كانت قاعدة السياسة التركية منذ العام 2002 بسيطة وواضحة: تُجري تركياً دورياً انتخابات، ويبقى الحزب الفائز حزب العدالة والتنمية الحاكم والرئيس رجب طيب أردوغان. وكانت الانتخابات البلدية التي أجريت في 31 مارس والانتخابات المكرّرة في إسطنبول استثناء لهذه القاعدة. فقد واجه حزب العدالة والتنمية هزيمته الانتخابية الأشدّ حتّى اليوم عبر خسارة كلّ المدن الكبرى تقريباً في تركيا لصالح المعارضة، بما فيها إسطنبول وأنقرة.
وكان الصوت الكردي العامل الأهمّ لفوز المعارضة وهزيمة الحكومة في الانتخابات، هذا طبعاً بالإضافة إلى عوامل أخرى، منها التدهور الاقتصادي. وبشكل أدقّ، كان العامل الأكثر حسماً هو قرار حزب الشعوب الديمقراطي المؤيّد للأكراد بدعم مُرشّحي المعارضة في المدن الكبرى في البلاد عوضاً عن طرح مرشّحيه. وأتى هذا القرار ثماره بشكل واضح. لكن الآن، على ضوء تجريم الحكومة القاسي لحزب الشعوب الديمقراطي والتوغّل التركي في شمال شرق سوريا الخاضع لسيطرة وحدات حماية الشعب الكردية، تعمل كتلة المعارضة على تفادي المسألة الكردية.
وضع الحزب
لن تكون مهمّة سهلة للمعارضة أن تدير الانتصارات الانتخابية وتحافظ على التحالف الداعم لها، ولا سيّما للمعارضة الرئيسية، أي حزب الشعب الجمهوري. فقد تألّفت كتلة المعارضة رسمياً من حزب الشعب الجمهوري العلماني والحزب الجيّد القومي. لكنّ هذه الكتلة ضمّت بشكل غير رسمي حزبَ الشعوب الديمقراطي المؤّيد للأكراد وحزب السعادة الإسلامي الصغير الحجم.
وكما تشير النعوت التي ذكرناها لوصف هذه الأحزاب، تنتمي هذه الجهات إلى مشاريع سياسية وأيديولوجية شديدة الاختلاف، وهذا على عكس التحالف الحاكم المؤّلف من حزب العدالة والتنمية الحاكم وحزب الحركة القومية وحزب قومي صغير آخر يُدعى حزب الوحدة الكبرى. فهذا التحالف الأخير متجانس أكثر على الصعيد السياسي. في المقابل، كانت كتلة المعارضة بالإجمال تحالفاً انتخابياً فرضته ضروريات الحسابات السياسية (الانتخابية).
والقاسم المشترك الأهمّ للأحزاب التي شكّلت هذا التحالف هو الرغبة في هزم التحالف الحاكم والرئيس أردوغان في الانتخابات. ومع أنّ هذا الدافع المشترك هو ما جمع كتلة المعارضة في الأساس، قد لا يكون كافياً بحدّ ذاته للمحافظة على التماسك في صفوفها. وتبرز صحّة هذا الأمر بشدّة لأنّ الكثير من المسائل السياسية الخلافية، وعلى رأسها المسألة الكردية، عادت لتطغى على الأجندة السياسية في تركيا.
تفادي الأشواك
المسألة الكردية مسألة شائكة إلى أقصى الحدود وسوف تختبر صمود كتلة المعارضة ومتانتها. بيد أنّ العثور على أرضية مشتركة بين الحزب الجيّد وحزب الشعوب الديمقراطي ليس بالأمر السهل.
ينبغي على حزب الشعب الجمهوري، بصفته الحزب الرئيسي في كتلة المعارضة، وضع معادلة تلبّي المطالب السياسية لحزب الشعوب الديمقراطي المؤيّد للأكراد والحؤول في الوقت عينه دون تصدّع كتلة المعارضة. وهذه مهمّة صعبة كان على حزب الشعب الجمهوري تحقيقها بغية المحافظة على الزخم السياسي منذ الانتخابات البلدية.
من الناحية السياسية، لا شكّ في أنّ موقفاً جديداً حيال المسألة الكردية سيشكّل البرهان الأوضح على أنّ حزب الشعب الجمهوري المُعارض يعتنق مساراً إصلاحياً أكثر. فإذا غضّينا النظر عن فترة وجيزة (أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات) حاول فيها حزب الشعب الديمقراطي الاجتماعي، سلف حزب الشعب الجمهوري، السير بحلّ سياسي للمسألة الكردية يقابل المقاربةَ العسكرية المسيطرة آنذاك، التزم حزب الشعب الجمهوري بالإجمال بسياسة الدولة والوضع الراهن حيال هذه المسألة. وتمحورت هذه المقاربة حول ثلاثة أبعاد: محاربة الإرهاب (أي حزب العمال الكردستاني) ومعالجة التخلّف الاقتصادي في المنطقة الكردية ومنح الأكراد بعض الحقوق الثقافية الشكلية. بالتالي، افتقر موقف حزب الشعب الجمهوري تجاه هذه المسألة إلى وقائع المسألة الكردية وتعقيداتها، ولم يلبّ المطالب السياسية الكردية.
لكن مؤخراً، انتهج حزب الشعب الجمهوري تغييراً في سياسته حول المسألة. فقد انتقد الحزب مثلاً بشكل صريح عزل الحكومة لثلاثة عُمدات مدن أكراد في الشرق والجنوب الشرقي التركيَّين حيث الأكثرية كردية بتُهمٍ بسيطة سياسية الدافع. فوصفها الحزب بأنّها محاولة انقلاب سياسي غير شرعية. وسافر عمدة إسطنبول الجديد أكرم إمام أوغلو التابع لحزب الشعب الجمهوري من جهته إلى ديار بكر للإعراب عن تضامنه مع العمدات الأكراد. وأعلن مؤخراً أيضاً مركز الفنون والتدريب المهني التابع لبلدية إسطنبول الكبرى أنّه سيبدأ بتقديم دروس في اللغة الكردية، شرط توافر طلب شعبي وعدد مدرّسين كافيَين. أخيراً، وردت تقارير كثيرة أنّ حزب الشعب الجمهوري يحضّر للإعلان عن وجهة نظره حيال حلّ المسألة الكردية. طبعاً حزب الشعب الجمهوري ليس في الحكم وبالتالي لن تكون لمقاربته الجديدة تأثيراتٌ فورية على السياسات. لكن إن تمّت المحافظة على مسار السياسات الجديد هذا فقد يحسّن الأمور. وهذا المسار مهمّ لثلاثة أسباب بالتحديد.
أولاً، في وقت تُضفي الكتلة الحاكمة بشكل معيق طابعاً أمنياً على المسألة الكردية بأسرها، يضع حزب الشعب الجمهوري المسألة الكردية في إطار سياسي لا يمكن حلّه سوى بإجراءات سياسة لا عسكرية. وهذا تطوّر إيجابي. ثانياً، يرتبط الحلّ السياسي للمسألة الكردية ارتباطاً وثيقاً بأجندة الدمقرطة والإصلاح الإضافيين لتركيا. بالتالي، تسير الدعوة لحلّ سياسي للمسألة الكردية يداً بيد مع الدعوة للمزيد من الدمقرطة والإصلاح.
ثالثاً، وبشكل أهمّ ربما، يفتخر حزب الشعب الجمهوري بأنّه الحزب المؤسّس للجمهورية التركية الحديثة وحامل لواء هذه الإيديولوجية الرسمية. في المقابل، يعتبر الأكراد نفسهم الضحية الأساسية لهذه الإيديولوجية الرسمية (على غرار ما شعرت به الشريحة الإسلامية المُحافظة في المجتمع سابقاً). في هذا الجوّ، ظنّ البعض أنّ حزب العدالة والتنمية والفاعلِين السياسيين الأكراد في موقع جيّد لتقديم حلّ تاريخي للمسألة الكردية، بحكّم أنّ كلتا الجهتين ضحية. لكنّ التحوّل القومي الهائل الذي انتهجته الكتلة الحاكمة في السنوات الأخيرة قضى على هذه الآمال. فإذا اتّخذ حزب الشعب الجمهوري موقفاً سياسياً إصلاحياً وحافظ عليه في ما يخصّ المسألة الكردية، بإمكان الحزب الاستفادة من مصالحة تاريخية بين الأيديولوجية الرسمية وضحيّتها الرئيسية. لكن على المرء ألا ينسى أنّه على الرغم من الإشارات الإيجابية الأولية، ما زال من المبكر ومن غير الناضج الادّعاء أنّ حزب الشعب الجمهوري سينتهج هذا المسار.
تغيير وجهة الحوار
بيد أنّ هذه الخطوات الإيجابية التي اتّخذها حزب الشعب الجمهوري مؤخراً حيال المسألة الكردية هي أيضاً الخطوات ذاتها التي ستعرّض مستقبل التحالف بين حزب الشعب الجمهوري والحزب الجيد للخطر. فقد أعرب مسؤولو الحزب الجيّد مؤخراً عن عدم ارتياحهم وعدم رضاهم عن خطوات حزب الشعب الجمهوري حيال المسألة الكردية عموماً وحزب الشعوب الديمقراطي خصوصاً. فقال المتحدّث باسم الحزب مثلاً إنّه لا يجدر النظر إلى تحالفهم مع حزب الشعب الجمهوري على أنّه زواج كاثوليكي، أي أنّه ليس نهائياً.
ويرى الرئيس أردوغان في هذه النقطة فرصة لتفكيك كتلة المعارضة. فنظراً إلى هشاشة الكتلة وضعفها إزاء المسألة الكردية، سينتهج الرئيس أردوغان والحكومة على الأرجح سياسات أكثر صارمة وقومية حيال هذه المسألة من أجل التفرقة بين أفرقاء كتلة المعارضة.
هذه الاستراتيجية تنجح حتّى الآن. بدءاً من عزل العمدات المنتخَبين حديثاً من مناصبهم، تعتمد الحكومة سياسة تجريم كاملة لحزب الشعوب الديمقراطي المؤيّد للأكراد. ومن المتوّقع أن تستمرّ هذه السياسة. وكانت التطوّرات في سوريا، مع بروز حكم ذاتي كردي سوري بامتداد آخذ في التوسّع منذ العام 2012، واحداً من العوامل المهمّة التي أدّت إلى إطلاق عملية السلام الكردية ثمّ إنهائها بين العامين 2013 و2015. واعتبرت تركيا أنّ حلّ المسألة الكردية، علاوة على الاعتبارات السياسية المحلّية، أمر ضروري لإعتاق سياستها الإقليمية الطموحة (آنذاك) من أحد أهمّ معوّقاتها. بيد أنّ عدم قدرة الحكومة وحزب الاتحاد الديمقراطي المرتبط بحزب العمال الكردستاني على الاتفاق على شكل من أشكال طرق العمل ساهم إلى حدّ كبير في انهيار عملية السلام هذه.
إضافة إلى ذلك، قد يشكّل التوغّل التركي الأخير في سوريا نقطة انهيار لكتلة المعارضة. فباستثناء حزب الشعوب الديمقراطي، كلّ أحزاب المعارضة تدعم حالياً العملية العسكرية التركية في شمال شرق سوريا الخاضع لسيطرة وحدات حماية الشعب الكردية (قوات سوريا الديمقراطية). وتبعاً لكيفية تطوّر الموقف الذي يعتمده كلّ حزب، ولا سيما حزب الشعب الجمهوري، إمّا سينهار تحالف حزب الشعب الجمهوري والحزب الجيد (مع أنّ هذا لا يعني بالضرورة أنّ الحزب الجيّد سينضمّ إلى كتلة الحكومة) أو سيصل التحالف الحديث الناشئ بين حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي إلى أقصى حدوده.
وفي ما يخصّ المسألة الكردية، وجد حزب الشعب الجمهوري نفسه بين السندان والمطرقة. فتلبية المطالب الكردية قد يفضي في نهاية المطاف إلى فقدان الحزب الجيّد. من ناحية أخرى، انتباه حزب الشعب الجمهوري المفرط لمخاوف الحزب الجيّد سينفّر على الأرجح الأكراد إن لم يعاديهم. والتأقلم مع الوضع لا يمكنه أن يبقى موقفاً بشأن سياسة مستدامة لفترة طويلة أيضاً.
في هذه المرحلة، عدا وضع سياسة واضحة لدعم حقوق اللغة الكردية ورفض السياسة الإقليمية المناهضة للأكراد ودعم التمثيل السياسي لحزب الشعوب الديمقراطي، ماذا يسع المعارضة، ولا سيما حزب الشعب الجمهوري، فعله؟ ينبغي عليها أن تعمل لتغيير الأجندة السياسية المتحورة حول المسألة الكردية. بيد أنّه مع التوغّل في سوريا وردود الفعل الدولية حيال العملية، تغيير هذه الأجندة مسألة صعبة. لكن ما زال على حزب الشعب الجمهوري على الأقل أن يطرح أفكاراً جديدة. فقبل الانتخابات البلدية الأخيرة، كانت كتلة المعارضة جهة استباقية تضع الأجندات، فوضعت التحالف الحاكم في وضعية ردّ الفعل. لكن عقب الانتخابات فقدت المعارضة هذا الزخم الاستباقي. ومرّة أخرى يبدو أنّ الحكومة تحدّد شروط السياسة التركية فيما تحاول المعارضة اللحاق بها.
وتجري المنافسة الآن ضمن منطقة ارتياح الحكومة: القومية (بالتالي، تجلّيات مختلفة للمسألة الكردية) والشعبوية. ولتبقى المعارضة مستمرّة ينبغي عليها أن تغيّر المبدأ الذي تتمّ على أساسه المنافسة وأن تسلّط الضوء على مواضيع جديدة (مثلاً، قوانين مكافحة الفساد والشفافية في مشتريات الدولة ومناقصاتها وطبيعة النظام السياسي). فستبقي مبادرات سياسية كهذه الضوء مسلّطاً على نقاط ضعف الحكومة وستُرغم حزب التنمية والعدالة على البقاء في حالة ردّ الفعل وليس في حالة واضع الأجندات.
Commentary
هل بإمكان المعارضة التركية وضع سياسة كردية مستدامة؟
الخميس، 17 أكتوبر 2019