مع تحقيق نظام بشّار الأسد الانتصارات في الحرب الأهلية الوحشية والمُنهكة في سوريا، قد تضطلع سوريا بدور أكبر كجهة فاعلة إقليمية. غير أنّه من المستبعد أن تشكّل اللاعب البارز الذي كانت عليه منذ عقود عقب حرب العام 1967 وصولاً إلى انهيار البلاد بدخولها في حرب أهلية في العام 2011.
فحتّى لو طرحنا افتراضات مبالغ فيها، ستبقى سوريا ضعيفة على المديَين القريب والمتوسط، وربّما لمدّة عقد أو أكثر حتّى. فقوّاتها العسكرية منهكة بفعل الحرب الأهلية ومُشرذمة بسبب الانقسامات الإثنية والجماعية، فباتت عاجزة عن تأدية الدور الإقليمي الذي كانت تؤدّيه من قبل، وسيبقى الاستقرارُ المحلّي الهاجسَ العسكري المهيمن. وقد ألحقت الحربُ الخراب بالمدن السورية ودمّرت اقتصادها وهجّرت شعبها. وتُقدّر كلفة إعادة الإعمار بعدّة مئات مليارات الدولارات.
بدلاً من ذلك، من المرجّح أن تبقى سوريا عرضة للتدخّلات وحلبةً للمنافسة الإقليمية، مع انتهاك سيادتها بشكل منتظم. فعلى الرغم من أنّ نظام الأسد لم يعد يواجه خطر خسارة السلطة، هو لا يسيطر على كامل البلاد. بالتالي، قد تدعم الدولُ المعادية زعماءَ الحرب أو المجموعات المتمرّدة ضدّ الحكومة من أجل تمديد الحرب الأهلية. ومن المرجّح أن تعمل تركيا مع الشعب الكردي في سوريا أو تهدّده أو حتّى تهاجمه، من أجل اكتساب النفوذ والتخفيف من التهديد المُتصوَّر من الأكراد الذين يأبون الخضوع في أراضيها على حدّ سواء.
لكن مع هذه المشاكل كلّها، ستحظى سوريا بدور أكبر ومن المرجّح أن تحاول استغلال نقاط ضعفها لتزيد من استقلالها الذاتي ونفوذها.
إيران: دولة وكيلة أم معرقِلة؟
اضطلعت إيران بدور محوري في بقاء نظام الأسد. فبالإضافة إلى نشر عدّة آلافٍ من عناصر الحرس الثوري الإيراني لخوض الحرب في سوريا، انضمّ عدد أكبر حتّى من عناصر حزب الله اللبناني إلى المعركة. ويؤدّي آلافُ المحاربين الشيعة من أفغانستان وباكستان (ومن مجتمعات لاجئة مقيمة في إيران)، الذين يتقاضون أجراً من طهران ويعملون تحت إدارتها، دوراً مهمّاً. فقد أنفقت إيران أكثر من 15 مليار دولار أمريكي على الحرب، وهو مبلغ كبير بالنسبة إلى بلد ذي اقتصاد صغير نسبياً يواجه الكثير من المشاكل.
ويعطي هذا النوع من الحضور نفوذاً هائلاً لإيران، ويبقى نظام الأسد معتمداً على إيران لمتابعة الحرب حتّى النهاية. ومن الممكن تخيّل “هلال شيعي” تقود فيه إيران كتلةً تضمّ العراق وسوريا ولبنان، ويشكّل فيه حزب الله الجهةَ الفاعلة الأقوى، وهذا ما يتصوّره الكثير من القادة السنّة (ويضيف أيضاً بعضُهم اليمنَ إلى اللائحة). غير أنّ هذه النظرة تبالغ في تقدير سيطرة إيران ووحدة هذه الحكومات، لكن لا شكّ في أنّ إيران تتمتّع بنفوذ أكبر من ذاك الذي تحلّت به في الفترة التي سبقت غزو الولايات المتحدة للعراق، وقد أتاحت الحربُ الأهلية في سوريا لطهران أن توسّع نفوذها.
لكن من الممكن أيضاً أن تقاوم سوريا الهيمنةَ الإيرانية، أو على الأقلّ أن تحاول وضع حدود لها. فمن الناحية الأيديولوجية، بالكاد تجمع بين إيران والنظام السوري قواسمُ مشتركة، ويعزّز أيضاً الانقسام العربي الفارسي بعض مشاعر الحقد. بالتالي، قد تشكّل مواجهةُ إيران طريقةً للقادة السوريين ليحسّنوا مصداقيتهم القومية التي كانت متينة من قبل لكن باتت الآن مهشّمة، وهي طريقة لتوحيد السنّة والعلويين وغيرهم تحت راية مشتركة. وستصبح الرغبة في تخطّي طهران قويةً للغاية إذا عجزت إيران عن تقديم دعم مالي ضخم في الوقت الذي تستطيع فيه الحكومات المعادية لإيران أن تمدّ سوريا بهذا الدعم، ممّا يسمح للنظام بمواجهة الأخصام. وفي كلتا الحالتَين، من غير المرجّح أن ترفض دمشقُ طهرانَ تماماً، لكن يبقى المجال سانحاً لهما للعمل ضمن هذه الأطر.
ومن المرجّح أن تعيد الكثير من الدول الإقليمية إشراك سوريا بثبات على المدى المتوسط، وذلك بشكل جزئي لمواجهة إيران. فقد أبقى كلّ من الجزائر والعراق ولبنان على علاقاته مع سوريا في خلال الحرب، وأعادت الإمارات العربية المتحدة افتتاح سفارتها وزار القائد السوداني عمر البشير سوريا في ديسمبر 2018، وطرحت مصر أيضاً فكرةَ عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، وأوقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي أقسم على أن يصلّي في الجامع الأموي بعد الإطاحة بالأسد، خطابَه العدائي ضدّ الأسد.
الفرص أمام سوريا
حتّى في حال تمكّن النظام السوري من استعادة السيطرة على مناطق تسيطر عليها حالياً القوّات الكردية والتركية ومن استعادة سيادته، سيبقى ضعيفاً إلى حدّ كبير. فمن الناحية السياسية، انتصر النظام، الذي لم يكن يوماً شعبياً، بسبب الدعم من القوى الأجنبية وبسبب حملة عسكرية عنيفة. وسيعتمد على القمع والقوّة لكي يحافظ على السلطة، فيما يتعامل في الوقت عينه مع اقتصاد في حال يُرثى له.
وما من بلد سيتمكن من ملء هذا الفراغ. فقد تُقدّم طهران مئات ملايين الدولارات أو حتّى بضعة مليارات الدولارات من أجل المساعدة في الاحتياجات الفورية، ممّا سيساعد النظام على المحافظة على السلطة بين النُخب العسكرية والداعمين الأساسيين. ومن المستبعد أن تساهم الولايات المتحدة التي يزداد تشكُيكها بالإعانات الأجنبية وعداؤها لنظام الأسد. ونادراً ما تشكّل دول الخليج جهات مانحة مهمّة في ما يتعلّق بإعادة الإعمار وتبقى عدائية تجاه نظام الأسد، على الرغم من أنّها قد تقدّم إعانات محدودة لمواجهة النفوذ الإيراني.
وستستفيد سوريا من دعم واعتراف دوليَّين أكبر بطرق متعدّدة. أوّلاً، على الرغم من أنّ الإعانات الواسعة النطاق مسألة مستبعدةٌ، سيتيح مقدارٌ ضئيل حتّى من الدعم المالي للنظام أن يرشو داعمين أساسيين في القوّات العسكرية وأطرافاً أخرى ويسترضيهم. ثانياً، سيعزّز اللقاء مع قادة خارجيين مكانةَ الأسد والنظام ككلّ، فيعطيهما مصداقيةً محلّية أكبر. أخيراً، تودّ دمشق أن تعزف القوى الخارجية عن دعم شخصيات المعارضة السورية بهدف زيادة سيطرتها على البلاد وتقويتها.
ومن المفارقة أنّ ضعف سوريا يعطيها بعض النفوذ. فتخشى الدول المجاورة مثل الأردن أن يستمرّ عدم الاستقرار في سوريا وتجد حافزاً في العمل سرّاً مع النظام، ولا سيّما في ما يتعلّق بمسائل الحدود. وتخضع عدّة بلدان أوروبية، ولا سيّما ألمانيا، لضغط سياسي بسبب انتشار اللاجئين السوريين في أراضيها وتفضّل لو أنّ الكثير منهم يعود إلى موطنه. وتستضيف كلّ من تركيا ولبنان والأردن ودول مجاورة أخرى عدداً أكبر بكثير من اللاجئين وتعاني اقتصاداتها مشاكل أكثر بكثير. ويستطيع نظام الأسد أن يستعمل اللاجئين كبيادق، فيطلب إعانات من أجل الاعتناء بهم إذا عادوا إلى سوريا وكفدية بحكم الأمر الواقع للحرص على منح أيّ من العائدين المعاملة الإنسانية اللازمة. وقد تُبدي الدول الأوروبية على وجه الخصوص استعداداً للعمل مع نظام الأسد وتمدّه بالإعانات، مستعينةً باللاجئين كغطاء إنساني لتطبيع العلاقات مع النظام.
وتعطي مكافحة الإرهاب أيضاً نوعاً من النفوذ للنظام السوري. ففي الأيّام الأولى من الحرب الأهلية السورية، أعتق نظام الأسد الجهاديين وركّز جهوده العسكرية على الفصائل غير الجهادية في محاولة ناجحة سعت إلى تأجيج الطائفية وإظهار أعدائه بصورة الإرهابيين. وبالنسبة إلى النظام، تبيّن أنّ التعرّض لمشكلة إرهابية صغيرة مفيد من الناحية السياسية. ففي السنوات القادمة، خصوصاً بعد الانسحاب الأمريكي، قد تسعى دمشق إلى جذب الدعم الأمريكي والأوروبي لمحاربة ما تبقّى من تنظيم الدولة الإسلامية وإظهار نفسها كجزءٍ من تحالف مكافح للإرهاب. وبإمكانها الاستفادة من إمكانية تقديم إيران وروسيا المساعدةَ لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية كطريقة لاستدراج الأخصام إلى العمل مع الحكومة. وفي حال تمّ تنفيذ اعتداء إرهابي كبير، سيحاول النظام أن يُبرز نفسه على أنّه شريك للحكومات المتضرّرة.
ولن تعيد أيٌّ من هذه التطوّرات سوريا إلى المكانة التي شغلتها قبل الحرب الأهلية. غير أنّها قد تشكّل نقطةَ تحوّل لدمشق وتقدّم لها فرصاً لكي تزيد من استقلالها الذاتي ونفوذها. ويشكّل وضعُ سوريا فرصةً. فبإمكان الولايات المتحدة أن تعمل مع حلفائها لتحاول تقليص نفوذ إيران في سوريا (مع إبقاء توقّعاتها واقعية) وتحسين التعاون في موضوعَي اللاجئين ومكافحة الإرهاب. غير أنّ إدارة ترامب، لا تُبدي حماساً للمشاركة في الدبلوماسية الإقليمية حتّى في ظروف أسهل، وعلى الأرجح أن تحاول واشنطن تفادي المستنقع الذي هو سوريا الراهنة حتّى لو عنى ذلك تفويت فرصة اكتساب نفوذ إقليمي أكبر.
Commentary
هل بإمكان سوريا أن تعود إلى الساحة الإقليمية؟
الخميس، 28 فبراير 2019