لم تفضِ الاحتجاجات الشعبية في الجزائر، وهي العملية السياسية الأكثر حيوية في العالم العربي منذ الربيع العربي، إلى إسقاط دكتاتور فحسب، بل زجّت في السجن أيضاً الشخصية الأكثر شراً في ماضي البلاد الملوّع: رئيس جهاز المخابرات السابق محمد مدين، المعروف أيضاً بجزّار العاصمة. وسوف يكشف تحقيق علني معمّق حول السنوات الخمسة والعشرين التي تبوّأ فيها منصبه الوجهَ البشع للدولة البوليسية المظلمة في الجزائر.
كان مدين رئيس جهاز المخابرات الذي يخدم في منصبه لأطول فترة في العالم عندما أقاله الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في العام 2015. وقد اشتهر بأنّه يبقى متوارياً عن الأنظار، فصُورُه قليلة ومعظمها غير واضح. وعُرف أيضاً بأنه قائد فصيل الجيش الذي يُعرف بـ “المبيدين” (The Eradicators) والذي شنّ حرباً طاحنة ضدّ الإسلام السياسي والإرهابيين الإسلاميين في البلاد، وهي حملة أدّت إلى حرب أهلية امتدّت على مدى عقد من الزمن. وقيل إنك لو رأيت وجه مدين فهذا آخر ما ستراه في حياتك، وهذه مقولة ملفّقة هدفها التهويل.
ولد مدين في 14 مايو 1939 وانضمّ إلى القوّات المسلّحة لحركة الاستقلال الجزائرية في مرحلة متأخّرة من الحرب ضدّ الاستعمار الفرنسي في العام 1960. بعد الاستقلال، انخرط في جهاز استخبارات الجيش الجديد وأُرسل إلى الاتحاد السوفياتي ليتلقّى التدريب على يد الاستخبارات السوفياتية. وفي العام 1990، أصبح مدين قائد جهاز الاستخبارات في الوقت الذي غاصت فيه الجزائر في وحول الحرب الأهلية بعد أن عطّل انقلاب عسكري عملية انتخابية سيطر عليها الإسلاميون. وغيّر مدين، المُلقّب بتوفيق، تسمية جهاز الاستخبارات ليصبح دائرة الاستعلام والأمن.
وللسنوات الخمسة والعشرين التالية، شكّل مدين السلطة خلف الكواليس في العالم المظلم لسلطة لو بوفوار (Le pouvoir) الجزائرية السيّئة السمعة التي تتألّف من الجنرالات والأوليجاركيين الذين داروا البلاد. وقد اختارته مجلة ذي إيكونوميست الرجل الأقوى في البلاد في العام 2012. وقيل إنّ لدائرة الاستعلام والأمن أكثرَ من مئة ألف مُخبر وإنّها تعتمد إرهاباً زائفاً (تخلق تهديداً إرهابياً زائفاً لتبرير القمع). وقد خاضت حرباً ناجحة بالإجمال ضدّ تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وهو التنظيم التابع لأسامة بن لادن في شمال أفريقيا.
ودعم مدين وصولَ بوتفليقة إلى الحكم لتحسين شرعية الحكم وصورته في العام 2000، لكنّ الخلاف دبّ بينهما في سبتمبر 2015 وأقيل مدين. إذ ألقي اللوم عليه لعملية إنقاذ الرهائن الفاشلة إبّان الهجوم اللافت الذي شنّه تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي على منشأة نفط جزائرية في إن أمناس في الصحراء الكبرى في العام 2013. وأعيد تنظيم دائرة الأمن والاستعلام وتمّ الحدّ من سلطتها.
ومنذ اندلاع التظاهرات الشعبية في الجزائر هذه السنة، يبدو أنّ مدين خطّط للعودة. واتّهمه قائد الجيش الجزائري الفريق أحمد قايد صلاح بالتآمر على الجزائر، لكن ما زالت التفاصيل غير واضحة المعالم. ثمّ ألقي القبض على مدين الأسبوع الماضي، مع مدير مخابرات سابق آخر وشقيق بوتفليقة الأصغر في خطوة مفاجئة قلبت حظوظ السلطة الجزائرية.
ما زال الغموض يلفّ مصير مدين والجزائر على حدّ سواء. والنتيجة الأنسب هي انتقال سلمي نحو حكومة مُنتخَبة ديمقراطياً واستتباب حكم القانون في أكبر دولة في أفريقيا. في تلك الحالة، سيُحمّل المُبيد مدين مسؤولية أعماله علناً. لكنّ هذه النتيجة ليست مؤكّدة على الإطلاق. فقوى قديرة في الجزائر والعالم العربي عازمة على المحافظة على سيطرة الدول البوليسية الشريرة في المنطقة. وقد يصبح مدين كبش محرقة لجرائم ارتكبها كثيرون آخرون. لكن مهما كانت النتيجة، إنما هو سقوطٌ مدهش لمدين.
Commentary
الكشف عن الجانب المظلم للجزائر:
سقوط جزّار العاصمة
الأربعاء، 8 مايو 2019