها كمحتلّ عسكري ويسمح لها في الوقت عينه بممارسة السيادة على كامل الأراضي. ومن دون تقدير أساسي متشاطر لما ستؤول إليه المفاوضات أو من دون أيّ شروط قانونية مرجعية، حوّل انهيار الاتفاقيات في النهاية هذا الاتفاق المؤّقت إلى وضع مستمرّ. علاوة على ذلك، هذا هو جوهرياً ما ستكرّسه خطّة ترامب بشكل نهائي في حال طُبّقت.
لكن لأكثر من عامَين، وفيما وضع فريق ترامب مبادرة تلو الأخرى بشأن السياسات إما بهدف ترسيخ السيطرة الإسرائيلية على الأراضي المحتلّة، بما في ذلك القدس، أم بهدف تقويض المواقف الفلسطينية، لم يصدر عن عباس والمقرّبين منه سوى إطلاق شعارات بالية. فعوضاً عن مواجهة الاقتراح الوشيك بشكل فاعل عبر تقديم رؤية بديلة والعمل مع الحلفاء في المنطقة وخارج المنطقة لحشد الدعم لها على الأقل، لم تحرّك القيادة الفلسطينية ساكناً وانتظرت من دون وضع استراتيجية أو رؤية مُقنعة.
تعرف إسرائيل أنّ تهديدات عبّاس بإنهاء التعاون مع السلطة الفلسطينية أو حلّ السلطة برمّتها ليس أمراً يمكن القيام به. فكان ذلك يتطلّب، في مرحلة ما على مدى السنوات الخمس عشرة الأخيرة، بناء البدائل اللازمة لهيكليات حقبة أوسلو التي تعفي إسرائيل من مسؤوليات الحكم مع تعزيز اتّكال الفلسطينين على كلّ شيء، ابتداء من المياه والكهرباء وصولاً إلى المرافئ والرخص. بناء على ذلك، قد يكون القيام بمناورات ذات صلة على غرار قرار السلطة الفلسطينية مؤخراً بحظر استيراد بعض المنتجات الإسرائيلية إلى الأسواق الفلسطينية أمراً فعالاً في المبدأ، لكنّ الفلسطينيين غير جاهزين أبداً للحرب التجارية التي ستنشب جراء ذلك على الأرجح. وانتشالُ الفلسطينيين من هذه الورطة من دون خطر هائل على رفاههم مهمّةٌ تتخطّى مؤهلات هذه القيادة.
وعوضاً عن البحث عن مخرج من فوضى أوسلو، غاص عبّاس أكثر فأكثر وأصبح أكثر اتّكالاً على الرضا الإسرائيلي والأمريكي للسير قدماً بقضية إنشاء الدولة الفلسطينية. وعوضاً عن تمتين العلاقات المُجدية في الخارج، من ضمنها العلاقات بين الشتات الفلسطيني، تمحورت استراتيجيته حول الانتظار لحلول تغييرات جذرية داخل إسرائيل أو الولايات المتحدة قد تُنقذ حلّ الدولتَين. وبفعل هذا الاتّكال الشديد غدت إسرائيل والولايات المتحدة في موقع يخوّلهما إلحاق ضرر جسيم إلى هذا الحدّ بالحركة الوطنية.
ولا شكّ في أنّ القيادة الفلسطينية ستجد عزاء في قرار الجامعة العربية برفض اقتراح ترامب بالإجماع، ممّا قضى على آمال الإدارة الأمريكية بأن تجمع الدعم لرؤيتها للمنطقة الأوسع. ولحق ذلك بعد أيام قرارٌ لمنظمة التعاون الإسلامي دعا الدول الأعضاء السبع والخمسين إلى “عدم الانخراط في الخطّة أو التعاون مع الإدارة الأمريكية في تطبيقها بأيّ شكل من الأشكال”.
غير أنّ هذه المواقف تتعارض مع تحوّلات مهمّة في الشرق الأوسط حول المسألة الفلسطينية والعلاقات مع إسرائيل. فقد قرّبت وقائعُ جيوسياسية جديدة، بما فيها الاضطراب الإقليمي، والتهديدُ المتصوّر للتوسّعية الإيرانية والانحسارُ الأمريكي، بين إسرائيل وبعض الدول العربية. علاوة على ذلك، أنّى للمرء أن يتوقّع أن تمتنع الدول العربية إلى ما لا نهاية عن متابعة مصالح مشتركة مع إسرائيل فيما تتعاون السلطة الفلسطينية مع إسرائيل بشكل يومي؟ طبعاً لا يستطيع عبّاس أن يطلب منها أن تكون أكثر تشدّداً من السلطة الفلسطينية بحدّ ذاتها.
ويتّصل بهذا الأمر الجمهورُ العربي الأوسع وحماسه للقضية الفلسطينية، التي عادة ما أدّت دور الزاجر للقادة الإقليميين. لكن في السنوات الأخيرة تضاءل هذا الحماس، ويُعزى ذلك جزئياً إلى تبوّؤ مسائل أخرى أكثر إلحاحاً الأولوية، لكنّه يُعزى أيضاً إلى قيادة الفلسطينيين الهرمة وغير اللافتة والضيّقة الأفق التي لم تحرّك ساكناً مؤخراً لتحميس الرأي العام الإقليمي. (إنجاز لمراهقة اسمها عهد التميمي واجهت جندياً إسرائيلياً في العام 2017 بيّن كيف يمكن أن تأسر أعمال المقاومة مخيّلة العالم.)
ويسري الأمر أيضاً في الداخل حيث تضاءلت شعبية عباس ومصداقيته بسبب غياب التقدّم في شأن تأسيس الدولة والحوكمة الرديئة بالإجمال وتعليق الانتخابات الديمقراطية والرغبة في المحافظة على التعاون الأمني مع إسرائيل. وعوضاً عن تفويض شرعي، لجأ بشكل متزايد إلى أدوات القمع للبقاء في السلطة. وفي خضمّ ذلك، أسكت النقّادَ وكَبَت النقاش البنّاء وأفقد الشعب حماسه، إلى درجة أنّه بالكاد بقي أيّ من الهيكليات التي سمحت للفلسطينيين قبلاً بتحدّي الاحتلال الإسرائيلي.
وحيثما كان من الممكن اعتبار منظّمة التحرير الفلسطينية هيئة ممثلة شرعياً، لكن بدون أن تكون هيئة ديمقراطية، حوّلتها الجهود لتعزيز السيطرة على المؤسسّة إلى كيان فارغ: تمّ إبعاد اللاجئين والشتات عن العملية السياسية وقسم كبير من المجتمع الفلسطيني المرتبط بالفصائل الإسلامية، مثل حماس، ليس منضوياً تحت مظلة منظمة التحرير وخسرت الفصائل الباقية الكثير من صلتها السابقة بالأوضاع.
لا بديل عن القيادة السياسية
ينبغي أن تكون حالة الشؤون الفلسطينية همّاً للجميع، بغضّ النظر عن خلفيّتهم السياسية. فهذا الضعف هو ما سمح لإسرائيل بالاستفادة من أفضليّتها إلى أقصى الحدود، وهو أمر يكمن في صلب الجهود الفاشلة لإحلال السلام. وإذا في مرحلة من المراحل في المستقبل قرّرت إسرائيل أنّه من مصلحتها إبرام اتفاق مع الفلسطينيين، ما من جهة شرعية كفاية لدى الفلسطينيين لتوقّع اتفاقية دائمة مجدية. وسمح الوهن الفلسطيني أيضاً لأولئك الأسرئيليين الراغبين في الوصول إلى استسلام فلسطيني تامّ باستغلال المبادرة، التي قرّبت إسرائيل من الضمّ والفصل العنصري، فضلاً عن الواقع الثنائي الذي هو أكثر ما يخشاه الكثيرُ من الإسرائيليين.
مع ذلك، طالما الفلسطينيون محرومون من الحقوق المدنية والسياسية، سيستمرّ الصراع ويتردّى ويولّد المزيد من عدم الاستقرار. وفيما أضعفت القيادة الفلسطينية الحالية الحركة الوطنية، ما زالت تحظى بالكثير من المقوّمات التي تستطيع التعويل عليها: ما زالت الهوية الفلسطينية راسخة ومنتشرة ويشكّل الناشطون والمجتمع المدني وداعميه، من ضمنهم مجموعات إسرائيلية ويهودية، على المستوى الشعبي المكوّنَ الأنشط والأكثر إلهاماً في الحركة الوطنية ويقدّم جيل جديد من الأكاديميين والمفكّرين إطاراً فكرياً جديداً لفهم الصراع يستعين به الشعب لتوجيه نضاله وتبقى التعديات اليومية التي يواجهها الفلسطينيون خزّاناً لا ينضب يأخذون منه التبرير والطاقة لقضيّتهم.
من شأن حملة شعبية، على غرار حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها التي تأسّست في العام 2005 كوسيلة للضغط على إسرائيل في وجه فشل الجهات الفاعلة الحكوميّة في حلّ هذا الصراع، أن تكون آلية قوّية للتغيير، غير أنّها ليست بديلاً عن برنامج سياسي مترابط تسير به قدماً الجهات الفاعلة السياسية.
المستقبل الوحيد الذي تحظى به الحركة الوطنية الفلسطينية هو في حال أفسحت القيادة الراهنة المجال أو أُرغمت على إفساحه، لتعطي الآخرين فرصة للقيادة.
Commentary
التهديد الفعلي لفلسطين هو أزمة قيادة
الخميس، 13 فبراير 2020