إنّ قرار إدارة ترامب الأخير بالسماح لبعثة منظّمة التحرير الفلسطينية في واشنطن (وهي بحكم الأمر الواقع سفارة الفلسطينيين هناك) بمتابعة نشاطها على الرغم من وجود قانون يطالب بإغلاق أبوابها، قد دفع بالكثيرين إلى الاعتقاد بأنّ المعمعة الأخيرة حول المسألة الإسرائيلية الفلسطينية قد تم حلّها. غير أنّ هذا الاعتقاد خاطئ. إذ لم تُحلّ الأزمة، بل تأجّلت ليس إلا، ولا سيما أن إدارة ترامب فرضت شروطاً جديدة تضع البعثة في حالة أكثر تزعزعاً من قبل حتّى.
علاوة على ذلك، تسلّط هذه الأزمة الضوء على استنتاج بات من الصعب تجنّبه: ففيما وُضعت القوانين والسياسات الأمريكية سابقاً لإبقاء الفلسطينيين خارج أيّ عمليّة للسلام، من منطلق أنّ المشاركة الفلسطينية أمرٌ كرهته إسرائيل، انعكس اليوم هذا المنطق تماماً. إذ يبدو أنّ السياسة الأمريكية الآن تهدف إلى زجّ الفلسطينيين إلى أجل غير محدّد نوعاً ما في عمليةِ سلامٍ تحدّ بشكل كبير من خيارات الفلسطينيين الدبلوماسية ومن قدرتهم على اتّخاذ القرارات بصورة مستقلّة. لكن في الحالتين كلتيهما، لم يكن الهدف العام حلّ الصراع بل حماية إسرائيل من الضغط.
وكما سبق أنْ ذكرتْ عدّة مقالات، تتأتّى الأزمة حول مكتب منظمة التحرير الفلسطينية نتيجةً لإحدى السياسات الكثيرة المعادية لمنظّمة التحرير الفلسطينية التي وضعتها الولايات المتحدة عقب حرب 1967. وما لقيَ اهتماماً أقلّ أنّ معظم هذه التدابير لم يتمّ اتخاذها ردّاً على أعمال إرهابية لافتة، بل بسبب مبادرات سياسية ودبلوماسية قامت بها منظّمة التحرير الفلسطينية. وهدفت جميع هذه التدابير تقريباً إلى منع الفلسطينيين من التمتّع بشرعية دولية أو من السماح لهم بالمشاركة في أيّ عملية للسلام في الشرق الأوسط.
وقد برز أول تدبير في سبتمبر 1975، حين وقّع وزير الخارجية الأمريكي هنري كسينجر مذكّرة اتفاق سريّة مع إسرائيل يتعهّد فيها بأنّ الولايات المتحدة لن “تعترف بمنظّمة التحرير الفلسطينية أو تتفاوض معها” إلى أن تعترف المنظّمة بحقّ إسرائيل بالوجود وتقبل قرارَي مجلس الأمن 242 و338. ولم يتضمّن تعهّد كسينجر، الذي قطعه بعد أقلّ من عام على اعتراف الأمم المتحدة بمنظّمة التحرير الفلسطينية ممثّلاً شرعياً للشعب الفلسطيني، أيَّ ذكر للإرهاب، على الرغم من ربط منظّمة التحرير الفلسطينية بهجمات إرهابية بارزة تمّ شنّها في سنوات سابقة.
ولم يضف الكونغرس شرطاً ثالثاً يطالب منظّمة التحرير الفلسطينية بأن “تتخلّى عن الأعمال الإرهابية” إلا في أغسطس 1985 عند تقوننت مذكّرة الاتفاق. وهذه المرّة أيضاً، لم يوضع القانون الجديد نتيجة ازدياد أعمال منظّمة التحرير الفلسطينية الإرهابية بل لاستعداد إدارة الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغان لإعطاء منظمة التحرير الفلسطينية دوراً غير مباشر في عملية سلام جديدة.
وفي العام 1987، بُعيد نشوب الانتفاضة الأولى، أقرّ الكونغرس قانوناً جديداً يصنّف لأوّل مرة منظّمة التحرير الفلسطينية منظّمة إرهابية. وبموجب حكمٍ اعتبره ريغان مخالفاً للدستور حُظّر عليها حظراً تاماً تقريباً أن تحظى بأيّ تواجد في الولايات المتحدة وأن تؤدّي أيّ عمليّات فيها. وقد قبلت منظّمة التحرير الفلسطينية بشروط الولايات المتحدة بالالتزام في ديسمبر 1988، مما سمح لإدارة ريغان ببدء حوار رسمي مع منظّمة التحرير الفلسطينية، دافعاً الكونغرس إلى وضع قيود جديدة على التواصل بين الولايات المتحدة ومنظمة التحرير الفلسطينية.
وبعد توقيع اتفاق “إعلان المبادئ” في أوسلو بين إسرائيل ومنظّمة التحرير الفلسطينية في العام 1993 (ويعتبر ذلك إنجازاً دبلوماسياً لم تشارك فيه الولايات المتحدة)، حوّل المشرّعون الأمريكيون تركيزهم ليس إلى دعم عملية السلام بل إلى رسم حدود للأعمال والخيارات الفلسطينية على الساحتين الدبلوماسية والسياسية. فبدل إلغاء النصوص القائمة المتعلّقة بالتشريعات المعادية لمنظّمة التحرير الفلسطينية، منح الكونغرس الرؤساء السلطة بتعليق أحكام معيّنة أو التنازل عنها مؤقتاً، وذلك تحت إشراف الكونغرس وبحسب الضرورة للسماح باستتباع عملية السلام ليس إلا. في الوقت عينه، أقرّ الكونغرس قوانين جديدة تقيّد الأنشطة التي تجريها الدبلوماسية الفلسطينية بعيداً عن عمليّة السلام التي تقودها الولايات المتحدة. وغدت جهود منظّمة التحرير الفلسطينية بالانضمام إلى الهيئات الدولية أو تحسين مكانتها فيها خطاً أحمر في الكونغرس، بدءاً بقانون العام 1994 الذي يطالب بسحب التمويل من الوكالات التابعة للأمم المتحدة وربّما منظّمة الأمم المتحدة ككلّ، في حال قبولها فلسطين كعضو كامل العضوية.
وقد أبدى الكونغرس صرامته حيال هذا الخطّ الأحمر في العام 2011. فبعد أن انضمّت فلسطين إلى اليونسكو، الأمر الذي دفع بإدارة أوباما إلى وقف تمويل المنظّمة بالكامل، أقرّ الكونغرس قانوناً جديداً يربط تنازل الرئيس عن قرار حظر منظّمة التحرير الفلسطينية من العمل في الولايات المتحدة الذي أُقرّ في العام 1987 بشرط تأكيد الرئيس أنّ الفلسطينيين لم ينضمّوا إلى أيّ وكالة أخرى تابعة للأمم المتحدة. وبعد أن انضمّ الفلسطينيون إلى المحكمة الجنائية الدولية في العام 2015، دبّ الخوف من احتمال محاكمة الجنود والجنرالات الإسرائيليين جرّاء معاملتهم الفلسطينيين، وكرّر الكونغرس السلوك ذاته. فأقرّ قانوناً جديداً يحدّ أكثر من سلطة الرئيس بالتنازل عن حظر العام 1987، عبر ربط هذا التنازل بتأكيدٍ مفاده أنّ الفلسطينيين لا يدعمون “أيّ تصرّف” ضدّ إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية، مما أفضى إلى الأزمة الأخيرة حول مصير البعثة الفلسطينية في واشنطن.
وللخطوة التي اتّخذتها إدارة ترامب للإبقاء على بعثة منظّمة التحرير الفلسطينية دلالة ملفتة. فعلى عكس ما اقترح الكثيرون، لم “تتراجع” إدارة ترامب عن قرارها بسحب التأكيد حول تجاوب منظّمة التحرير الفلسطينية مع الشرط المرتبط بالمحكمة الجنائية الدولية، بل أكّدت في الواقع، مثل إدارة ريغان، أن الكونغرس لا يتحلّى بسلطة توجيه الرئيس في مواضيع كهذه، ووضعت سياستها الخاصة إزاء بعثة منظّمة التحرير الفلسطينية. وتربط هذه السياسة الجديدة، التي تتوافق مع سابقاتها من السياسات القانونية، بشكل واضح مستقبل مكتب منظّمة التحرير الفلسطينية بقرار رئاسي مفاده أن “الإسرائيليين والفلسطينيين منخرطون في محادثات سلام جدّية.”
لا شكّ في أن مسبّبي فشل عمليّة السلام المتكرّر كثر. لكنّ تاريخ قوانين الولايات المتحدة وسياساتها تشير إلى أنّه في حال لم يحصل أيّ تغيير ستتحول عبارة “عمليّة سلام تقودها الولايات المتحدة” بسرعة إلى عبارة تجتمع فيها لفظتان متناقضتان. فإذا استمرّ استغلال عمليّة السلام كوسيلة للسيطرة على الفلسطينيين أو منْعهم عن التحرّك سياسياً، بدلاً من الاستفادة منها لحلّ الصراع أو إنهاء الاحتلال، سرعان ما سيستنتج الفلسطينيون أنّ في مشاركتهم في عملية السلام خسارةً أكبر من الانسحاب منها.
Commentary
زجّ الفلسطينيين في عملية سلام منقوصة
الثلاثاء، 5 ديسمبر 2017