لعدّة سنوات، أخذت العلاقات السرّية بين إسرائيل وبعض من الدول العربية الخليجية تتطوّر بعيداً عن الأضواء. وفيما لا تبدي إسرائيل خجلاً حيال هذه العلاقات، أمِلَت الدول الخليجية أن تُبقي تقاربها من إسرائيل طيّ الكتمان لأسباب بديهية متعلّقة بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني. غير أنّ التحرّك الدبلوماسي العلني المتزايد قد كشف الستار عن هذه العلاقات وأشار إلى بروز زخمٍ محتمل نحو إقامة علاقات رسمية للمرّة الأولى.
فبعد الزيارة الرسمية التي قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو إلى عُمان في أكتوبر، وهي المرّة الأولى التي يزور فيها رئيس دولة إسرائيلي عُمان منذ العام 1996، أفصح عن نواياه بالمضيّ قدماً من خلال تقوية الروابط مع دول أخرى، بما فيها البحرين. وقد أفادت الصحافة الإسرائيلية حتّى، مقتبسةً كلام مكتب رئيس الوزراء، أنّ نتانياهو ينوي منح العلاقات مع المملكة العربية السعودية طابعاً رسمياً قبل حلول الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، التي تقرّرت في ذلك الوقت أن تجري في نوفمبر.
ومع أنّ ذلك الموضوع مستبعد على الأرجح ولا يمكن فصله عن عمليات تموضع سياسي داخل إسرائيل، ليس من الصعب في الشرق الأوسط الراهن معرفة الأسباب الي تؤدّي بالطرفَين إلى التوافق. إذ يفاقم الاضطراب والتشكيك الإقليميّان الشديدان حدّةَ التوترات بين الدول، ولا سيّما مع خصوم مثل إيران. وتفتقر المنطقة إلى إطار عمل أمني جماعي من أيّ نوع، وبعد حوالي عقدَين من الحرب، تضاءل إقبال الولايات المتحدة على المزيد من الانخراط العسكري في المنطقة، مخلّفاً فراغاً أمنياً ضخماً. بالتالي، يكمن إنقاذُ التزام الولايات المتحدة الأمني في قلب الانفتاح الخليجي على إسرائيل.
لذلك، يجدر التفكير في طبيعة هذه العلاقات وقيمتها بالنسبة إلى كل من الطرفين والمخاطر المحتملة التي تتمخّض عنها، ولا سيّما بالنسبة إلى دول الخليج.
حسابات نتانياهو
واجه نتانياهو على مدى مسيرته السياسية الطويلة الانتقاد الدائم بأنّ سياساته إزاء الفلسطينيين ستؤدّي إلى عزل إسرائيل في الخارج. وبهدف دحض هذا الادعاء، ولا سيّما في السنوات الأخيرة، جعل نتانياهو مسألة تطوير العلاقات مع دول غير صديقة مكوّناً أساسياً في سياسته الخارجية. وبالفعل، على الرغم من أنّ نتانياهو أبعدَ أوروبا الغربية أكثر عن إسرائيل، حقّق مستوىً لا بأس منه من النجاح في العواصم في أنحاء أوروبا الشرقية وأفريقيا وآسيا، لكنّ الدول العربية الخليجية لا تزال المسعى الأسمى لهذا الجهد. فإذا استطاع نتانياهو أن يُظهر أنّ البلدان الغنية في المنطقة مستعدّة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل على الرغم من البناء المستمرّ للمستوطنات في الضفة الغربية وعدم بروز أيّ سلام في الأفق مع الفلسطينيين، سيسهل عندئذ دحض النقدِ الموجّه لنتانياهو وسيكون قد برهن أنّه على حقّ، أقلّه على المدى القصير. والأهمّ في ذلك أنّه سيكون قد حقّق مسعاه من دون اعتماد بصورة فعلية مبدأ الأرض مقابل السلام في ما يخصّ الفلسطينيين، وقد شكّل هذا المبدأ أساس المفاوضات العربية الإسرائيلية منذ وضْعِه في خلال عملية كامب ديفيد في أواخر السبعينيات.
بالفعل، في خلال لقاء أخير مع دبلوماسيين إسرائيليين، قال نتانياهو إنّ البلاد لم تعد بحاجة إلى تحقيق السلام مع الفلسطينيين من أجل إقامة روابط دبلوماسية مع العالم العربي. وادّعى نتانياهو أنّ “العرب يبحثون عن روابط مع القوي. وتعزيز قوّتنا يكسبنا سلطةً دبلوماسية”.
وقبل أيّام فقط من هذا التصريح، شدّد نتانياهو في خلال مؤتمر صحافي على أنّه فيما حاول قادة إسرائيليون آخرون تحسين العلاقات مع العالم العربي والمسلم من خلال تقديم “تنازلات” للفلسطينيين، هو رفض ذلك بشدّة. إذ عارض نتانياهو ذلك قائلاً: “نحن نؤمن بتحقيق السلام من خلال القوّة. ونؤمن بالتحالفات التي تتشكّل نتيجة قيمة إسرائيل كمركز ثقل تكنولوجي ومالي ودفاعي واستخباراتي”.
ويتبع منطقُ نتانياهو خطَّ جابوتينسكي الأيديولوجي الذي يعتبر أنّ الرفضَ العربي لإسرائيل سيتلاشى في نهاية المطاف أمام “الجدار الحديدي” للقوّة الإسرائيلية، فيبدأ عندئذ تقبّلُ مكانة إسرائيل بين أمم المنطقة. ويُشكّل هذا المنطق أيضاً تعييراً مباشراً لمبادرة السلام العربية التي ترأستها المملكة العربية السعودية في العام 2002 والتي دعت الدول العربية إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل مقابل العودة إلى حدود العام 1967 وإيجاد حلّ عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين.
معادلة جديدة
يؤدّي تقاربُ دول الخليج اليوم من إسرائيل إلى التخلّي عن هذه المعادلة ويستند إلى ثلاث ركائز أساسية لا تتعلّق بالفلسطينيين على الإطلاق، لكنّها تؤثّر فيهم بلا شكّ.
الركيزة الأولى هي إيران وجيوسياسات الشرق الأوسط بعد العام 2011. فلا جدل في أنّ إسرائيل والمحور السعودي الإماراتي متّفقان في ما يتعلّق بعدوّهما المشترك في المنطقة، ممّا أتاح أرضيّة مشتركة لتطوير روابط أمنية أوثق. وقد اعترف التحالف الخليجي بقيادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بإسرائيل، القوّة العسكرية الأضخم في المنطقة والدولة الوحيدة التي تملك قوّة نووية فيها، كحليف قوي له في مواجهته للتهديد الذي يمثّله التوسّع الإيراني. وبالنسبة إلى إسرائيل أيضاً، بدل أن تواجه إيرانَ وحدها، تغدو الجمهورية الإسلامية تهديداً إقليمياً، ممّا يعطي إسرائيل شرعيةً أكبر في كيفية ردّها.
والسبب الثاني هو تزايد حاجة دول الخليج إلى منصّتَي أمن ومراقبة متطوّرتَين من أجل فرض الأمن على سكّانها عقب الثورات الإقليمية. وتُعدّ خبرة إسرائيل في هذا المجال، وهي خبرة صقلتها في خلال 51 عاماً من الاحتلال للأراضي الفلسطينية، غايةً في التطوّر. وعلى الرغم من احتمال أن تكون إسرائيل قد أدخلت أبواباً خلفية في جميع أنظمتها، وأنّه يمكن الحصول على أنظمة كهذه من باعة آخرين، باتت بعض الدول الخليجية على أهبّة الاستعداد لشراء التكنولوجيا الإسرائيلية نتيجة نشوء تلك الروابط الحديثة معها.
والسبب الأخير، ولعلّه الأهم، هو أنّ الدول الخليجية حافظت طوال عقود على روابط وثيقة مع واشنطن بالارتكاز على المصالح المتبادلة التي يؤمّنها الحفاظ على الأمن والاستقرار في الخليج العربي وعلى التدفّق الحرّ للنفط إلى الأسواق العالمية. غير أنّ تلك الروابط لطالما حدّتها طبيعتها التعاملية الأساسية والتشديد على إقامة علاقات شخصية مع أشخاص نافذين في واشنطن كبديل للافتقار إلى الدعم الواسع من الشعب الأمريكي. علاوة على ذلك، لطالما تعرقلت مساعي دول الخليج، والدول العربية بشكل عام، بسبب الشكّ الذي يكنّه داعمو إسرائيل الشديدون في واشنطن، الذين يتحلّون بنفوذ كبير في سياسات الولايات المتحدة المتعلّقة بالشرق الأوسط.
وفيما بدت هذه الروابط في الماضي كافيةً ربّما، منذ 11 أيلول، مع نشوب حرب العراق والربيع العربي وازدياد إنتاج النفط الأمريكي والاتفاق النووي الإيراني وقانون العدالة ضدّ رعاة الإرهاب الذي اعتمدته أمريكا، بدا واضحاً للدول الخليجية أنّ علاقتها بواشنطن متوترةٌ بشكل غير مريح وأنّ ثقتها بالولايات المتحدة كشريك موثوق به وضامنٍ للأمن قد تداعت. وباتّخاذ الدول الخليجية مكانةَ شريك لإسرائيل، من المرجّح أنّها تأمل التخفيفَ من المعارضة في واشنطن، مع إعادة تأكيد الالتزام الأمني للولايات المتحدة من خلال ربط أمن إسرائيل بأمنها.
المسألة الفلسطينية الشائكة
لكن أمام هذا التوافق، يقف الفلسطينيون وصراعهم العسير مع إسرائيل عقبةً. فلطالما شكّلت الدول الخليجية طرفاً في المنحى الإقليمي لهذا الصراع، ومع أنّها لم تنخرط يوماً عسكرياً بشكل فعلي في المسألة، أبقت على دعمها الخطابي والدبلوماسي والمادّي للفلسطينيين وما انفكّت يوماً عن نبذ إسرائيل في العلن.
لكن في الحقبة التي تلي اتفاق أوسلو، ومع صعوبة تكيّف السلطة الفلسطينية مع إسرائيل وانعدام أهمّية منظّمة التحرير الفلسطينية، خفّ الحماس المتعلّق بالقضية الفلسطينية. واليوم، يبرز حافز لتهميش الفلسطينيين سعياً وراء مصالح وطنية أكثر إلحاحاً. ومع أنّ الدول الخليجية توخّت الحذر في عدم إبراز تعاملاتها مع إسرائيل إلى العلن بشكل فاضح، من الواضح أنها تسير قُدماً معتبرةً أنّ القضية الفلسطينية تفتقر إلى الزخم نفسه من شعوبها، ولا سيّما الأجيال الأصغر سنّاً. وقد ترتكب في تفكيرها هذا خطأ.
ولا شكّ في أنّ المعمعة الحادّة في المنطقة قد أرخت بظلالها على المسألة الفلسطينية في السنوات الأخيرة. علاوة على ذلك، يصعب على الجيل العربي الأصغر سنّاً أن يتماهى مع قيادة فلسطينية طاعنة في السنّ وهامدة. غير أنّه ما من مؤشّر واضح يؤكّد على أنّ هذا الوضع لن يتغيّر. فبالفعل، نظراً إلى الديمومة الطويلة لهذه المسألة، التي بقيت في أعلى درجات سلّم الأولويات الإقليمية لأكثر من 70 عاماً، من المنطق أكثر اعتبار هذه الظاهرة سياقية ويمكن عكسها في حال تغيّرت الظروف. وشُعورا التماهي العربي مع الفلسطينيين والمعاداة العربية لإسرائيل مُتجذّران بعمق في النسيجَين الثقافي والسياسي للمجتمع. بالتالي، لا يمكن الدول العربية التخلّي ببساطة عن موقفها الذي اتّخذته لعقود طويلة من دون أن تقوّض مصداقيتها. بالإضافة إلى ذلك، يؤدّي هذا التخلّي إلى تمكين خصمَيها الإقليميَّين، أي إيران وحزب الله، وهما القوّتان اللتان تسعى الدول العربية إلى مواجهتهما بالتحالف مع إسرائيل، وإلى تمكين الأعداء الداخليين، ولا سيّما الإسلامويون السنّة الراديكاليون، والكثير من الليبراليين والمستعربين القوميين حتّى.
وفيما من المرجّح أن يستمرّ الاضطراب الإقليمي في المستقبل القريب، لا ينطبق الأمر عينه على همود الوضع الفلسطيني. فإذا تغيّرت الظروف، في حال نشوب انتفاضة أخرى مثلاً، وانتعش الدعم الشعبي العربي من جديد للفلسطينيين، تُخاطر الدول العربية التي لها علاقات مع إسرائيل في أن تجد نفسها عالقة في الجهة غير الصحيحة من خطٍّ أحمرَ اعتقدت أنّه اضمحلّ وتلاشى. ولا يشكّل تعزيز الدعم المحلّي امتيازاً لنتانياهو فحسب، فعقب الثورات العربية في العام 2011، غدا هذا التعزيز محطَّ اهتمام الدول العربية الأوّل أيضاً.
وهذا لا يعني أنّ اندماجاً أكبر لإسرائيل في المنطقة ليس له آثار جانبية مفيدة، حتّى على الفلسطينيين. غير أنّ الاحتمالات لا تُحصى ومن الصعب توقّعها. والأكيد أكثر هو التداعيات القصيرة والمتوسّطة المدى التي لا تبشّر بالخير للعرب. إذ يحقّق نتانياهو مكسباً مقابل لا شيء فيما يرسّخ الفكرة بأنّه ليس بحاجة لحلّ الصراع مع الفلسطينيين من أجل إقامة علاقات أفضل مع العالم العربي. ويخسر الفلسطينيون مصدراً أساسياً للضغط على إسرائيل ويجدون أنفسهم أكثر انعزالاً من أيّ وقت مضى. وتكسب الدول العربية الخليجية تحالفاً محفوفاً بالمخاطر مع إسرائيل، من دون أن تحصل بالمقابل على أكثر ممّا لديها أصلاً.
وحتّى تأمين علاقات أوثق مع الولايات المتحدّة، الركيزة الأهمّ في هذه العلاقة، ليس بنتيجة أكيدة. ففي أواسط ديسمبر، عشية تصويت مجلس الشيوخ الأمريكي لإدانة المملكة العربية على الحرب في اليمن واغتيال الصحافي والناقد السعودي جمال خاشقجي في إسطنبول، أعلن نتانياهو بحديث لا سابق له في الصحافة الإسرائيلية عن دعمه للمملكة الخليجية، قائلاً إنّ الرياض مهمّة من أجل الاستقرار العالمي ومؤكّداً على “أهمّية المملكة العربية السعودية والدور الذي تضطلع به في الشرق الأوسط”. لكن لم يحظَ كلامه بأثر ملحوظ.
علاوة على ذلك، في ما يتعلّق بربط أمن الدول الخليجية بأمن إسرائيل، على هذه الدول أن تحذر ممّا تأمل تحقيقه. فقد سعت إسرائيل لسنوات من أجل أن تدخل في نطاق عمل القيادة المركزية الأمريكية، التي تشرف على العمليات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط. وفي حال ارتبط أمن الدول العربية بأمن إسرائيل، تخاطر هذه الدول بوضع حاجاتها الدفاعية تحت عدسة إسرائيل الأمنية الفريدة، وهو أمر لا شكّ في أنّها ستندم عليه.
Commentary
ماذا وراء العلاقات بين إسرائيل ودول الخليج العربية؟
الإثنين 28 يناير 2019