Commentary

Op-ed

هل سيغيّر فيروس كورونا المستجدّ النظام السياسي في الجزائر؟

A vendor wearing a protective face mask serves a customer in his shop, during the Muslim holy month of Ramadan, amid concerns over the coronavirus disease (COVID-19), in Boufarik, wilaya of Blida in Algeria, April 25, 2020. Algeria has taken further steps to ease restrictions over the novel coronavirus by allowing several businesses to reopen "to reduce the economic and social impact of the health crisis" caused by the pandemic, the prime minister's office said on Saturday. Photo by Louiza Ammi/ABACAPRESS.COM

لقد فاقم تفشّي فيروس كورونا المستجدّ في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التحديات الكثيرة التي تواجهها بلدان المنطقة. فلم تكشف الجائحة عن مكامن ضعف هيكلية في قطاع الرعاية الصحّية فحسب، بل سلّطت الضوء أيضاً على مشاكل الحوكمة غير الفعّالة ومستويات الأمن البشري المنخفضة والنماذج الاقتصادية المتزعزعة. وفضحت أزمة الصحّة العامة هذه، مقرونة بانهيار أسعار النفط، هشاشة الدول الريعية، التي تعتمد موازناتها بشكل شبه حصري على عائدات النفط. ومع أنّ بعض الدول الريعية تنبّهت إلى ضرورة مواجهة هذه التحديات، قرّرت بعض الدول الأخرى استغلال الأزمة أيضاً لإخماد الحركات الاحتجاجية الشعبية الجارية. وتقع الجزائر ضمن الفئة الثانية من الدول، إذ استغلّت الجائحة للقضاء على الحركة الاحتجاجية السلمية التي تعرف باسم الحراك.

ابتدأ الحراك في فبراير 2019 وأنزل الملايين إلى الطرقات كلّ أسبوع لفترة تفوق السنة. وطالب المحتجّون بنظام سياسي جديد ونهاية للحكم الأتوقراطي الذي يترأّسه عبد العزيز بوتفليقة منذ عشرين سنة. وتحت ضغط هائل من التظاهرات الشعبية في أرجاء البلاد، أرغم الجيشُ، عماد النظام، بوتفليقة على الاستقالة في 2 أبريل 2019، ممّا أدّى إلى بروز فترة انتقالية هشّة. بيد أنّ الاحتجاجات لم تتوقّف، لأنّ الكفاح للوصول إلى حكم ديمقراطي كان في مطلعه. 

ومنذ استقالة بوتفليقة، سعت الحكومة الانتقالية المدعومة من الجيش إلى إعادة تأسيس صورة الحكم المدني. لكنّ الانتخاب المثير للجدل في 12 ديسمبر 2019 لعبد المجيد تبون، الذي شغل منصبَي وزير ورئيس وزراء في عهد بوتفليقة، فاقم الأزمة السياسية وزعزع شرعية النظام الجديد أكثر فأكثر. وتابع الحراك بالاحتجاج سلمياً على ما اعتبره الكثيرون انتخابات غير شرعية.

ومنذ أن أوقف الحراك احتجاجاته بشكل مؤقّت بسبب الجائحة، عثر على طرق مختلفة للاستمرار بالتعبير عن معارضته، على غرار اللجوء إلى وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل أخرى للتعبير. ومن الأمثلة على ذلك إذاعة كورونا الدولية، التي تبثّ برنامجاً كلّ أسبوعين يقيّم النظام السياسي وينتقده. لكن على الرغم من أنّ تبون قد وعد بإجراء إصلاحات وبالانخراط في حوار مع الحراك، يستغلّ النظام أزمة فيروس كورونا المستجدّ لتضييق الخناق أكثر على المعارضة السياسية واستهداف الحراك.

فيروس كورونا المستجدّ وشبح السلطوية المتجدّدة

تمّ تسجيل أول إصابة بفيروس كورونا المستجدّ في الجزائر في 25 فبراير 2020. وحتى 9 مايو، سجّلت البلاد 5369 إصابة مؤكّدة و488 حالة وفاة و2467 حالة شفاء. وشكّلت الجائحة نعمة للنظام في الكثير من النواحي. فقد طبّق إجراءات مشابهة اتّخذتها حكومات العالم كلّه لمحاربة الفيروس، مثل منع التجمّعات العامة وفرض حظر التجوّل لتخفيف تفشّي الفيروس. لكنّه استغلّ الوضع أيضاً لاعتماد قانون العقوبات المعدّل الذي يتضمّن “تجريم الأخبار الكاذبة” من أجل الحفاظ على “أمن الدولة”. وقد ندّد الناشطون والمجموعات الحقوقية بالقانون إذ يعتقدون برأيهم أنّه ينوي استهداف الحراك. علاوة على ذلك، فيما أطلق تبون 5037 سجيناً استجابة للمخاوف بشأن تفشّي الفيروس في السجون، ارتأى عدم إطلاق سراح الناشطين السياسيين أو سجناء الرأي.

وقد وثّقت منظّمة هيومن رايتس ووتش مؤخراً الطرق التي استغّلت فيها الجزائر جائحة فيروس كورونا المستجدّ لقمع الحراك. فمنذ بداية الجائحة، حكمت المحاكم على أعضاء معروفين من الحراك، مثل كريم طابو وعبد الوهاب فرساوي، بالسجن بتهمة “المساس بسلامة وحدة الوطن”. وسُجن الصحافي خالد درارني أيضاً في 27 مارس. وأُوقف عمل بعض مواقع الوب، واحتُجز بعض الشباب بسبب عمل نشاطي سلمي على الإنترنت. لذا لا شكّ في أنّ السلطات تحاول إسكات الأصوات المعارِضة وإنهاء الحراك. وتقوم بذلك مع الإصرار أيضاً على أنّ “حرّية التعبير والمناخ الديمقراطي” مُتاحان في الجزائر.

ولعلّ مصدر هذا الموقف المتضارب تجاه الحراك الصراعُ الراهن على السلطة الذي تحاول فيه الفصائل الإصلاحية القضاء على ما بقي من النظام بقيادة بوتفليقة. ومن غير المعروف حتّى الآن إن كانت هذه الانقسامات في الطبقات الحاكمة العليا هي محاولة حقيقية للإصلاح أم مجرّد معركة أخرى على السلطة، أو “معركة قبائل”. وربّما ذلك يفسّر بيانات تبون المتناقضة حول الحراك. ففي النهاية، كان تبون قد وعد بالعمل مع “الحراك المبارك”، بحسب قوله، وبالانخراط في حوار. وقد صرّح أنّه “يتعهد شخصياً بتحقيق مطالب الحراك كافة”، مؤكّداً أنّ هذه الحركة الاحتجاجية تمثّل “أساساً للديمقراطية”، لا بل جعل تاريخ 22 فبراير، ذكرى بدء الحراك، “يوماً وطنياً للأخوّة والتلاحم”.

تحديات صحّة عامة مزمنة 

يتبلور هذا الخطر الحادّ الذي يهدّد الصحّة العامة وهذه الأزمة السياسية الممدّدة في نظام تشوبه تحديات هيكلية مزمنة. فمؤشّر الأمن الصحّي العالمي للعام 2019 يضع الأمن الصحّي الجزائري في المرتبة 173 من أصل 195. ويسلّط التقرير الضوء على أنّ قدرة استجابة الجزائر لجائحةٍ ما هي من بين الأسوأ في العالم، متحدّثاً عن مشاكل في التواصل مع الشعب والشفافية والمعدات الطبّية وممارسات السيطرة على العدوى.

وتحول عوائقُ كبيرة أمام الوصول إلى رعاية صحّية عالية الجودة ومقبولة الكلفة في الجزائر. فبين المستشفيات العامة والخاصة فارقٌ كبير في الجودة. وتبرز أيضاً اختلافات في الرعاية وقدرة الوصول إليها بين المناطق. فبحسب رئيس منظّمة الهلال الأحمر الجزائري، تفتقر المناطق المرتفعة والجنوبية مثلاً بشكل كبير إلى قدرة الوصول إلى الرعاية والمعدّات. وقد همل نظام بوتفليقة القطاع الصحّي، ولم يبنِ مستشفيات حديثة ولم يطبّق الإصلاحات اللازمة. وتمّ إلغاء مشروع في العام 2014 لبناء خمسة مستشفيات جامعية، مما ترك القطاع الصحّي في حالة يرثى لها على الرغم من التحذيرات المتكرّرة التي أطلقها المجتمع الطبّي.

وقد أبرزت الجائحة الحالية النقص الفاضح في المعدّات لحماية مقدّمي الرعاية، فضلاً عن النقص في رأس المال البشري في قطاع الرعاية الصحّية، إذ يقرّر الكثير من الأطباء الجزائريين الهجرة للعمل في أوروبا وكندا، ومردّ ذلك جزئياً نظام الرعاية الصحّية غير الفعّال بشكل مزمن. وفيما أقرّت الحكومة الجديدة أنّ الجزائر تواجه “أزمة صحّية” وأنّ النظام الصحّي بحاجة إلى “إعادة تأهيل كاملة”، لا يدعو تاريخ السلطات في مجال الإصلاح إلى الكثير من التفاؤل.

أزمة اقتصادية تلوح في الأفق

لا يُخفى على أحد أنّ الجزائر تواجه أزمة اقتصادية وشيكة. فالبلاد تعتمد على الهدروكربون ونظامُها السياسي يعاني خللاً وظيفياً، فلم تتمكّن من تطبيق الإصلاحات اللازمة لتنويع الاقتصاد وتمتين القطاع الخاص ومواجهة معدّلات البطالة العالية، ولا سيّما في صفوف الشباب الذين تسوء أوضاعهم في ظلّ فيروس كورونا المستجدّ. وكانت حدّة الضغوط في الموازنة تزداد أصلاً على الحكومة، حتّى قبل انهيار أسعار النفط مؤخراً، حينما انخفض سعر نفط خام برنت إلى ما دون العشرين دولاراً للبرميل. وأتى انخفاض الأسعار جراء قضاء فيروس كورونا المستجدّ على الطلب العالمي مقروناً بإمداد مفرط نتج عن خلاف في منظّمة “أوبك بلس” بين المملكة العربية السعودية وروسيا.

وبلغ سعر التعادل المالي في الجزائر لهذا العام 157 دولاراً للبرميل. فإن كان سعر التعادل المالي، أي سعر النفط اللازم لإحداث توازن في الموازنة العامة، أعلى بكثير من سعر النفط، ستعاني البلاد عجزاً ضخماً في الموازنة. وهذا يعني أنّ احتياطات الجزائر بالنقد الأجنبي ستستمرّ بالتضاؤل وسوف تضطرّ إلى خفض الإنفاق العام. وسبق أن أعلنت الحكومة خفضاً بنسبة 50 في المئة في الإنفاق العام لسنة 2020 واحتياطاتها بالنقد الأجنبي تتضاءل. ومن المتوقّع أن تنخفض من 56 مليار دولار أمريكي إلى 44 ملياراً بحلول نهاية العام 2020، علماً أنّ مجموعها بلغ 180 ملياراً في العام 2014. بالتالي، سيكون تمويل إعانات الدولة وخدماتها محدوداً للغاية في الجزائر. وبغية التعويض عن تداعيات الانهيار في أسعار النفط، تحدّ الحكومة من الواردات وتلجأ إلى المزيد من التخفيضات في الموازنة، ممّا قد يؤجّج المزيد من الاحتجاجات مع تدهور الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية.

صحيح أنّ الانهيارات في أسعار النفط في السابق ساعدت على إطلاق جهود للإصلاح، بيد أنّ الكثير من المبادرات التي أطلِقت باسم الإصلاح، على غرار سياسات الخصخصة الرديئة التي طُبّقت منذ الثمانينيات، قد ساهمت في زيادة الفساد وبروز مستويات عالية من رأسمالية المحاباة لدى نخبة البلاد ليس إلّا. وقد وعد تبون بالابتعاد عن هذا الاتّكال على النفط وبتطوير الزراعة وباستغلال الموارد غير المُستَفاد منها، على غرار اليورانيوم والذهب والزنك والحديد والفوسفات. ويدّعي أنّ البلاد جاهزة لمواجهة تحدّي الانخفاض في أسعار النفط وتأثيراته من دون اللجوء إلى القروض من المؤسّسات المالية الدولية التي قال إنها ستُقيّد سياسة الجزائر الخارجية المستقلّة.

هل من مجال للتفاؤل؟

مع أنّنا نعطي وصفاً كئيباً، ما زال المجال للتفاؤل متاحاً. فجائحة فيروس كورونا المستجدّ تولّد إحساساً بضرورة الاستعجال في معالجة الكثير من ويلات البلاد الاجتماعية الاقتصادية. فالنقص في المعدّات الطبّية على صعيد العالم كلّه دفع بالكثير من البلدان، من بينها الجزائر، إلى إطلاق حملات خاصة لتصنيع المعدّات الضرورية، مثل الكمامات وأجهزة التنفّس. وهذا أمر يمكنه أن يساعد الجزائر على تعزيز الصناعة والتحوّل إلى مركز تصنيع لمنطقة شمال أفريقيا.

وقد أبدى الجزائريون، والحراك، إحساساً مذهلاً من المسؤولية المدنية والتضامن الاجتماعي، كما عهدناهم عند مواجهتهم مصيبة كبرى. وما زال من غير المعروف إن كانت الحكومة ستستفيد من هذ التضامن لإطلاق حوار حقيقي وإصلاحات هامّة. وما زالت الجزائر تتمتّع باحتياطات مالية كبيرة وقد يرتفع سعر النفط إلى 43 دولاراً للبرميل بحلول نهاية العام 2020. بالتالي، قد يمنح الارتفاع في سعر النفط بعض المجال للتنفّس، لكن يمكنه أن يحثّ النظام أيضاً على الاتّكال من جديد على عائدات النفط والتخلّي عن الإصلاحات كما فعل في الماضي.

فيما منحت الجائحة الحكومة مهلة للاستراحة في وجه معارضة اجتماعية قوية، ستكون فترة ما بعد فيروس كورونا المستجدّ اختباراً لقدرة الحكومة على توجيه البلاد نحو مسارٍ من الإصلاحات الفعلية. وينبغي على الحكومة تطبيق مطالب الحراك الأساسية، من ضمنها إطلاق سراح السجناء وبناء مستوى من الثقة للشروع في حور سياسي. فبعد أن هدم الجزائريون جدار الخوف في العام 2019 سيتابعون بالاحتجاج ومساءلة الحكومة.

Authors