لم يبدأ الربيع العربي في العام 2011، بل مع الجيل السابق في العام 1985، أقلّه بالنسبة إلى الكثير من السودانيين الفخورين. فقد تمّ خلع رئيسٍ من الحكم في ذلك العام إثر احتجاجات شعبية. وهي ثورة شكّلت منذ ذلك الحين بصيصَ أمل، وإن كان خافتاً، لمدّة ثلاثة عقود من الظلام السياسي. واليوم، نزل عشرات الآلاف من السودانيين إلى شوارع الخرطوم من جديد، آملين استعادة تلك الذكريات المذهلة والإطاحة برئيس آخر. ويتمتّع الكونغرس بمركز فريد يتيح له مساعدة هذه الحشود والتخفيف من احتمالات وقوع انهيار عنيف آخر في المنطقة، لكن عليه أن يتصرّف بسرعة.
وما الأعداد القياسية التي شهدتها التظاهرات هذا الأسبوع سوى جزء من سلسلة من التظاهرات المناهضة للحكومة بدأت في شهر ديسمبر الأخير كردّ على ارتفاع أسعار الأغذية. فبعد سنوات من الفساد وسوء الإدارة، شارف الاقتصاد على الانهيار، ولم يبقَ عائماً إلّا بفضل النقود التي يضخّها الخليج بين الفينة والفينة. وشهدت السنوات الأخيرة احتجاجات شبيهة بسبب الضائقة السياسية والاقتصادية في البلاد، غير أنّ كلّ واحدة منها تعرّضت لقمع الأجهزة الأمنية العظيمة، وهي الشيء الوحيد الذي استثمرت فيه الحكومة بشدّة كضمانة للحماية من سوء حكمها.
غير أنّ هذه المرة، تغيّر أمر ما. ففيما تركّزت التظاهرات الماضية في الخرطوم وكانت بقيادة قواعد ناخبة ضيّقة، كانت احتجاجات هذا العام أوسع انتشاراً وأكثر تنوّعاً، وبالتالي أكثر صموداً. فبعد أن اندلع ما عُرف بالانتفاضة (#SudanUprising #مدن_السودان_تنتفض) في عطبرة، وهي مدينة متوسطة الحجم في شمال البلاد، انتشرت في ما بعد في أنحاء البلاد وبقيت مشتعلة بفضل شريحة أوسع من المجتمع السوداني، بما فيها الطبقات المحترفة التي لفترة طويلة تعرّضت للتدمير أو للطرد خارج البلاد. ويُعرف النظام القمعي في مدينة الخرطوم بقدرته على إخماد هذا النوع من الانشقاق العام، غير أنّ الشعور الثوري متأجّج بقوّة هذه المرّة.
ويزداد الوضع تأجّجاً بفضل الانقسامات داخل حزب المؤتمر الوطني الحاكم الذي هو عبارة عن منظّمة متداعية استبدلت منذ وقت طويل السياسةَ والأيديولوجية بمنصةٍ للصمود. وغالباً ما أسيء فهم هذا الحزب الذي يقوده الرئيس عمر البشير، وهو متّهم لدى المحكمة الجنائية الدولية، واعتُبر كتلةً منفردة. غير أنّه لطالما شابته الانقسامات (بين المدنيين وكبار العناصر الأمنيين وبين الإسلاميين والعلمانيين وبين الاشتراكيين والرأسماليين)، من بينها موضوع طريقة الانخراط مع الغرب. وازدادت الشقوق في العام الماضي عندما سعى البشير، الذي تولّى الحكم في انقلاب في العام 1989، إلى الترشّح من جديد للانتخابات في العام 2020. (خلف الكواليس، سيعترف عددٌ كبير من الأعضاء في الحزب أنّهم توّاقون لمغادرة البشير تماماً مثل أكثر ناقديه حماسة في الشارع).
وتزايدت أيضاً الانقسامات داخل مؤسّسة البلاد الأمنية، نتيجة الخصومة بين الجيش والأجهزة الأمنية المنافسة التي يتزايد نفوذها. ويدعو المحتجّون الجيشَ إلى التدخّل، كما فعل في العام 1985، فبات الكثير من الضباط فجأة إزاء قرار صعب، فهل يقفون إلى جانب الرئيس المستعدّ للقتال أم إلى جانب الحشود المجتمعة الآن أمام بوّاباتهم. وفي الأيام الأخيرة، اتّخذت فصائل الجيش تدابير لحماية المتظاهرين من هجمات القوّات شبه العسكرية وجهاز الأمن والمخابرات الوطني المنتشرة في كلّ مكان. وقد تصادمت اليوم هذه القوى علناً، في إشارة تنذر بما قد يحصل.
ليس السؤال الأساسي الكامن في لبّ المعمعة الحالية في السودان إذا كان من المفترض أن يتنحّى الرئيس البشير أم لا، فرحيلُه أمرٌ آن أوانه منذ فترة طويلة، بل يتمحور السؤال حول كيفية رحيله: كيف من الممكن أن يغادر بطريقة تزيد إلى أقصى حدّ فرصَ تحقيق مرحلة انتقالية منظَّمة وتقلّص خطر وقوع انهيار عنيف.
تطالب القواعد الناخبة المعارِضة، وهي محقّة في طلبها، بتأليف حكومة انتقالية في ظلّ قيادة جديدة، قيادة تشرف على عملية مراجعة شاملة للدستور وتعبّد الطريق لانتخاباتٍ تخضع لمراقَبة دولية. ولا بدّ من أنّ ترتيباً كهذا يتضمّن الإفراج عن السجناء السياسيين وإلغاء القيود المفروضة على النشاط السياسي وإنهاء الصراع في أطراف السودان. والأهمّ أنّه لا بدّ من أن تتضمّن المرحلةُ الانتقالية حزبَ المؤتمر الوطني لكن عليها أن تُعلن عن تاريخ محدّد زمنياً لرحيل الرئيس البشير، المتمسّك بالحكم لكي يتفادى استدعاء من محكمة العدل الدولية في لاهاي. ولا يدّعيَنّ أحدٌ أنّ هذا الأمر سيكون سهلاً، غير أنّ هذه الخطوة تشكّل الطريق الفضلى للمضيّ قُدماً.
ولمدّة طالت أكثر من اللازم، اتّصفت السياسة الأمريكية إزاء السودان بالضغط والعزل، وهو موقف أخفق في تحقيق النتائج المرجوّة. ويُعزى ذلك جزئياً إلى الإفراط في اللجوء إلى العقوبات من أجل المعاقبة بدلاً من تحقيق التغيير. (لقد أدّت الجهود الدبلوماسية الأمريكية الأخيرة الآيلة إلى التغيير إلى تحقيق نتائج). وأمام الكونغرس الآن فرصةٌ لدفع السودان في الاتجاه الصحيح، من خلال إرسال إشارة واضحة إلى قوى الإصلاح المعتدلة وإلى أولئك المتردّدين في اتخاذ موقف بأنّ للعودة إلى المصداقية الدولية وإلى الشراكة الأمريكية طريقاً مُتاحاً.
وعلى الديمقراطيين والجمهوريين في الولايات المتحدة أن يتّخذوا قراراً يحدّدون فيه معايير المرحلة الانتقالية التي يقابلها الكونغرس بالعمل سريعاً على الحدّ من التدابير العقابية القائمة وتقديم محفّزات لدعم المرحلة الانتقالية. ومن الممكن أن يتضمّن ذلك تقديمَ الدعم للتخفيف من أعباء الديون للدول في البنك الدولي ورصد الأموال لإلغاء حصة الولايات المتحدة الصغيرة نوعاً ما من ديون السودان، ممّا يفسح المجال أمام التخفيف من أعباء الديون لمجموعة أكبر من الدائنين الأجانب، وإظهارَ استعداد لإعادة العلاقات الدبلوماسية، من خلال التشجيع على زيارة لوزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو ومن خلال تعيين سفير أمريكي جديد إلى السودان ليكون السفير الأوّل الذي يُعيَّن منذ العام 1997، فضلاً عن غيرها من الخطوات، وتخصيصَ تمويل إنمائي جديد من وكالة التنمية الدولية التابعة للولايات المتحدة (USAID)، واتخاذَ إجراءات فعلية لتشجيع الاستثمار التجاري، وإلغاءَ تصنيف السودان كـ”دولة راعية للإرهاب”، في حال تابعت الخرطوم امتثالها للمتطلبات التقنية.
وأولئك الذين يأملون بمستقبل أفضل مجتمعون حالياً عند مدخل المقرّ العسكري الرئيسي في السودان. وهم لا يستحقّون أن يحظوا بفرصة لتجديد سياسي فحسب، بل يستحقّون أيضاً أن يتفادوا كارثة شبيهة بتلك التي عانتها ليبيا. ولا تستطيع واشنطن أن تحدّد النتائج، غير أنّه عليها أن تتحرّك الآن لتمنح هؤلاء أفضل فرصة للنجاح.
Commentary
اغتنام لحظة التغيير في السودان: كيف بإمكان الكونغرس المساعدة
الأربعاء، 10 أبريل 2019