بدأ المُشير خليفة حفتر مسيرته الطويلة نحو السلطة في مايو 2014. وتَحْت راية “عملية الكرامة”، بدأ حفتر معركة كبيرة ضدّ الإسلامويين والميليشيات في بنغازي ومناطق أخرى في شرق ليبيا. وفي 15 مارس، عيّن مجلسُ النواب في طبرق حفترَ قائداً للجيش الوطني الليبي، وهو مجموعة من الميليشيات المختلفة. ويتضمّن الجيش الوطني الليبي إسلامويين مثل المدخليين، وهم عبارة عن مجموعة أصولية دعمت معمر القذافي وحاربت بضراوة ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا. واتّصفت معركة الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر بالبطء، وهدفت إلى الاستيلاء على بنغازي في العام 2014 وعلى درنة، مدينة تبعد حوالي 250 كيلومتراً شرقاً، في العام 2018.
في غضون ذلك، زحف حفتر أيضاً نحو منطقة الهلال النفطي، مركز الطاقة الليبية قرب مدينة سرت، لينتزعها من سيطرة حرس المنشآت النفطية التابع لإبراهيم الجضران. لهذا العمل، نال حفترُ رتبةَ مُشير. وفي وقت سابق من هذا الشهر، بعد مسيرة طويلة عبر جنوب غرب ليبيا، في منطقة معروفة باسم فزان، اتّخذ حفتر قراراً جريئاً بالهجوم على العاصمة طرابلس.
وعلى مدى السنوات المتعددة الأخيرة، بِاسم معركة ضدّ الإرهاب ومعارك لا تنتهي للسيطرة على الأراضي، حاز حفتر دعمَ الإمارات العربية المتحدة ومصر وروسيا وفرنسا والمملكة العربية السعودية. وقد تمّ ذلك على الرغم من أنّ هذه البلدان تدّعي أيضاً مساندتها لدور قوي تؤدّيه بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا ومبعوثيها الخاصين، المؤيّدين للمعارضة ضدّ حفتر، أي حكومة الوفاق الوطني في طرابلس بقيادة فارس السراج.
فأرسلوا إلى حفتر مستشارين وأموالاً وأسلحة. في غضون ذلك، نأت الولايات المتحدة بنفسها عن الملفّ الليبي منذ اغتيال سفيرها في بنغازي في سبتمبر 2012. واقتصر عوضاً عن ذلك اهتمام واشنطن بشكل كبير على قتال متفرّق ضدّ المجموعات الإرهابية في المغرب والساحل. ومن الواضح أنّ هذه المقاربة تكتيكية، غير أنّها لا تُعتبر استراتيجيةً.
تحرّك حفتر الجريء
في ظلّ الاستعمار الإيطالي، انقسم الجيش الملكي في ليبيا إلى فريقَين، لكلٍّ منهما قائد مختلف. وساعد ذلك على التحكّم باللوجستيات في هذه البيئة العدائية، فالمسافات الطويلة وغياب البنية التحتية وصحراء من الكثبان الرملية المتغيّرة ودرجات حرارة غير محتملة صعّبت إلى حدّ بعيد نقل الإمدادات، ممّا أثّر في كلّ قرار اتّخذه الجيش الإيطالي.
في المقابل، قاد حفتر جيشاً غير منظّم مؤلّف من ميليشيات بالكاد مدرّبة عبر منطقة فزان الواسعة. فوسّع انتشارَ جيشَه بشكل خطير بقيامه بذلك. فالجنود الذين أُسروا في الأسبوع الأول من الحصار المفروض على طرابلس كانوا يافعين جدّاً ومن الواضح أنّهم ليسوا على المستوى اللازم لأداء مهامّهم. علاوة على ذلك، بات الآن مئات الشباب المتوفّين من مدينة برقة (من الشرق) مدفونين في إقليم طرابلس (في الغرب)، ممّا ولّد مشكلة كبيرة في مدينة بنغازي الشرقية، حيث تعجز العائلات عن استعادة جثث أولادها. وفي هذه المرحلة، من الواضح أنّ ـأمام حفتر خيارَين فقط: إمّا الفوز بمعركة السيطرة على طرابلس أو مغادرة ليبيا إلى الأبد. فلن يقبل به أحدٌ في بنغازي بصورة الخاسر.
لذلك يبدو أنّ المعركة في العاصمة ستكون طويلة ودامية، إلّا إذا استطاعت الميليشيات التي تحكم طرابلس أن تُخضع حفتر المكروه بشدّة. إذ يعتبر المدنيون، العالقون في مرمى النيران المتبادَلة، أنّ هذه المعركة هجوماً عليهم واعتداءً على شرف المدينة. أمّا الميليشيات التي تدافع عن طرابلس، فتعتبر أنّ الهجوم يشكّل خطراً كبيراً على أراضيها وحرية تنقّلها. والقبول بحفتر يعني خسارتها كلّ هذا.
الرجل غير المناسب لليبيا
منذ آلاف السنين، كتب الجنرال الصيني العظيم سون تزو أنّ الجنرال الأفضل هو الذي يفوز بالحرب من دون قتال. وقد كان حريّاً بحفتر أن يستمدّ الإلهام منه. فكان يجدر به أن يعرف أنّه على الرغم من جميع الخلافات التي يمرّ بها الليبيون، هم قادرون على التوحّد في وجه عدو مشترك، وهذا بالتحديد ما قامت به في الأسابيع الأخيرة ميليشيات طرابلس، التي عادةً ما تكون منشغلة في التحارب في ما بينها.
ومع أنّه من المفترض أنّ المشيرَ قادرٌ على الفوز بالحرب بفضل حلفائه الخارجيين، من الصعب توقّع ما سيحصل بالضبط. بغضّ النظر عن ذلك، ستبقى طرابلس مكاناً مفعماً بالفوضى. فالفوضى المستمرّة تؤمّن أرضاً خصبة للمجموعات المقاومِة، بما فيها المجموعات الإرهابية على غرار تنظيمَي الدولة الإسلامية والقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.
ولا يستحّق الليبيّون المزيد من سفك الدماء أو نظامَ حكم عسكرياً آخر. لهذا، حفتر هو الرجل غير المناسب لليبيا. فقد أحبط هجومه على طرابلس الفرصة لإقامة مؤتمر وطني بدعم الأمم المتحدة في مدينة غدامس في أواسط أبريل، وكان هذا المؤتمر ليشكّل لحظة مهمّة في الجهود إلى الوحدة.
ولو كان حفتر أكثر حكمة، لكان باستطاعته جمع جيشه مع السماح بجريان المؤتمر بسلام. ففي تلك الحظة كان باستطاعته الادّعاء أنّه ساهم في عملية السلام ووضع نفسه في موقع القائد الليبي الوحيد القادر على ضمان العملية. عوضاً عن ذلك، اختار مسار العنف، وهو مسار لا ثمار له، فالعنف بادئ ذي بدء يصيب المدنيين.
الدور المناط بالولايات المتحدة
يجدر بالرئيس دونالد ترامب، قبل أن يغرّد كلاماً متهوّراً على موقع تويتر، أن يفكّر جدياً في الدور المفيد الذي قد تؤدّيه الولايات المتحدة. فكما قلت قبلاً، ما زال بإمكان الدور الأمريكي أن يكون حاسماً في عكس الانهيار الليبي المؤسف. فبإمكان الولايات المتحدة أن تؤدّي وظيفة دبلوماسية مهمّة على جبهتين: التنسيق بين الجهات الفاعلة الخارجية وموازنتها والمساعدة على التوسّط بين الجهتين الفاعلتَين الداخليتين الأساسيتين، أي حكومة الوفاق الوطني في طرابلس ومجلس النواب في طبرق.
وينبغي على واشنطن اتخاذ موقف واضح وثابت حول ليبيا يقرّ بقرارات الأمم المتحدة التي دعمتها الولايات المتحدة في الماضي. وعليها أيضاً أن تحثّ على انسحاب جيش حفتر من طرابلس وعلى بروز صوت مشترك حول ليبيا بين اللاعبين الخارجيين الأساسيين.
على الأرض، يجدر بالولايات المتحدة الاستفادة من العلاقات التفضيلية التي تربطها بمصر والمملكة العربية السعودية للحرص على عدم وصول المزيد من الدعم المادّي لجيش حفتر. فمن دون هذا الدعم سيبقى عالقاً أمام بوّابات طرابلس. فإذا عدلت مصر والمملكة العربية السعودية عن دعمهما، ستحذو الإمارات العربية المتحدة حذوهما، وستتعطّل سلسلة الدعم المقدّم لحفتر.
أمّا في ما يخصّ الدبلوماسية الغربية، فمن شأن تحرّك أمريكي أكثر صرامة أن يمنع بروز أيّ طموحات فرنسية خطيرة بشأن قطاع الطاقة بشكل خاص. ويجدر بوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو العمل على تحسين العلاقات بين فرنسا وإيطاليا حيال ليبيا، إذ يشكّل الأمر شرخاً إشكالياً في ما غدا مجموعةً أوروبية شديدة التصدّع.
أخيراً، سترسل خطوة عسكرية بسيطة، مثل رسي سفينة حربية أمريكية أمام ميناء طرابلس، رسالةً واضحةً لحفتر ويمكن أن تحثّه على الامتناع عن القيام بالمزيد من العنف ضدّ العاصمة.
Commentary
مع مهاجمة حفتر لطرابلس، على الولايات المتحدة الانخراط من جديد في شؤون
الخميس، 25 أبريل 2019