Commentary

كيف سيقوّي الانسحاب من سوريا روسيا وإيران

A member of Syrian forces of President Bashar al Assad stands guard near destroyed buildings in Jobar, eastern Ghouta, in Damascus, Syria April 2, 2018. REUTERS/Omar Sanadiki - RC12300737D0

يشكّل إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنّ الولايات المتّحدة ستسحب قوّاتها العسكرية من سوريا “قريباً جداً” تغييراً بارزاً عن موقف الإدارة الأمريكية السابق بأنّ الولايات المتّحدة ستحافظ على وجودها العسكري في تلك البلاد إلى أجل غير مسمّى. وينتشر في الوقت الراهن قرابة ألفَي جندي أمريكي في شرق سوريا، ويقاتل العدد الأكبر منهم إلى جانب قوّات سوريا الديمقراطية التي تتألّف من تجمّع لعدد من القوّات بقيادة كردية والتي حرّرت المحافظات الشرقية السورية من براثن تنظيم داعش. والانسحاب من سوريا الآن خطوة متهوّرة. فعلى الرغم من تردّد ترامب، للولايات المتحدة دورٌ كبير تؤدّيه يحول دون بروز داعش من جديد ويواجه النزعة التوسّعية الإيرانية ويحرص على عدم غرق البلاد في حالة من الحرب المستمرّة.

الطبيعة تكره الفراغ

كما تبيّن التجربة العراقية، تترك الانسحابات فراغاً يمكن أن يملأه أعداءُ الولايات المتحدة. فقد بادرت إيران إلى الاستفادة من الفراغ التي خلّفه انسحاب الجنود الأمريكيّين في العام 2011. وكان لتلك الخطوة أثرٌ بالغ في السيطرة الإيرانية في سوريا، لأنّ العراق كان نقطة عبور مهمّة مدّت نظام الأسد بكميّة كبيرة من السلاح وعشرات الآلاف من عناصر الميليشيات الشيعية العراقية القوية الذين غدوا الآن القوّة الأكثر سيطرة على الأرض. كذلك، أفضى الأمر إلى تهميش السُّنة العرب والأكراد وإلى مفاقمة التوتّرات الإثنية والطائفية التي بدون شكّ مهّدت الطريق أمام بروز تنظيم داعش في العام 2014.

وسيسرّع الانسحاب من سوريا بروز داعش من جديد لأنّ سوريا ما زالت تُعتبر الكارثة الإنسانية الأسوأ التي يشهدها هذا القرن وستكون موقعاً لصراع مدمّر لسنوات إن لم يكن لعقود. وقد انطبعت في ذاكرة السوريين صورةُ ما يقارب العقد من الحرب، وسيرسم ماضيهم معالم مستقبلهم بالتأكيد. وستشكّل جروح الحرب وندوبها الظروف الهيكلية التي تسمح لمجموعات مثل داعش ومَن لفّ لفّهم أن يبرزوا ويكتسبوا نفوذاً. في غضون ذلك، سيكون الافتراض بأنّه يمكن الوصول إلى اتّفاق مع روسيا ضرباً من ضروب الحماقة، ولا سيّما أنّ التنظيم أسّس “خلافته” تحت ناظرَيها وأنّ نظامَ الأسد قتل أكثر من 400 ألف مدنيّ تحت حمايتها. ولم تعد الحرب الأهلية السورية مسألةً تتمحور حول الشعب السوري منذ زمن بعيد. إذ باتت اليوم ساحة المعركة لمستقبل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط ولميزان القوى الذي يرافق هذا النظام. وقد استفادت مجموعاتٌ مسلّحة عابرةٌ للحدود تدعمها جهات فاعلة خارجية من انهيار الحدود ومن هشاشة الدولة السورية، وكانت تداعيات هذا الأمر مدمّرة. وستستمرّ هذه المجموعات بالتدمير والتحطيم على سجّيتها، نزولاً عند رغبة الجهات الدولية التي تدعمها.

في خضمّ هذا المزيج الخطر، سيسمح الانسحاب من سوريا بإنشاء هيكلية أمنية تطغى عليها روسيا في المنطقة وبتسريع هيمنة إيران. ومع أنّ الهيمنة الإيرانية ستكون غير مقبولة في أرجاء المنطقة، تبقى دول أخرى في الشرق الأوسط ضعيفة جداً لتواجه إيران بفعالية من دون دعم وقيادة أمريكيَّين. ففي أفضل الحالات وفي حال تركت الولايات المتحدة حلفاءها يقاتلون بدون دعم، سيتمكّنون من إدامة الحرب بالوكالة لكنّهم لن يشكّلوا سوى صداعٍ لا أكثر لإيران وروسيا. ولن يتمكّنوا من تغيير ميزان القوى أو إحداث أيّ تغيير على الأرض. باختصار، سيشكّل هذا طريقة لإبقاء سوريا غارقة في حالة حرب مستمرّة.

استراتيجية لواشنطن

في المقابل، قد يساعد إحلال نوع من التوازن في القوى الذي يتمحور حول الإقرار بأنّ ما من جهة فاعلة واحدة يمكنها تحقيق فوز حاسم في سوريا. وهنا يأتي دور الولايات المتحدة. إذ يمكنها فرض قواعد وحدود للتدخّل والصراع وتشجيعها. بالتأكيد لن يحدث ذلك بين ليلة وضحاها ولن يتطلّب الحفاظ على وجود أمريكي في سوريا فحسب، بل أيضاً الاستفادة من انتشار القوات الأمريكية الحالي في شرق البلاد. بهذه الطريقة، أي عبر ردع بالقوّة محاولات إيران ورسيا لاختبار عزم الولايات المتحدة ولطرد عناصرها من سوريا، تغدو الولايات المتحدة حامية الاستقرار العام. ويكون الهدف الحدَّ من أثر الصراع واحتواءه، مع تأمين المصالح الأمريكية عبر الحؤول دون بروز داعش من جديد وقمع النزعة التوسّعية الإيرانية.

على الأقل، يحرص الوجود الأمريكي المستمرّ على أن تصبح بعض المناطق في سوريا بمنأى عن الصراع. وبشكل أساسي، سيحرص هذا التواجد على ألّا تتحوّل المناطق التي تقع شرق الفرات إلى معاقل للإرهابيين الجهاديين الذي يهدّدون الأمنَين الإقليمي والدولي وعلى ألّا تذهب النيّة الطيّبة الكبيرة التي حصدتها الولايات المتحدة في حربها على داعش سدى، وألّا يستأثر بهذا الإنجاز نظامُ الأسد والجهات الداعمة له، أي إيران وروسيا.

وفي المستقبل، قد تؤمّن سيطرة الولايات المتحدة على شرق سوريا محطّة انطلاق لتقديم المساعدة الإنسانية الضرورية للغاية لباقي البلاد، بيد أنّ ذلك سيتطلّب أن يكون للولايات المتحدة استعدادٌ لمحاربة وكلاء إيران والمجموعات المؤيّدة للنظام التي ستحاول عرقلة محاولات كهذه. وبإمكان الوجود الأمريكي الموسّع في الشرق أن يحبط تركيزَ قوى إيران ووكلائها وتحصينَها، لا بل قد يرجّح كفّة ميزان القوى في غير مصلحة تلك الجهات الفاعلة والجهات الداعمة لها.

وبإمكان الولايات المتحدة أن تخطو خطوات إضافية. إذ يمكنها القيام بجهود للوساطة بين تركيا ووحدات حماية الشعب. وبإمكان هذه الجهود التعويل على إصرار تركيا الجديد في سوريا وإسكات مخاوف الأمن الوطني التركية عبر الالتزام بلجم وحدات حماية الشعب والحؤول دون تحوّل المناطق ذات الأغلبية الكردية في سوريا إلى دويلة ذات حزب واحد تسيطر عليها وحدات حماية الشعب.

وسيتطلّب ذلك استراتيجية سياسية شاملة تربط الدعم الأمريكي لوحدات حماية الشعب باستعداد هذه المجموعة لتشاطر السلطة مع أخصامها الأكراد، فضلاً عن توسيع نطاق الدعم الأمريكي ليطال المجموعات الكردية الأخرى المناطق ذات الأغلبية الكردية في سوريا. ويسمح استغلال الفرصة التي سنحت بعد أن سيطرت تركيا على عفرين منذ ثلاثة أسابيع بالاستفادة من مكانة تركيا الإقليمية والحرص على عدم انخراط الولايات المتحدة بمفردها في المسألة. وتتابع هذه المقاربة باستعمال وحدات حماية الشعب كعازل تجاه بروز داعش مرة أخرى وتجاه نزعة توسعية إيرانية متزايدة

وفي وسع الجهود الأمريكية للتوسّط في الصراع بين تركيا ووحدات حماية الشعب، فضلاً عن استعادة العلاقات مع أنقرة وتطبيعها، أن تمهّد الطريق حتّى لإنشاء نسخة مشابهة ومعدّلة من قوات المساعدة الدولية لإرساء الأمن في أفغانستان (أيساف) بقيادة حلف شمال الأطلسي، فتكون تحالفاً بمشاركة عربية ومساهمة تركية كبيرة. ولأسباب تعزى إلى القدرات والتاريخ والطموحات، ما زالت تركيا الشريك الإقليمي الأصلح في حرب لا تتاح للولايات المتحدة فيها الكثير من الخيارات، على الرغم من تدهور علاقاتها مؤخراً مع الغرب. وستؤدّي مساهمات تركيا في قيام جهود احتوائية في سوريا دوراً كبيراً في إحداث استقرار في البلاد وتأمين مصالح الولايات المتحدة وحلفائها والمساعدة على تشريع الانخراط الأمريكي في سوريا.

وينبغي على الولايات المتحدة أن تستفيد من دروس الماضي عبر التدخّل بشكل مصغّر وتدريجي. لكن عليها أيضاً دعم أصدقائها لتأمين المصالح المشتركة، ويشمل ذلك الاستفادة من النية الطيبة التي كسبتها في المناطق المحرّرة من سيطرة داعش. فحلفاء الولايات المتحدة هم مَن نزفوا وتعرّضوا للقتل، وسيتابعون بالعمل لجلب مساعدات إنسانية طارئة للشعوب المحاصرة ولإحلال المعايير الديمقراطية والمساءلة ولشدّ عزيمة المجتمع السوري الهشّ. وستندثر آمالهم في حال تُرك مصيرهم في يد إيران وسوريا اللتَين ستسعدان في حال انسحبت الولايات المتحدة من سوريا.