يقول دانيال بايمان إنّ قدرة الجذب التي تتحلّى بها أيديولوجية تنظيمَي الدولة الإسلامية والقاعدة لا تزال قويةً، وستسعى أعداد ضئيلة من التابعين لهما في الغرب إلى حمل السيف. غير أنّ الخطر اليوم أقلّ تهديداً ممّا كان عليه في العام 2014، وعلى صانعي السياسات الإقرار بأنّ تحقيق نجاح جزئي قد يكون أفضل ما سيحصلون عليه. نُشرت هذه المقالة بدايةً على موقع ForeignPolicy.com. وهذه ترجمة للنسخة الأصلية.
منذ أكثر من أربع سنوات، في يونيو 2014، أعلن أبو بكر البغدادي قيامَ خلافة في العراق وسوريا ونصّب نفسه خليفة. وسيطرت مجموعته، التي أعاد تسميتَها تنظيم الدولة الإسلامية تخليداً لهذه المناسبة المهمّة، على أرض مساحتها بمساحة بريطانيا تضمّ 10 ملايين شخص، فبدت أهمّية إنجازات تنظيم القاعدة وغيرها من المجموعات الجهادية تافهة أمام هذا الإنجاز.
وقد أرعب تنظيم الدولة الإسلامية العالمَ وأسر مخيّلته باتّخاذه رقيقاً جنسياً، ودعمه لهجمات إرهابية، وتصويره عمليات قطع رؤوس الرهائن، ونشره قضيّته على وسائل الإعلام من دون هوادة. في الولايات المتحدة، ازدادت المخاوف من الإرهاب بشكل كبير، ممّا ساعد حملة دونالد ترامب الرئاسية. لكنّ ذلك حصل في ذلك الوقت. أمّا اليوم، فقد اختفت الخلافة، واستولت القواتُ الكردية المدعومة من الولايات المتحدة على آخر أراضيها. بالتالي، بالإمكان استخلاص الكثير من العبر من نجاح تنظيم الدولة الإسلامية في البداية وتدهوره السريع في ما بعد.
يشكّل الاستيلاء على الأراضي نعمةً ونقمةً في آن للمجموعات الجهادية. فمن جهة، شكّلت الخلافة إغراءً كبيراً للمهتمّين بالانضمام إلى الجهاد، فجذبت عشرات آلاف المتطوّعين من العالم العربي وأوروبا وآسيا الوسطى. وكان في وسع التنظيم أن يفرض الضرائب على الأراضي التي يستخدمها المزارعون والمنتجات التي يزرعونها ويبيعونها، ويستغلّ احتياطات النفط الخاضعة لسيطرته، ويجنّد الشباب للقتال. وأتاحت هذه الموارد للتنظيم أن يبني جيشاً أكبر وأن يجمع ملايين الدولارات شهرياً.
فقد حصّل تنظيم الدولة الإسلامية في ذروة نجاحه ضرائب ربّما تبلغ 800 مليون دولار أمريكي سنوياً. وتمكّن عملاء التنظيم ضمن حدود الخلافة الآمنة من التخطيط لعمليات إرهابية، مثل الاعتداءات على باريس في العام 2015 التي قتلت 130 شخصاً، ومن تدريب مجنّدين آخرين وإلهامهم لتنفيذ اعتداءات في بلادهم الأمّ. ولعلّ الأهمّ ما في الموضوع أنّ الخلافة مارست أحد تبريرات العمل الجهادي، ألا وهو حكم الشعب تبعاً للشرع الإسلامي بصرامة. ويُعزى جزءٌ من سبب نجاح الخلافة في البداية إلى أنّها برزت في قلب العالم العربي، فيما استرعت الحرب الأهلية في سوريا اهتمام العالم، مقارنةً بساحات جهادية طرفية أكثر مثل الصومال واليمن والقوقاز. والأكثر أهمّية حتّى هو أنّ الجهاديين في سوريا تمتّعوا بدرجة عالية من حريّة التحرّك في السنوات الأولى من الصراع.
ففي بلدان أخرى، كلّما اكتسب الجهاديون زخماً على المستوى المحلّي بعد أحدث 11 سبتمبر، وقفت الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى جانب الحكومات لدعمها في مواجهة الجهاديين. ففي العراق والصومال واليمن وبلدان أخرى، استغلّ الجهاديون الحروب الأهلية، غير أنّ مساعدة الولايات المتحدة لحكومات تلك الدول وضربات الطائرات من دون طيّار وغيرها من التدابير قهقرت الجهاديين واحتوتهم وعرقلت تحرّكهم. واضطلعت فرنسا بدور مماثل بعد أن سيطر الجهاديون على معظم مالي في العامَين 2012 و2013.
لكن في سوريا، شكّل نظام بشّار الأسد بطبيعته التي تميل إلى معاداة الآخرين وإلى ارتكاب إبادات جماعية حاجزاً أمام هبوب واشنطن لنجدة البلاد. وبالفعل، في السنوات الأولى من الحرب بدت الولايات المتحدة أنها تنوي على الأرجح ضرب النظام أكثر مما تنوي ضرب الجهاديين. ثمّ تحدّث الرئيس الأمريكي آنذاك باراك أوباما وحلفاؤه القادة علناً عن الإطاحة بالأسد. ولم تتدخّل الولايات المتحدة إلّا بعد أن بدأ تنظيم الدولة الإسلامية بقتل اليزيديين وبالزحف نحو بغداد.
وعندما بدأ التدخّل، حلّت الكارثة بتنظيم الدولة الإسلامية، وظهرت مخاطر حيازة الأراضي. فقد حاول التنظيم الدفاع عن خلافته، فمات عشرات الآلاف من مقاتليه في سعيهم لذلك، إلى جانب الكثير من المخطّطين لعملياته ومن المروّجين الدعائيين. وقد اتّصفوا بالشجاعة والعزيمة، فلم تسقط الخلافة. غير أنّ مساحتها تقلّصت باستمرار، ممّا برهن على أنّه حتّى مجموعة جهادية جيّدة التجهيز لا تضاهي الجبروت العسكري للولايات المتحدة وحلفائها.
ولم تختفِ جاذبية تنظيم الدولة الإسلامية، لكنّها تضاءلت بما أنّ المجموعة لم تعد جهة منتصرة تستطيع التباهي بإنشاء دولة يحكم فيها قانون الله بدون منازع. وبات المجنّدون الغربيون، على غرار شميمة بيغوم من بريطانيا وهدى مثنى من الولايات المتحدة، يطالبون بالعودة إلى بلادهم الأمّ بعد أن غادروها للعيش ضمن الخلافة ودعوا إلى القيام بهجمات على الغرب.
ولطالما أدرك تنظيم القاعدة، حليف تنظيم الدولة الإسلامية لكن خصمه الأوّل، هذا التوتّر. فدائماً ما اعتبر أسامة بن لادن الخلافة هدفاً نهائياً، غير أنّه أدرك أنّ إعلانها في وقت سابق لأوانها، أي قبل التمكّن من الدفاع عنها كما يجب، سيجعل منها ببساطة هدفاً لغضب الولايات المتحدة. وكان خلفه أيمن الظواهري حذراً أيضاً، لكنّه أظهر في العلن تعاطفاً أكبر للموضوع نظراً إلى شعبية الخلافة بين المجنّدين المُحتملين. وفي العام 2019، يبدو أنّ حذر بن لادن كان تصرّفاً حكيماً.
ولدهشة الكثيرين الذين روّعتهم عمليات قطع الرؤوس التي قام بها التنظيم وطبيعة حكمه القاسية، غالباً ما لاقت الخلافة شعبية لدى أولئك الخاضعين لحكمها. فعل غرار حركة الشباب في الصومال وتنظيم القاعدة في جزيرة العرب في اليمن وحركة طالبان في أفغانستان وغيرها من المجموعات، لم تأتِ هذه الشعبية من أيديولوجية هذه المجموعات بل من قدرتها على تأدية وظائف الحكومة الأكثر أساسية، أي فرض القانون والنظام وتقديم اليسير من الخدمات الاجتماعية.
ففي الأطروحة التي ألّفها أبو بكر ناجي والتي تحمل عنواناً يليق بمضمونها ألا وهو “إدارة التوحّش”، دعا هذا الاستراتيجي الجهادي إلى اللجوء إلى العنف الإرهابي لخلق مناطق من الفوضى في بلد ما. فتستلم عندئذ المجموعات الجهادية زمام الأمور وتكسب تأييد السكّان المنهكين من خلال فرض القانون والنظام. وقد تبع تنظيمُ الدولة الإسلامية هذا المخطّط. فكما قال أحد عناصر الشرطة في تنظيم الدولة الإسلامية في العراق: “إذا نجحنا من فرض العدالة، نعلم أنّنا سنفوز بقلوب الناس”.
ويقرّ سكّان مدنٍ مثل الموصل، الذين لم يهربوا عند وصول تنظيم الدولة الإسلامية، بأنّ حكم التنظيم الوحشي حسّن الخدمات مثل تأمين الكهرباء ومكافحة الجريمة. وأدرك المهندسون الحكوميون الذين غالباً ما تقاضوا أجرهم لكن عملوا في وظائف أخرى في ظلّ الحكومة العراقية أنّ الحضور للعمل هو الخطوة الأكثر أماناً في مسيرتهم المهنية مع استلام تنظيم الدولة الإسلامية الحكم. وقد كسب التنظيم تأييد جزء من السكّان بفضل هذا الأداء، ونتيجةً لذلك تمكّن أكثر من الحصول على الموارد. ومع تلاشي ذكرى وحشية تنظيم الدولة الإسلامية واستمرار القادة المحلّيين الفاسدين وغير الكفؤين بالحكم، سيحنّ بعض العراقيين والسوريين على الأقلّ إلى وقت مضى كانت فيه الأنوار تبقى مضاءة.
وبالنسبة إلى الولايات المتحدة، شكّلت مشاكل الحوكمة هذه العائق الأكبر أمام جهودها لمحاربة الإرهاب في الشرق الأوسط وخارجه. فمنذ أحداث 11 سبتمبر، طوّرت الولايات المتحدة آلة قتل كبيرة وقادرة تدمّر بانتظام صفوف المجموعات الإرهابية. لكن تبيّن أنّ الخطوات التي يجدر القيام بها بعد الضربات العسكرية أصعب بكثير. فقد أنشأ زعماء الحرب الوحشيون والأنظمة الفاسدة مناطق تعمّها الفوضى، ولم تجد الولايات المتحدة وسيلة لاستبدالهم بحكومة قوية جيّدة تستطيع الحفاظ على النظام من دون تدخّل أمريكي. ففي أفغانستان والعراق وربّما حالياً في سوريا أيضاً، تُمكّن السلطات المحلّية الضعيفة والفاسدة وغير الكفوءة المجموعات المقاتلةَ المحلّية من العودة بعد أن تمّت هزيمتها.
غير أنّ جهوداً لمكافحة الإرهاب كهذه لا تزال تستحقّ العناء. فمن وجهة نظر المجموعات الإرهابية، الصراعات المحلّية مسألة طاحنة تتطلّب موارد دائمة وانتباهاً مستمراً. ويحارب تنظيم الدولة الإسلامية مع فروعه في ليبيا وشبه جزيرة سيناء في مصر وغيرها من البلدان، على غرار تنظيمات القاعدة النظيرة له في بلدان أخرى، الحكومات المحلّية أو زعماء الحرب المحلّيين في المقام الأوّل، وليس الولايات المتحدة. وقد يشعر الحلفاء المحلّيون بالقليل من الارتياح، غير أنّ التركيز على الإرهاب الدولي يصبح أصعب بكثير في هذه الظروف. ومن المستبعد أن تدغدغ هذه الصراعات المحلّية العادية مخيّلةَ المتطوّعين الأجانب المحتملين.
وتجهد إدارة ترامب، شأنها شأن إدارة أوباما قبلها، في كيفية الموازنة بين التيقّظ والانتصارية. إذ يميل ترامب، بحكم طبيعته، نحو الانتصارية، متباهياً بهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية، ويخيف ذلك المجتمع المكافح للإرهاب، الذي يريد أن يبقى في سوريا ليستمرّ بممارسة الضغط.
ولا عيب في انتقاد تباهي ترامب على أنّه سابق لأوانه، لكن من الضروري أيضاً الاعتراف بأنّ تنظيم الدولة الإسلامية قد تلقّى ضربة قوية وأنّ هزيمة الخلافة نقطةُ تحوّل محتملة. فقد توقّف دفق المحاربين الأجانب، وتصعّب خسارة الأرض كثيراً على التنظيم إمكانية تنظيمه هجمات إرهابية دولية. وقد لا تعود قريباً الظروف غير الاعتيادية التي سمحت للخلافة بأن تزدهر لفترة وجيزة، ومن المستبعد أن ينتعش تنظيم الدولة الإسلامية قريباً على المستوى عينه أو أن تبرز جبهة أخرى بالجاذبية عينها التي تحلّت بها سوريا.
طبعاً، لا يعني أيّ من ذلك نهايةَ الإرهاب الجهادي. إذ لا تزال قدرة الجذب التي تتحلّى بها أيديولوجية تنظيمَي الدولة الإسلامية والقاعدة قويةً، وستسعى أعدادٌ ضئيلة من التابعين لهما في الغرب إلى حمل السيف. غير أنّ الخطر اليوم أقلّ تهديداً ممّا كان عليه في العام 2014، وعلى صانعي السياسات الإقرار بأنّ تحقيق نجاح جزئي قد يكون أفضل ما سيحصلون عليه.
Commentary
ماذا بعد تنظيم الدولة الإسلامية؟
الجمعة، 22 فبراير 2019