لقد باتت عملية أوسلو التي انطلقت منذ 25 عاماً في مثل هذا اليوم مع المصافحة الشهيرة في حديقة البيت الأبيض بين رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات رسمياً في عداد الأموات.
فمنذ ديسمبر 2017، انتهج الرئيس دونالد ترامب مسارات تبتعد بعداً جذرياً عن السياسة الأمريكية المعهودة. فكان مساره الأوّل أن اعترف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، مطيحاً بذلك بسبعة عقود من السياسة الأمريكية الرسمية ومتحدّياً إجماعاً دولياً طويل الأمد. ولحق بهذا القرار اقتطاعٌ كبير في المساعدات المخصّصة للسلطة الفلسطينية، ظاهرياً بهدف الضغط على القادة الفلسطينيّين ليعودوا إلى طاولة التفاوض، بالإضافة إلى إنهاء التزام أمريكي طويل الأمد تجاه وكالة الأمم المتّحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيّين في الشرق الأدنى (الأونروا)، وهي وكالة الأمم المتحدة المسؤولة عن تقديم خدمات لحوالي خمسة ملايين لاجئ فلسطيني. ويبدو القرار الأخير جزءاً من جهد قامت به الإدارة مع حلفائها في الكونغرس لتجريد الأغلبية الساحقة من اللاجئين الفلسطينيّين صفةَ اللاجئ بهدف إزالة المسألة بأكملها عن طاولة الحوار. وقد أتى قرار الإدارة في أوائل هذا الأسبوع بإقفال مقرّ منظّمة التحرير الفلسطينية في واشنطن – وهي سفارة الفلسطينيّين بحكم الأمر الواقع – ليزيل أحد البقايا الملموسة الأخيرة لعملية أوسلو في واشنطن.
وفيما يبدو من المغري عزو انهيار عمليّة أوسلو إلى سياسات ترامب الرجعية للغاية، فالواقع أنّ عمليّة أوسلو تشهد تدهوراً مستمرّاً منذ أكثر من عقد، وقد انتهت مدّتها فعلياً حتّى قبل انتخابات العام 2016. بالفعل، تعود جذور الكثير من تصرّفات ترامب إلى عدّة قوانين وإلى سياسات أمريكية تمّ تشريعها في أواسط تسعينيات القرن الماضي – أي في ذروة عمليّة أوسلو. وفيما يتحمّل القادة الإسرائيليون والفلسطينيون بلا شكّ مسؤولية فشل العمليّة المتكرّر، لا ينبغي غضّ الطرف عن دور واشنطن في انهيار عمليّة أوسلو، ولا سيّما بسبب احتكارها شبه الكامل للعمليّة على مدى ربع القرن الماضي. في ما يلي نعرض أربع نقاط تساعد على تفسير فشل عمليّة أوسلو وينبغي أخذها في عين الاعتبار في حال بروز أيّ عمليّة دبلوماسية جديدة.
1- للقوّة أهمية (كبيرة)
لا تقتصر الدينامية بين إسرائيل والفلسطينيّين على مسألة صراع فحسب، بل هي مسألة احتلال أيضاً. فإسرائيل التي تتمتّع باقتصاد متقدّم والقوّة العسكرية الأقوى في الشرق الأوسط تحكم حياةَ حوالي خمسة ملايين فلسطيني من دون دولة منتشرين في الضفّة الغربية وقطاع غزّة. وقد شكّل هذا حقيقةً محورية غالباً ما تجاهلها صانعو السياسات الأمريكيون ونكرها صراحةً الكثير من المسؤولين في إدارة ترامب.
وبالرغم من أنّه ما من وسيلة للتوصّل إلى تكافؤ كامل بين الطرفَين، ينبغي على أيّ وسيط فعّال أن يستخدم نفوذه مع الطرفَين للحثّ على تمرير أهداف عمليّة السلام. لكن منذ أن هيمنت الولايات المتّحدة على عمليّة أوسلو في أواسط التسعينيات، تفادت إلى حدّ كبير الإداراتُ الأمريكية المتتالية من الحزبين السياسيَّين (الجمهوري والديمقراطي) ممارسةَ الضغط على إسرائيل. والمنطق خلف هذا التصرّف هو أنّ القادة الإسرائيليّين سيكونون مستعدّين أكثر “للمخاطرة من أجل السلام” في حال شعروا أنّهم في أمان من الناحيتَين السياسية والعسكرية. وعلى الرغم من أن هذه الصيغة لم تنل تأييد كلّ رئيس، التزم معظمهم بها، أكان عن قناعة أم كان ببساطة لتفادي معارضة اللوبي القوي الداعم لإسرائيل وداعميه في الكونغرس.
غير أنّ الواقع كان مختلفاً تماماً. فبتخفيف الضغط عن الطرف الأقوى، ساعدت عمليّة السلام على تحمّل تكاليف الاحتلال الإسرائيلي وسمحت للقادة الإسرائيليّين بتفادي القرارات الصعبة وغير الشعبية سياسياً التي قد يتطلّبها حلّ الدولتَين، وهي في المقام الأوّل إزالة المستوطنات اليهودية أو تسليم الأراضي للسيادة الفلسطينية أو تقسيم القدس.
2- السياسة الفلسطينية مهمّة (أيضاً)
برزت فكرة خاطئة أخرى شكّلت ركيزةً لجهود الوساطة الأمريكية على مدى العقدَين المنصرمَين، ألا وهي الاعتقاد بأنه يمكن تجاهل السياسة الفلسطينية أو تحييدها أو ربطها بحاجات عمليّة السلام المتصوَّرة. بالفعل، نظراً إلى ميل واشنطن إلى رؤية عمليّة السلام من منطلق العلاقة المميّزة مع إسرائيل، بالإضافة إلى السياسات المحليّة الأمريكية، باتت أوسلو وسيلةً ليس لحلّ الصراع فحسب، بل لتحويل السياسة الفلسطينية أيضاً بهدف جعلها شريك سلام مناسب. وعلى عكس علاقة عملية أوسلو بالسياسة المحليّة الإسرائيلية، لم تتجاهل العمليّةُ السياسة الداخليةَ الفلسطينية. فبالإضافة إلى تحويل العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية، أعادت عمليّة أوسلو في الأساس تنظيم السياسات والمؤسّسات الحاكمة الفلسطينية وتحديدها، بما فيها مصادرها الأساسية للشرعية. ونظراً إلى طبيعة عمليّة السلام التدخليّة للغاية، من بين أمور أخرى، يمكن القول إنّه كان للولايات المتّحدة، بصفتها الوسيط الرئيسي، والبلدان المانحة وحتّى إسرائيل سلطة القرار المباشر، لا بل غالباً قرار نقض حتّى، في نواحٍ مهمّة من الحياة السياسية الفلسطينية.
لكن في النهاية، فشلت المحاولات في قمع نواحٍ من السياسة الفلسطينية أو في إعادة هندستها وأدّت في نهاية المطاف إلى نتائج عكسية. فقد عزّزت عمليّةُ السلام الركودَ والاختلال والتجزئة التي تتّصف بها السياسة الفلسطينية، علماً بأنّ الفلسطينيّين هم من وضعوها بالإجمال. وبصورة خاصّة، لقي الانقسام المدمِّر بين حركتَي حماس الذي شلّ السياسات الفلسطينية وعزّز العنف وعدم الاستقرار في غزّة وأنقص من شرعيّة قيادة محمود عبّاس وفتح تشجيعاً من إدارة بوش ودَعَمه جزئياً رفضُ واشنطن لجهود التوافق الفلسطينية. في النهاية، تمكّنت واشنطن، من خلال اعتمادها الكبير على التهديدات في تعاملها مع القادة الفلسطينيّين، من تحويل هؤلاء القادة ليصبحوا أكثر إذعاناً، لكنّها تركتهم ضعفاء جدّاً ليكونوا شركاء سلام يمكن الوثوق بهم. ومن خلال التركيز على طمأنة الإسرائيليّين وإصلاح الفلسطينيّين، بدل تحدّي الديناميّات التي أدامت الصراع – أي الاحتلال الإسرائيلي العسكري للضفّة الغربية وقطاع غزّة الذي مرّت عليه عقود – ساعدت الوساطة الأمريكية على تعزيز اختلال القوى الكبير بين الجهتَين (هذا إن لم تمأسسه)، وساعدت في الوقت عينه على الإبقاء على الوضع الراهن.
3- المساءلة المتبادلة ضرورية جدّاً
تسلّط النقطتان أعلاه الضوء على ركيزة أساسية أخرى في الوساطة الفعّالة، ألا وهي المساءلة المتبادلة. فبهدف أن تنجح أيّ عمليّة، يجب أن يُظهر الوسيط استعداداً لتوجيه أصابع الاتّهام نحو التصرّفات التي يقوم بها الطرفان والتي تضرّ بعمليّة السلام، وعليه أن يفرض عواقب لها حتّى. لكن فيما عاقب البيت الأبيض والكونغرس الفلسطينيّين بانتظام، لم يُظهرا استعداداً لإنزال العقاب بالجهة الإسرائيلية. وتطرّقت أحياناً إدارات أمريكية متعدّدة إلى التمادي الإسرائيلي، مثل بناء المستوطنات أو لجوء الجيش الإسرائيلي إلى القوّة المفرطة، لكنّها نادراً ما أظهرت استعداداً لفرض ثمنٍ لهذه التصرّفات، هذا إن أبدته على الإطلاق.
وينجم هذا التصرّف عن حسابات سياسية بسيطة أكثر منه عن خبث أو جهل. فقد امتلك قادة الولايات المتحدة وإسرائيل، وهما الجهتان الفاعلتان الأقوى في العمليّة وتربطهما “علاقة مميّزة”، المحفّز والقدرة على تحويل معظم المخاطر والأعباء السياسية إلى الفلسطينيّين قدر المستطاع، ولا سيّما عندما ساءت الأحوال. وكلّما ازدادت المخاطر والأعباء السياسية المحتملة، أزداد الترجيح بأن يلقي السياسيون الأمريكيون هذه الأعباء على عاتق الفلسطينيّين. وقد صحّ ذلك عندما قرّر بيل كلينتون أن يلقي على عرفات والفلسطينيّين وحدهم لوم فشل قمّة كامب ديفيد في يوليو العام 2000 واندلاع انتفاضة الأقصى بعد ذلك ببضعة أشهر – علماً أنّ المسؤولين الأمريكيّين كانوا مدركين أنّ ما تمّ اقتراحه في كامب ديفيد بعيد البعد كلّه عن مطالب الفلسطينيّين الدنيا وأنّ الطرفَين ساهما في تصاعد العنف. بالمثل، مع أنّ جورج بوش الأبن لم يوافق على الهجوم العسكري الإسرائيلي على الضفّة الغربية في ربيع العام 2002، فقد أطلق تحالفُه مع أرييل شارون بعد اعتداءات 11 سبتمبر وموجةٌ من الاعتداءات الإرهابية قام بها مقاتلون فلسطينيّون يدَ رئيس الوزراء الإسرائيلي نسبياً ليقضي على الانتفاضة مع تدمير منظّم للمؤسّسات الفلسطينية الحاكمة والأمنية في الوقت عينه.
4- من الضروري أن تكون القواعد الأساسية لعمليّة السلام واضحة وثابتة
كجزء من السعي الدائم إلى طمأنة قادة إسرائيل، غالباً ما كان الرؤساء الأمريكيون مستعدّين لتغيير قوانين اللعبة الدبلوماسية لمصلحة إسرائيل، حتّى مع فرضهم مجموعة من الموجبات الصارمة والمتغيّرة باستمرار على الفلسطينيّين. فقد دعمت الإدارات الأمريكية المتعاقبة قرارَ مجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة رقم 242، الذي دعا إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي على أساس “الأرض مقابل السلام”، كركيزة لعمليّة السلام، علماً بأنّها أحدثت ثغرات فيه في الوقت نفسه. وقد شجب الرئيسان كلينتون وبوش على حدّ سواء المستوطنات الإسرائيلية باعتبار أنّها عائقاً لتحقيق السلام، لكن منحا إعفاءات مهمّة للقدس الشرقية وبناء “كتل استيطانية” كبيرة وتحقيق “نموّ طبيعي” وعدّة ثغرات أخرى.
وما من مثل يُصوّر القواعدَ المتغيّرة لعمليّة السلام أفضل من خارطة الطريق، أي مخطّط السلام الذي ولد ميتاً والذي وضعته الولايات المتّحدة مع الاتّحاد الأوروبي والأمم المتّحدة وروسيا في خضمّ انتفاضة الأقصى. فعلى الرغم من تركيز المخطّط الواضح على التنفيذ المتوازي، ربطت إدارة بوش التقدّم في قيام دولة فلسطينية بشرط انتخاب “قادة جدد” وإقرار إصلاحات أمنية متعدّدة وغيرها من الإصلاحات، وحرّرت فعلياً إسرائيل من موجباتها الخاصّة المتعلّقة بالمستوطنات والعنف والاستفزاز. علاوة على ذلك، لم يؤدِّ انتهاء الانتفاضة ولا انتخاب محمود عبّاس في العام 2005 بعد وفاة عرفات إلى إعادة تفعيل العمليّة الدبلوماسية.
وسرعان ما أثّرت هذه التناقضات في العمليّة. وتنبغي هنا الإشادة بأوباما الذي حاول أن يعيد وضع القواعد الأساسيّة لعمليّة السلام، رافضاً المستوطنات الإسرائيلية باعتبارها غير شرعية ومعيداً تأكيد قدسيّة حدود العام 1967. غير أنّ محاولات أوباما بالصمود عرقلتها في نهاية المطاف الوقائعُ على الأرض، بما فيها الاستيطان الإسرائيلي الآخذ بالتوسّع والقيادة الفلسطينية التي تختلّ وتضعف بشكل متزايد والموقف العنيد لحكومة إسرائيل اليمينية وداعميها في الكونغرس. وقد ترك الخمود النسبي الذي شاب سنوات حكم أوباما منفذاً لإدارة ترامب اللاحقة التي كانت أَجرأ في محاولاتها لإعادة صياغة القواعد الأساسية لعمليّة السلام لمصلحة إسرائيل. وبالإضافة إلى إزالة موضوع القدس واللاجئين عن جدول المفاوضات، تفادى ترامب أن يدعم بشكل صريح حلّ الدولتَين أو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي. وإذا ما حاولت الإدارات الأمريكية لمدّة حوالي الربع قرن أن تمزج الزيت بالماء، فيبدو أنّ ترامب راضٍ باعتبار الزيت بكلّ بساطة ماءً.
ويترك فشل عمليّة أوسلو فراغاً سياسياً ودبلوماسياً خطيراً يصعب ملؤه. من جهة أخرى، تتيح إزالةُ عمليّة سلام اتّسمت بالتصلّب والعرقلة الكبيرة فرصةً لإعادة التفكير في المزاعم والصيغ والحلول المحتملة القديمة. غير أنّ نجاح أيّ عمليّة سياسية عتيدة سيعتمد على مدى قبول المسؤولين الإسرائيليّين والفلسطينيّين – وحتّى الأمريكيّين ربّما يوماً ما – الدروس المذكورة أعلاه.
Commentary
أربعة دروس لفترة ما بعد أوسلو
الأربعاء، 19 سبتمبر 2018