يقول عادل عبدالغفار وآنا جاكوبس: “فيما يتّسم كلّ بلد من هذين البلدين بخصائص سياسية واقتصادية فريدة، بإمكان الاحتجاجات وردّ فعل النظام في مصر في العام 2011 أن تقدّم بعض الدروس للجزائريين”. نُشرت هذه المقالة بدايةً على The Monkey Cage في The Washington Post في 14 مارس 2019. وهذه ترجمة للنسخة الأصلية.
يوم الإثنين 11 مارس، تمّ تأجيل الانتخابات الرئاسية الجزائرية المُقرّرة في 18 أبريل، مع وعدٍ من الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بعدم الترشّح لولاية خامسة واستقالة رئيس الوزراء أحمد أويحيى. ويعني هذا التأجيل أنّ حكم بوتفليقة سيُمدّد إلى أجل غير مُسمّى إلى حين إقامة مؤتمر انتقالي معالمه غير واضحة. وقد تمّ التخطيط للقيام بتظاهرات في الأيام المقبلة ردّاً على ذلك.
وفي مصر كما في الجزائر، يُعتبر الجيش القوّة الأقوى العاملة خلف الكواليس، وتشكّل درجة مركزية النظام عنصراً غاية في الأهمية لفهْم قدرة هذَين النظامَين على التكيّف مع الأزمات السياسية وتخطّيها. وكما في الفترة التي سبقت إسقاط حسني مبارك في مصر، تبحث دولة الجزائر العميقة (أو الدولة داخل الدولة) عن سُبلٍ للخروج من وضعها المتقلقل. وهي تحاول منْحَ الانطباع بأنها تقدّم تنازلات وعمليةً انتقالية تتيح لأولئك الذي يقبعون داخلها المحافظة َعلى النظام وعلى مكانهم فيه.
وفيما يتّسم كلّ بلد من هذين البلدين بخصائص سياسية واقتصادية فريدة، بإمكان الاحتجاجات وردّ فعل النظام في مصر في العام 2011 أن تقدّم بعض الدروس للجزائريين. فدَورُ الجيش الطاغي والنخبة الاقتصادية والسياسية ذات الصلات النافذة يعنيان أنّ دولة الجزائر العميقة لن تختفي بين ليلة وضحاها. لكن في وسع المتظاهرين تفادي خطأين مهمَّين تمّ ارتكابهما في مصر، أوّلاً، عبر الإصرار على إصلاحات فعلية والرفض أن تتمّ تهدئة نشاطهم عبر التخلّص من شخصيات النظام، وثانياً، عبر البقاء في الشوارع إلى أن تلبّى مطالبهم.
أصداء تذكر بمصر
في 1 فبراير 2011، وبعد موجة تاريخية من الاحتجاجات، ألقى مبارك خطاباً أقرّ فيه بمطالب المتظاهرين المصريين. فعيّن نائبَ رئيس وأعلن أنّه لن يترشّح لولاية جديدة. لكنّ هذه الاستراتيجية التي رآها النظام على أنّها تنازلٌ كبير سيروي غليلَ المتظاهرين لم تنجح. فعلى غرار ردود الفعل الأخيرة إزاء تنازلات النظام في الجزائر، بقي زخم الاحتجاجات المصرية مستمراً.
فقد استشاط غضب المتظاهرين في أرجاء البلاد عندما لم يستقلْ مبارك في خلال خطابه الذي ألقاه في 10 فبراير. وسحَبَ الجيش دعمه أخيراً، بعدما فهِم مدّى صعوبة الوضع، فتنحّى مبارك في اليوم التالي. فأخلى المتظاهرون ساحة التحرير وعادوا أدراجهم موعودين بأنّ الجيش سيمهّد الطريق أمام الحكم المدني.
لكنّهم كانوا مخطئين. فبعد ثماني سنوات، في العام 2019، باتت دولة مصر العميقة أقوى من ذي قبل. فقد برهن نظام عبد الفتّاح السيسي أنّه ذو قدرة كبيرة على التكيّف، وغالباً ما يتمّ وصف هذا الرجل اليوم بأنّه “أسوأ من مبارك”. وهو يسعي إلى تمديد حكمه من خلال تعديلات دستورية تخوّله البقاء في السلطة حتّى العام 2034، مطيحاً بذلك بالمكسب الأخير الذي حقّقته ثورة العام 2011، أي حصر سدّة الرئاسة بولايتَين متتاليتَين فقط.
السلطة تتمسّك بالحكم
بعد أن نالت الجزائر استقلالها عن الحكم الفرنسي في العام 1962، أصبحت جبهة التحرير الوطني الرمز الأكبر للشرعية التاريخية والسياسية. فقد اكتسب هذا الحزب بفضل الدور الذي أدّاه جناحاه العسكري والسياسي كلاهما السلطةَ لتأسيس نظام حكم أحادي الحزب من خلال توازن دقيق بين الرئاسة والجيش وجبهة التحرير الوطني كحزب سياسي.
ونظام الحكم الجزائري، المعروف باسم السلطة (Le pouvoir) عبارة عن شبكة غامضة من النخب العسكرية والاقتصادية والسياسية التي حكمت البلاد معاً من خلف الكواليس طوال عقود. لكنّ النظام ليس موحّداً أبداً، ففي السنوات الأخيرة برز بشكل متزايد تنازعٌ على السلطة بين أجهزة الاستخبارات والجيش ورئاسة متزايدة السطوة. وظهر ذلك جلياً عقب إقالة رئيس جهاز المخابرات محمد مدين الذي غالباً ما اعتُبر السلطة الحقيقية في البلاد. وبعد إقالة مدين، بدا أنّ الرئاسة – بما في ذلك بوتفليقة نفسه وشقيقه الأصغر سعيد ومجموعة أساسية من النخب السياسية والعسكرية والتجارية الرئيسة – قد أعادت ضبط توازن القوى داخل سلطة تنفيذية أكثر مركزية.
وتمحور منطق النظام حول تشجيع بوتفليقة على الترشّح لولاية خامسة في العام 2019 لتفادي احتمال الوقوع في فراغ في الحكم، سواء أكان هذا الاحتمال حقيقياً أم كان مُتصوّراً. بيد أنّ النظام لم يكن مستعداً للاحتجاجات الضخمة التي اندلعت. وما زالت الدولة تظنّ أنها قادرة على تهويل الشعب بشبح الحرب الأهلية وباحتمال الوقوع في وضع يشبه الوضع السوري، ظناً منها أنها إذا رسمت الوضع على أنه خيار بين الاستقرار والفوضى، سيختار الشعب الخيار الأول دائماً، ولا سيما على ضوء العقد الأسود في خلال الحرب الأهلية الجزائرية.
دروس مستخلصة
يستوحي إعلان بوتفليقة هذا الأسبوع أنه لن يترشّح لولاية جديدة من سلوك السلطة المصرية. فعبْر إلغاء الانتخابات المقبلة، يكون بوتفليقة الثمانيني قد مدّد فعلياً ولايته الرئاسية إلى أجل غير مسمّى، سامحاً بذلك للسلطة بالتحضير لعملية انتقالية مؤاتية لا تهدّد مصالحها. فتعيين بوتفليقة وزيرَ الداخلية نور الدين بدوي، وهو مؤيد عريق للنظام، رئيساً للوزراء هو التصرّف عينه الذي قام به مبارك عندما عيّن أحمد شفيق رئيساً للوزراء في خلال احتجاجات العام 2011.
وبفضل السلطة التنفيذية المركزية، فضلاً عن الدور الراسخ للجيش وجبهة التحرير الوطني، يتحلّى النظام الجزائري بقدرة هائلة على التكيّف مع هذه الأزمة السياسية وتخطّيها. بعبارة أخرى، من المحتمل جداً أن تشهد الجزائر سيناريو شبيهاً بما جرى في مصر. ستُقدَّم تنازلات وسيتم التضحية بشخصيات رئيسة من النظام. غير أنّ السؤال الأساسي هو: هل سيقبل الجزائريون بذلك؟
إنما الحضور قوّة، وإخلاء الشوارع من دون نتائج ملموسة يعني على الأرجح بروز بوتفليقةٍ جديد ومراوحة السلطة مكانها. وسرعان ما رأى الجزائريون في هذه التنازلات خدعة، فقد انتشر على موقع تويتر الوسم #ترحلوا_يعني_ترحلوا في الساعات التي تلت إعلان بوتفليقة، وتمّ التخطيط لاحتجاجات هذا الأسبوع لرفض التمديد لولاية بوتفليقة. وكانت قد تمّت الدعوة إلى إضراب عام قبل هذا الإعلان، فضلاً عن عدّة حملات من العصيان المدني. وستكون الأسابيع المقبلة حاسمة لإظهار ما إذا كان الجزائريون قادرين على السير قدماً أم سينتهي بهم المطاف مع ثورة مُحبطة كما جرى في مصر.
Commentary
Op-edدروس للجزائر من الثورة المصرية في العام 2011
الخميس، 14 مارس 2019