Commentary

كيف تغلب الهوية اليهودية على الديمقراطية في إسرائيل

عندما يحذّر القادة والمعلقين الأمريكيين من أن غياب حل الدولتين للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني سيجعل من المستحيل على إسرائيل أن تكون دولة يهودية وديمقراطية في آن معاً، فهم يعنون عموماً أنه لا بد من أغلبية يهودية من أجل قيام ديمقراطية يهودية؛ فلو جمعت إسرائيل الضفة الغربية وغزة معاً، سيصبح العرب أغلبية. إلا أنهم لم يدركوا ربما أنّ نصف اليهود الإسرائيليين لم يسعوا إلى أغلبيةٍ يهوديةٍ فحسب، بل أيضاً إلى حصرية يهودية.

تلك هي إحدى النتائج الأكثر إثارة للقلق التي خرج بها الاستطلاع الجديد الذي أجراه معهد بيو الأمريكي للأبحاث في إسرائيل. وهي لا تبشر بالخير للتعايش بين العرب واليهود في إسرائيل، وحتى بغض النظر عن الأحداث في الضفة الغربية وقطاع غزة.

وقد أجريت هذه الدراسة المهمة على 5,601 بالغ إسرائيلي فوق سن الثامنة عشر في الفترة الممتدة بين 14 أكتوبر 2014 و21 مايو 2015، وقد كنت مستشاراً للمشروع. أظهرت الدراسة أن 48 بالمئة من اليهود الإسرائيليين يؤيدون “وجوب طرد العرب أو نقلهم من إسرائيل”، بينما 46 بالمئة لا يؤيدون ذلك. أما ما يثير القلق أكثر، فهو أنّ الاغلبية من كل مجموعة يهودية غير علمانية، بما في ذلك 71 بالمئة من اليهود المتدينين (Dati) يؤيدون ذلك.

صحيحٌ أنّ العمر لا يُعتبر عاملاً يؤثر كثيراً على موقف طرد العرب من إسرائيل، إلا أنّ الإسرائيليين الأصغر سناً هم أكثر ميولاً من الأكبر سناً لتأييد طرد العرب من إسرائيل.

ترتكز هذه المواقف على نظرة أوسع لهوية الدولة الإسرائيلية وطبيعتها. بشكل عام، حوالي ثلث اليهود الإسرائيليين يقولون إن هويتهم الإسرائيلية تسبق هويتهم اليهودية، مع الأغلبية الساحقة من كل مجموعة، باستثناء اليهود العلمانيون الذين يضعون هويتهم اليهودية أولاً.

يترتب على هذا الرأي عواقب على حقوق المواطن. ليس من المستغرب أن الأغلبية الساحقة من اليهود الإسرائيليين (98 بالمئة) يظنون أن اليهود في جميع أنحاء العالم لديهم حقاً مكتسباً بالعودة إلى إسرائيل والحصول على الجنسية الإسرائيلية تلقائياً. بيد أنّ الغريب في الأمر هو أن 79 بالمئة من اليهود، بما في ذلك 69 بالمئة من اليهود العلمانيين (Hilonim)، يقولون إن اليهود يستحقون “معاملة تفضيلية” في إسرائيل- وهذا كثير لفكرة الديمقراطية والمساواة في الحقوق الكاملة بين جميع المواطنين.

تسبب هذه المواقف مشاكل لمواطني إسرائيل العرب الذين يشكّلون 20 بالمئة من سكان إسرائيل. صحيح أن المواقف حيوية؛ فهي تشكّل جزئياً إحدى وظائف العلاقات بين اليهود والعرب داخل إسرائيل نفسها وخارجها، وبشكلٍ خاص داخل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي الأوسع. وكما يفعل نظراؤهم اليهود، يُعرَف مواطنو إسرائيل العرب (بغالبية مسلمة، ولكن أيضاً من المسيحيين والدروز) أنفسهم بحسب انتمائهم العرقي (فلسطيني أو عربي) أو الديني، قبل هويتهم الإسرائيلية. وتصبح هذه الهويات العرقية/الدينية أقوى عندما يشتد الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. لا يمكن الفصل بشكل كامل بين الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي الأوسع والعلاقات العربية اليهودية داخل إسرائيل.

في السنوات الأخيرة، أصبح هذا الارتباط مركزياً لسببين: الأول، وهو فقدان الأمل في حل الدولتين؛ والثاني، وهو ظهور وسائل التواصل الاجتماعي التي عرضت مواقف متطرفة كانت في السابق تقتصر على الدوائر الخاصة. ففي عصر الفيسبوك والتويتر، أصبح المواطنون العرب واليهود ينشرون مواقف تسيء للآخر بشكل كبير. فتارةً ترى عربياً يعبر عن فرحته لموت جنود اسرائيليين على يد فلسطينيين، وتارةً أخرى ترى يهودي ينشر يافطة كُتب عليها “الموت للعرب”. تلك أمورغير مشجعة على التعايش. ولك أن تتخيل كيف يمكن للسياسيين الانتهازيين والمتطرفين والمحرضين أن يستغلوا ذلك.  

ولكن تقع المسؤولية أيضاً على الأمريكيين – ليس على صعيد فشل الجهود الدبلوماسية، بل موقعها من طبيعة الصراع نفسه، وطبيعة دولة إسرائيل. وفي الوقت الذي يقوم الرئيس أوباما بدراسة خطوات يمكن أن يتخذها بشأن الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني قبل نهاية ولايته، قد يفكر بمعالجة ما أصبح خطاباً مشوهاً وضاراً من شأنه أن يفتح المجال لمواقف غير ديمقراطية، وتحويل الانتباه عن المشاكل الأساسية.

أولا، ثمة خطأ في طرح احتمال العرب كمشكلة ديمغرافية بالنسبة لإسرائيل، فهو يضفي شرعية على تفضيل التهويد على الديمقراطية، كما يشوّه السبب الذي يلزم إسرائيل بإنهاء احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة. ما يعني أن هذه السبب ليس شأنا إسرائيلياً بل هو شأنٌ متعلق بالقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة.

‎ثانياً، صحيح أنه يمكن للدول أنّ تُعرف عن نفسها كما تشاء (وتحظى بموافقة المجتمع الدولي بناءً على ذلك)، إلا أنّه من غير الممكن اقتلاع تقبل الأمريكيين لتهويد إسرائيل من السياق الفلسطيني – الإسرائيلي أو من الطلب الأمريكي أن تكون الدول جميعهاً حقاً لجميع مواطنيها بالتساوي.

من جهة، يعتمد ذلك على مفهوم أن الجمعية العمومية للأمم المتحدة (القرار 181) قد أوصى في العام 1941 بتقسيم فلسطين المنتدبة إلى دولة “عربية” وأخرى “يهودية”. ومن جهة أخرى، يعتمد على مفهوم أن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي هو صراع سياسي يمكن حلّه عن طريق إقامة دولتين، تُظهر إحداهما حقّ اليهود كشعب بتقرير مصيرهم، وتجسد الأخرى حقّ الفلسطينيين كشعب بتقرير مصيرهم. وترتبط الدولتان إحداهما بالأخرى. إلا أن تَبني إقامة دولة يهودية تستثني دولةً فلسطينية يتعارض مع هذا المبدأ.

في حال بات من المستحيل تطبيق حلّ الدولتين، فتختار أمريكا الديمقراطية على التهويد. في الحقيقة، لقد انعكس ذلك باستمرار في مواقف أمريكا العلنية على جميع المستويات السياسية، كما ظهر مؤخراً في استطلاع نوفمبر 2015. ففي ظل غياب حلّ الدولتين، يريد 72 بالمئة من الشعب الأمريكي إسرائيل ديمقراطية، حتى وإن عنى ذلك تخلي إسرائيل عن هويتها كدولة يهودية أغلب سكانها من اليهود.

وعلى الصعيد المركزي، حتى في ظل وجود دولتين تقرران مصيرهما– دولة يهودية وأخرى فلسطينية – هناك موقف أمريكي شامل مبدئي: إذا كانت إسرائيل دولة لليهود، فيجب أن تكون فوق كل شيء دولة لكل مواطنيها بالتساوي؛ (وعندما تصبح فلسطين دولة للشعب الفلسطيني، فلا بد أن تكون دولة لجميع مواطنيها بالتساوي). وبالتالي، من شأن هذا المبدأ الديمقراطي، المدعم بموقفٍ أمريكي معاد صياغته، أن يساعد على تجنب شرعنة المواقف غير الديمقراطية باسم الهوية اليهودية.