تم نشر هذا المقال باللغة الانكليزية في موقع جيرمن مارشال فند.
لم يسبق لأيّ أزمة أن عكّرت العلاقات التركيّة – الأمريكيّة بقدر المسألة السورية المعقّدةّ. فعلاوة على تشكيلها الإطار السياسيّ التركيّ المحلّي بشكل ملحوظ، لقد أثّرت الأزمة السورية أيضاً في سياسة تركيا الخارجيّة وهيكليّتها التحالفيّة. فأصبحت هويّة تركيا الجيوسياسيّة وتحالفها الطويل الأجل مع الولايات المتّحدة ومكانتها في حلف شمال الأطلسيّ (الناتو) مثيرة للجدل. ويتعارض تعاون تركيا الزائد مع روسيا، كما مع إيران، مع هويّتها في حلف شمال الأطلسيّ، وهويّتها الجيوسياسيّة التي ترتكز على الغرب والهويّة الأمنية بالمجمل.
في حين نعتبر الأزمة السورية عائقاً ثابتاً في العلاقات التركية – الأمريكيّة، قد اختلفت طبيعة شكاوى تركيا تجاه الولايات المتّحدة في خلال مراحل الأزمة السورية. ففي بداية الأزمة، كان التركيز بشكل حصريّ على الإطاحة بنظام الأسد، وتعلّقت أبرز شكاوى تركيا بما بدا أنّه غياب عزم إدارة أوباما على إسقاط نظام الأسد. واستمرّت هذه الحالة حتّى أواخر العام 2014 إلى أوائل العام 2015.
وفي الوقت عينه، انتقدت الولايات المتّحدة الأمريكيّة بشدّة تركيا التي تساهلت في عمليّة مرور المقاتلين المتطرّفين عبر حدودها إلى داخل سوريا. وفي ذلك الوقت، كانت الولايات المتحّدة قد أعطت الأولوية على القضاء على الإرهاب على حساب تغيير النظام في دمشق. غير أنّ الولايات المتحدة لم تكن الجهة الفاعلة الوحيدة التي أعادت ضبط سياستها تجاه سوريا. إذ شهدت سياسة تركيا إزاء سوريا تحوّلاً هائلاً، فابتعدت بشكل متزايد عن سياستها المتمحورة حول نظام الأسد، وأصبحت تتمحور حول حزب الاتّحاد الديمقراطيّ ووحدات حماية الشعب. ونظراّ للرابط بين حزب الاتّحاد الديمقراطيّ وحزب العمّال الكردستانيّ، اعتمدت تركيا بشكلٍ متزايد سياسة مكافحة التمرّد في سوريا. وعملت كلّ من تركيا والولايات المتّحدة الأمريكيّة مع حلفاء محليّين أو وُسطاء لتحقيق أهدافهما، لكنّهما لم تثقا بحلفائهما المحليين، أو حتى اعتبرتاهم إرهابيين بشكلٍ صريحٍ، ممّا أدّى إلى توتّرات كبيرة في العلاقات الثنائيّة.
وفيما أشرفت حرب الولايات المتّحدة على الدولة الإسلاميّة المزعومة على الانتهاء، بلغ قلق تركيا إزاء تزايد أهميّة دور حزب الاتحاد الديمقراطيّ ووحدات حماية الشعب في شمال سوريا ذروته. فحثّـت تلك المخاوف تركيا على الابتعاد بشكل كبير عن دور المتفرّج حيال التطوّرات في شمال غرب سوريا لكي تصبحَ مشاركاً نشطاً. وعبر موسكو مرّت طريق تركيا لكي تصبح مشاركاً نشطاً في شرق غرب سوريا، إذ أصلحت تركيا العلاقات مع موسكو بسلاسة، لكن سرعان ما تفكّكت بعد أن أسقطت تركيا طائرة روسيّة في نوفمبر 2015، وبقيت الأمور على حالها حتّى النصف الثاني من العام 2016 وما بعد. وحين بدأت العلاقات مع روسيا تتعافى، باشرت تركيا سياستها القائمة على المواجهة المباشرة وغير المباشرة مع حزب الاتّحاد الديمقراطيّ ووحدات حماية الشعب. ونفذّت هذه السياسة في مراحل متعدّدة.
فأوّلاً، أثناء عمليّة درع الفرات في العامين 2016 و2017، أقامت تركيا حصاراً تسلّمت إدارته بنفسها إلى جانب مجموعات المعارضة المتحالفة بين منطقتي منبج وعفرين، اللتين كانتا تحت إدارة المجموعتين الكرديّتين السوريّتين، حزب الاتّحاد الديمقراطيّ ووحدات حماية الشعب. فضمنت هذه العمليّة بقاء المناطق الخاضعة لسيطرة حزب الاتّحاد الديمقراطيّ في شمال سوريا مجزّأة. ثانياً، مع إنشاء تركيا مناطق خفض التصعيد في شمال إدلب (نتيجة للاتّفاق التركيّ-الروسيّ-الإيرانيّ لإنشاء مناطق خفض التصعيد ضمن إطار عمليّة أستانة)، والتي تقع في غرب إقليم عفرين، عرقلت تركيا بشكلٍ فعّال أيّ توسعّ غربيّ لوحدات حماية الشعب نحو البحر الأبيض المتوسّط. وخدمت هذه العمليّة أهداف تركيا في سوريا: إبقاء الحصار الكرديّ مغلقاً. وثالثاً، مع عمليّة عفرين والسيطرة على المدينة، باشرت تركيا سياسة سحب المكاسب في الأراضي التي حققها الأكراد السوريون بقيادة حزب الاتّحاد الديمقراطيّ إلى مكان آخر، تحديداً إلى غرب الفرات.
وفي هذه المرحلة، يبدو أنّ تركيا تشارف على تحقيق ما شجّعت عليه منذ فترة: دفع حزب الاتّحاد الديمقراطيّ إلى شرق الفرات. فقد ساعد انتصار تركيا العسكريّ في إقليم عفرين الخاضع لسيطرة الكرديّة إلى الاقتراب أكثر من هذا الهدف. وإلى جانب تل رفعت، تبقى منطقة منبج التي تخضع لسيطرة الولايات المتحدّة المنطقة الوحيدة التي تسجلّ وجوداً لوحدات حماية الشعب في غرب الفرات. على الرغم من ذلك، من المستبعد أن تحصل أيّ تسوية مؤقّتة بين تركيا والولايات المتحّدة عن منبج منفصلة عن أيّ اتّفاق متبادل حول المناطق في شرق الفرات. فبالتالي، ستكون منبج جزءاً من اتفّاق أوسع قد يتخطّى العلاقات الثنائيّة بين تركيا والولايات المتّحدة. ومن المرجّح أن تشكّل سياسة الولايات المتّحدة ضدّ إيران التي طال انتظارها والسياسة التي أعيد تنشيطها مؤخّراً جزءاً من مناقشات قصيرة، متوسّطة، وطويلة الأمد بين تركيا والولايات المتّحدة حول منبج.
المبادئ التوجيهيّة:
فيما تضع كلّ من تركيا والولايات المتّحدة الأمريكيّة سياساتهما في سوريا في المرحلة المقبلة، عليهما التركيز على ثلاثة مبادئ أساسيّة.
الشرعيّة الديمغرافيّة: كالعديد من سياقات الحرب الأهلية، لقد مرّت سوريا بعدد ملحوظ من التغيّرات الديمغرافيّة القسرية. وتجعل هذه الهندسة الديمغرافيّة تحقيق المصالحة في فترة ما بعد الحرب الأهليّة مهمّةً أصعب. إذ تسيطر الولايات المتّحدة على عدد كبير من الأراضي في سوريا. وبالمثل، ينتشر نفوذ تركيا وسيطرتها في شمال شرق سوريا. فيجدر بكلا الطرفين التأكّد من أنّ المؤسسات الإدارية والأمنية في المناطق الواقعة تحت سيطرتهما تراعي مبدأ الشرعية الديمغرافية. وعلى هذه البنى أن تعكس حقيقة التقسيمات الديمغرافيّة في هذه المناطق.
شرعيّة الحوكمة: إنّ نوعيّة الحوكمة وقدرتها عامل شرعي أساسيّ في سياقات الحرب الأهليّة. على كلّ من تركيا والولايات المتّحدة رسم استراتيجيّات تعزّز نوعيّة حوكمتها وترقّيها، على سبيل المثال لا الحصر القطاع الأمنيّ، كلّ في المناطق الخاضعة لها.
جعل الحوكمة والإدارة سوريّتين: لكي لا تُعتبر الولايات المتّحدة وتركيا قوّات احتلال لفترة طويلة، ولكي يتحوّل حلفائهما المحلّيون من متمرّدين مسلّحين إلى هيئات قادرة على الحكم، عليهما وضع سياسية تدريجيّة لنقل الأدوار والمسؤوليّات في الحكم إلى أطراف سوريّة في أقرب وقت ممكن.
وجهات نظر قصيرة الأمدّ
إذا وضعنا تلك المبادئ جانياً في الوقت الراهن، ساهمت الديمغرافية العربية التي تشكلّ الأغلبيّة في منبج، بالإضافة إلى وعود الولايات المتّحدة السابقة لتركيا بأنّ وحدات حماية الشعب ستنسحب من شرق الفرات عندما يُطرد تنظيم داعش من المنطقة، في تشكيل صيغة قد شجّعها الكثيرون، وهي إدارة أو إشراف مشترك بين القوات التركية والأمريكيّة على المدينة. لكن من المستبعد أن تُطبّق هذه الصيغة بمفردها من دون نوع من اتّفاق حول الأراضي في شرق الفرات. وفي هذه المرحلة، تبدو استراتيجية التخفيف التي تهدف إلى تقليص سيطرة وحدات حماية الشعب وحزب الاتّحاد الديمقراطيّ على المؤسسات الإدارية والأمنية أنها صيغة توافقية. وبموجب هذا، يشكّل كلّ من إنشاء قوات سوريّة ديمقراطيّة وحزب سوريا المستقبل المعلن عنه مؤخّراً خطوات في الاتجاه الصحيح، على الرغم من أنّها غير كافية لوحدها. إنّ المكوّنات العربية المتنامية في المؤسسات الإداريّة والأمنيّة التابعة للمناطق المحميّة من الولايات المتّحدة الأمريكيّة في شرق الفرات مهمّة جداًّ للاستمراريّة والشرعيّة الديمغرافيّة لتلك المؤسسات. وبالمثل، على تركيا الـتأكّد أنّ أيّ مؤسسات إداريّة أو أيّ إدارة محليّة توضع في إقليم عفرين تمثّل طبيعة الأغلبية الكردية في الإقليم. في الواقع، نظراً للأهميّة المتزايدة التي حصدتها تلك الهويّات في خلال الحرب الأهليّة السورية، يجب أن تشكّل الشرعيّة الديمغرافيّة أحد المبادئ التوجيهية لأيّ مؤسسات أمنيّة وإداريّة قد تضعها تركيا والولايات المتّحدة على جانبي الفرات.
وجهات نظر متوسطّة وطويلة الأمدّ
صحيح أنّ هاتين الخطوتين مهمّتان لتخطّي الأزمة المتزايدة في العلاقات بين تركيا والولايات المتّحدة، إلا أنهما غير كافيتين كنموذج أو رؤية لسوريا. على الولايات المتّحدة وتركيا اعتبار أيّ انفراج حول منبج أو أيّ قضيّة أخرى بمثابة إجراءات لبناء الثقة بين الطرفين لتمهيد الطريق أمام تعاون أكبر في سوريا. هنا، ينبغي على الولايات المتّحدة أنّ تقدّر الدور التركيّ في ملء الفراغ في غرب الفرات، والذي كان من الممكن أن تملؤه روسيا و/أو إيران و/أو أيّ نظام آخر.
ومن ناحيةٍ أخرى، على تركيا أن تقدّر أنّ شراكتها مع الولايات المتّحدة قد تكون أكثر فائدة للمعارضة السورية من تحالفها الجزئيّ مع روسيا، المصمّمة على تصغير حجم المعارضة السورية بقدر الإمكان. وبالمثل، على الرغم من أنّ الشراكة بين الولايات المتّحدة ووحدات حماية الشعب قد سبّبت قلقاً كبيراً في أنقرة، فإنّ رحيل الولايات المتّحدة بتسرّع من سوريا سيصعّد الوضع من جديد، من المرجّح أن يحدث تشويش شديد بين تركيا وإيران والنظام وروسيا بالنسبة لأرض شرق الفرات.
وفي هذا الصدد، وعندما يتم التوصّل إلى اتفاق بشأن منبج، على الولايات المتّحدة وتركيا العمل معاً لوضع خطّة لشمال سوريا بشكل عامّ. ويجب على تركيا تسهيل دخول الولايات المتّحدة (ليس بالضرورة عسكرياًّ) إلى غرب الفرات، وعلى الولايات المتّحدة أن تفعل بالمثل لتركيا لشرق الفرات.
وفي هذه الفترة، يجب أن يكون الهدف الأساسيّ خلق تفاهم على قدر الإمكان في ما يتعلّق بالمؤسسات الإداريّة والأمنيّة للمواقع التي تسيطر عليها تركيا والولايات المتّحدة. من المنهج الدراسيّ إلى النظام القانوني حتّى قوّات الشرطة. وعلى الهدف الأكبر من هذا الاتّفاق أن يكون اندماج المنطقتين. وفي هذا الإطار، يمكن أن تشكّل إدارة مشتركة لمنبج اختباراً أو نموذجاً يحتذى به لإدارة هذه المنطقة المندمجة بشكلٍ واسعٍ.
وقد يشكّل أحد الأعمدة الأساسية لمنطقة ذات إدارة مشتركة من هذا القبيل ظهور أحزاب سياسيّة جامعة لمختلف المجتمعات تعمل في المناطق الخاضعة لسيطرة تركيا والولايات المتّحدة. وعلى كل منهما التشجيع على تطوير تلك الأحزاب وإنشاء برلمان مناطقي، الأمر الذي قد يؤدّي دوراً مهماًّ في الدمج السياسيّ. وعندما يتحقق هذا التفاهم والتعاون التركي الأمريكي داخل سوريا، يمكن للفريقين عندئذٍ، أو عليهما، إدخال الأوربيّين لمباشرة جهود تحقيق الاستقرار وإعادة الإعمار في هذه المناطق المُدمجة.
وسيقلّص هذا الدمج التدريجيّ للمناطق الواقعة تحت سيطرة تركيا والولايات المتّحدة من تبعيّة تركيا لروسيا. وبالمثل، ستوفّر هذه المنطقة فرصةً للمجموعات السورية المعارضة أو غير التابعة للنّظام بإجراء تجارب ديمقراطيّة أو أنماط حوكمة مختلفة عن تلك التي يعتمدها النظام على حوالي ثلث الأراضي السورية. وفي المقابل، سيضعّف هذا الأمر الشعار الذي أصبح شائعاً مؤخّراً “النظام يربح والمعارضة تفشل” في المراحل المقبلة.
Commentary
Op-edتفكيك الأزمة التركية الأمريكية في سوريا
الإثنين، 16 أبريل 2018