حوّلت الخسارة التي مُنيت بها حكومة إقليم كردستان، بفقدانها محافظة كركوك ومجموعة من الأراضي الأخرى في شمال العراق لصالح بغداد هذا الشهر، فرح الإقليم وبهجته إلى يأس وعدم يقين. إن مسألة الحكم الذاتي الكردي ليست موضع شك، لكن موازين القوى تحركت لمصلحة بغداد، كذلك تعرّضت العلاقات الأمريكية مع حكومة إقليم كردستان إلى ضربة موجعة نتيجة موافقة واشنطن الضمنية على مهاجمة كركوك، التي كان الهدف منها تعزيز موقف رئيس الوزراء حيدر العبادي وتهميش دور الفصائل الحليفة لإيران قبل انتخابات العام القادم.
بعد هدوء زوبعة الأزمة في كركوك، يجب على الولايات المتحدة الأمريكية وكردستان إعادة النظر في علاقتهما، ورأب الصدع بسرعة لمصلحة الأمريكيين والأكراد والعراقيين على حد سواء. فرغم أن الضوء الأخضر الذي أعطته واشنطن لشن الهجوم على كركوك قد أضرّ بعلاقاتها مع حكومة إقليم كردستان، إلا أن هذا الضرر لا يزال قابلاً للإصلاح. فقد قوبل قرار مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق منذ فترة طويلة، بالتنحي عن دوره، بالترحيب من قبل وزارة الخارجية الأمريكية، ما يتيح الفرصة أمام واشنطن للعمل عن كثب مع رئيس وزراء إقليم كردستان نيشيرفان بارزاني (ابن شقيق مسعود بارزاني) وقباد طالباني نائب رئيس وزراء الإقليم. لكن مع هذا، لا يزال أمام الولايات المتحدة الأمريكية طريق طويل لاستعادة مصداقيتها بالكامل بعد هذه الحادثة الكفيلة بالسيطرة على النظرة المستقبلية للسياسة الكردية لسنوات عديدة قادمة.
يجب على كردستان والولايات المتحدة الأمريكية إعادة النظر في علاقاتهما التقليدية بما يتفق وطبيعة السياسة الخارجية الأمريكية الحالية، القائمة أكثر فأكثر على المصالح والتي لا تهتم كثيراً للقيم. لم يعد بمقدور الأكراد تعليق آمالهم وطموحاتهم على الولايات المتحدة الأمريكية في هذه الفترة التي تعاني فيها أمريكا نفسها تخبّطاً حول شكل التزاماتها الخارجية وتحديدها. يجب على إقليم كردستان أن يتعلم الدرس الذي دفع الآخرون في المنطقة أثماناً باهظة لتعلمه بعد الاضطرابات التي أعقبت الثورات العربية والحرب الأهلية السورية، من دون أن تمرّ بالمخاض نفسه أو دفع أثمان إنسانية جسيمة. لن تخصص الولايات المتحدة الأمريكية استثماراتها بعد الآن لحفظ أمن المنطقة، فما بالك بالاهتمام بتشكيل نظام إقليمي يمكن أن يؤدي إلى إقامة دولة كردية وتعزيزه.
يجب على صنّاع السياسة في الولايات المتحدة الأمريكية إعادة تقييم مؤشراتهم العقيمة بشأن طموح الأكراد بتحقيق الاستقلال. ورغم أن واشنطن شددت على معارضتها للاستفتاء، إلا أن تركيزها القوي على محاربة داعش وعلى مركزية البشمركة الكردية، ناهيك عن المرافق العسكرية والاستثمارات السياسية في كردستان، جعلتها تتوصل إلى نتيجة تمنع من خلالها وقوع هجوم عسكري ضد البشمركة. على الأقل، كانت هناك افتراضات حقيقية ومعقولة بأن الولايات المتحدة سوف تتوسط للحدّ من التوتر.
كان يمكن لواشنطن أن تساعد بغداد وأربيل على اجتياز المناخ المتقلّب لمرحلة ما بعد الاستفتاء، لكنها بدلاً من ذلك تركت “الحبل على الغارب”، وهو أمر استغلته الحكومة العراقية بفاعلية، بدعم من القوى الإقليمية. قد تندم الولايات المتحدة في السنوات القادمة على هذه الخيارات وعلى الطريقة التي تعاملت بها مع الأكراد وبغداد.
عند التفكير بالمستقبل، نرى أنه لا تزال توجد علاقة من الاعتماد المتبادل بين الولايات المتحدة والأكراد، قائمة على الأمن المشترك والمصالح الجيوسياسية، ولا يزال تقارب المصالح يربطهما قبل الانتخابات البرلمانية التي ستجري في العام المقبل. أما بالنسبة لحيدر العبادي تحديداً، فلا يمكنه أن يخرج منتصراً في الانتخابات البرلمانية في العام المقبل وأن يستمر في الرئاسة من دون دعم حكومة إقليم كردستان، التي طالما كان لها دور محوري في عملية تشكيل الحكومة في بغداد منذ العام 2003، وكانت دائماً تؤدّي دور صانع الملِك. والفصائل الأخرى عديدة في بغداد، فهي إما ضعيفة جداً أو حاقدة بشدة لأن تحقق الأهداف الأمريكية.
ستؤدي خسارة الأكراد إلى ضعف سيطرة الأمريكيين على بغداد وباقي أجزاء العراق، حيث سيستمر تنازع القوى الإقليمية، كإيران مثلاً، على النفوذ، وحيث ستبقى أمريكا متورطة من خلال محاولتها منع داعش ومثيلاتها من الظهور مجدداً في السنوات القادمة. في هذه الأثناء ومن أجل إنقاذ التحالف التاريخي بين كردستان والولايات المتحدة الأمريكية يجب أن تضع واشنطن خطوطاً حمراء – وتطبّقها – بحيث تمنع بغداد من التقدم أكثر باتجاه منطقة فيشخابور الحدودية الكردية غير المتنازع عليها، التي تسعى بغداد للسيطرة عليها لتضيق الخناق على حكومة إقليم كردستان اقتصادياً. قد يؤدي هذا الأمر إلى نشوب حرب أهلية أخرى تهدم المكاسب الأمنية التي حققتها الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة وتفتح المجال أمام إيران لبسط نفوذها وسد الفجوة التي خلّفها غياب القيادة الأمريكية.
من جانبهم، يجب على أكراد العراق أن يهتموا أكثر بالداخل وأن يشاركوا بشكل جماعي في رحلة طويلة وشاقة لكنها تستحق التضحية، من أجل بناء المؤسسات والإصلاح السياسي لتعزيز الاكتفاء الذاتي، فضلاً عن وضع هياكل سياسية وأمنية لحكومة إقليم كردستان. ليست لدى القيادة الكردية خيارات كثيرة باستثناء العودة إلى نقطة البداية. يجب على القيادة أن تركز طاقتها ومواردها على بناء المؤسسات وممارسة الحوكمة الرشيدة، وإجراء المصالحة بين الأحزاب الكردية المتنافسة، بدعم تقني وسياسي ومالي من المجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية. أكبر تحدٍ يواجه الأكراد هو نشوء أزمة على السيادة الداخلية وتفاقم التوتر بين الأحزاب السياسية، مثل الحزب الديموقراطي الكردستاني التابع لبارزاني ومنافسه التاريخي حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي اشتبك معه طوال فترة التسعينيات.
ستتم المصالحة بين الحزب الديموقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، كما جرى من قبل، وهناك محكّمون داخل الحزبين المتنافسين قادرون على القيام بمداخلات مستمرة وطويلة الأمد تضمن عدم تصعيد التوتر ووصوله إلى حرب أهلية أخرى تنشب بين الأكراد. ورغم أن الحزب الديموقراطي الكردستاني تمكن من تنظيم منافسيه حول جبهة موحّدة للاستفتاء، لكن لا بد الآن أن يدرك قادة الحزب أنّ إدارة المناخ السياسي المشرذم ومراكز القوى المتنافسة بين الأحزاب الرئيسية وداخلها لم يعد أمراً قابلاً للاستمرارية ببساطة. الطريقة الوحيدة التي تستطيع من خلالها كردستان التغلب على الانقسامات الداخلية والدفع مرة أخرى باتجاه الحصول على الاستقلال في السنوات القادمة، يجب أن تكون بإطلاق وتطبيق إصلاح سياسي جدّي.
إنّ وجود كردستان أقوى يمكن أن يساعد على بناء عراق أقوى من شأنه أن يعزز مصالح المنطقة والمجتمع الدولي. كذلك يتيح تقييم العلاقة بين أربيل وبغداد وتعريفها من جديد، المجال لوضع إطار وطني مشترك يجدد العلاقة بين المواطن والدولة. يستلزم هذا الأمر وضع ترتيبات راسخة ومنصفة وعادلة ومستدامة لتقاسم السلطة داخل النظام السياسي الهش في العراق. وإلا، فإن التطلعات بإقامة دولة كردية سيستمر في تمزيق الدولة العراقية وتقسيمها في الوقت الذي تنتظرها أصلاً مجموعة كبيرة من التحديات الأخرى، بعضها وجودي ومستمر منذ أجيال.
Commentary
إعادة النظر في العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وكردستان بعد كركوك
الجمعة، 3 نوفمبر 2017