توافد التونسيون إلى مراكز الاقتراع يوم الأحد للتصويت في ثاني انتخابات رئاسية حرّة وعادلة لهم. وكانت الانتخابات تنافسية للغاية، فلم يحظَ أيّ مرشّح من المرشحّين الكُثر البالغ عددهم 26 شخصاً بأكثر من 20 في المئة من الأصوات. وستُعلَن النتائج الرسمية يوم الثلاثاء، لكنّ استطلاعات رأي المقترعين التي أجرتها سيغما كونساي وأمرود كونسلتينغ تشير إلى فوزٍ مفاجئ لدخيلَين سياسيَّين هما قيس سعيّد ونبيل القروي. وعلى الأرجح أن يتنافس هذان الشخصان في جولة انتخابات ثانية لم يُحدَّد موعدها بعد.
وشكّل الفوز (غير الرسمي) لسعيّد والقروي، وكلاهما جديد نوعاً ما على الساحة السياسية، صفعة للتحالف الحاكم، المُمثَّل برئيس الوزراء يوسف الشاهد ووزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي ورئيس مجلس النوّاب عبد الفتّاح مورو. بيد أنّ الهزيمة السياسية للمؤسّسة السياسية كانت تلوح في الأفق منذ زمن.
تصويت ضدّ النظام
كما قُلت في فبراير، كانت الظروف في تونس مؤاتية لبروز دخلاء شعبويّين. فبعد مرور ثماني سنوات على الربيع العربي، فشلت حكومات تونس المتعاقبة على تحقيق طلب الثورة الأساسي: الفرص الاقتصادية. فمن جميع النواحي تقريباً، غدا الوضع الاقتصادي أسوأ من الوضع الذي أدّى إلى ثورة العام 2011. فالبطالة التي بلغت 12-13 في المئة تقريباً قبل الثورة وصلت إلى 18 في المئة في العام 2011 وما زالت نسبتها 15 في المئة اليوم. كذلك، تضاعف التضخّم إلى 7 في المئة بعدما كان 3-4 في المئة قبل الثورة. أما معدّل النمو الاقتصادي الذي حقّق نسبة 5 في المئة تقريباً قبل الثورة فبالكاد يصل إلى 2 في المئة اليوم.
وقد ساهمت هذه الظروف الاقتصادية الصعبة في زيادة الإحباط ليس حيال الأحزاب الحاكمة فحسب بل حيال النظام السياسي برمّته أيضاً. فقد وضع دستور العام 2014 نظاماً شبه رئاسي تتوزّع بموجبه السلطة بين الرئيس ورئيس الحكومة، فكان نظاماً منقسماً أفضى إلى خمس سنوات من الحوكمة البطيئة والحلول المرتكزة على المساومة. في غضون ذلك، ازدادت التصوّرات بالفساد وتقهقَر الدعم للديمقراطية.
نوعان من الشعبوية
تمكّن قيس سعيّد ونبيل القروي كلاهما من الاستفادة من هذا الإحباط، لكن بطريقتَين مختلفتين شديد الاختلاف. وبحلول أبريل 2019، كانا كلاهما في الطليعة في الاستطلاعات قبل الانتخابات.
حاول قيس سعيّد، البالغ من العمر 61 سنة، استعطاف الشباب عبر إطلاق وعد بنظام جديد، نظام تكون فيه السلطة ذات طابع مركزي أقلّ، “لكي تصل إرادة اشعب إلى السلطة المركزية وتُنهي الفساد”. ويقترح سعيّد، وهو أستاذ قانون دستوري في جامعة تونس، إجراء إصلاحات دستورية واسعة، من ضمنها منح القدرة للتونسيين على عزل نوّابهم. وادّعى أنّ “عصر الديمقراطية البرلمانية قد ولّى”، واقترح إلغاء الانتخابات البرلمانية لصالح مقاربة “من أسفل إلى أعلى” يتمّ فيها اختيار النواب من المجالس المحلّية المنتَخبة.
من خلال هذه الإصلاحيات البنيوية، يأمل سعيّد أن يعيد السلطة إلى الشعب. ويعوّل سعيّد على الإحباط الشعبي من أنّ ثورة العام 2010-2011 “اختطفتها” الأحزاب السياسية الفاسدة. في هذا المنحى، يُعتبر سعيّد “شعبوياً” لأنه يواجه النخبة السياسية لصالح الشعب. ولا شكّ في أنّه يتحلّى بالمصداقية اللازمة لإطلاق ادّعاء كهذا، فهو لم يتبوّأ منصباً سياسياً من قبل ولا ينتمي إلى أيّ حزب سياسي ولم يدلِ بصوته يوماً قبل يوم الأحد حتّى. وهو بالتالي دخيل سياسي بامتياز، مما يُكسبه النزاهة اللازمة لإطلاق تحدّ شعبوي.
وبعيداً عن أجندة سعيّد، تكمن جاذبية هذا الرجل في شخصه. فقد لفت سعيّد المفكّر نظر الشعب في خلال وضع دستور العام 2014 بعدما ظهر مراراً على شاشة التلفزيون لتفسير جدالات قانونية معقدة بلغة فصحى رتيبة أشبه بالرجل الآلي، مما أكسبه كنية “روبوكوب” (الشرطي الروبوط). وتوحي شخصيّته التزهّدية (يتنقّل باستخدام النقل العام وتعهّد بالاستمرار بالعيش في منزله عوضاً عن الانتقال إلى القصر الرئاسي) بصورة رجل نزيه لن تفسده السلطة.
في المقابل، يلجأ نبيل القروي، الذي حلّ ثانياً في التصويت يوم الأحد، إلى شعبوية ذات صلة لكن من نوع مختلف. فالقروي، البالغ من العمر 55 سنة، هو رجل أعمال ناجح جداً في مجال الإعلام أسّس قناة نسمة مع سيلفيو بيرلوسكوني. ويصوّر القروي نفسه، على الرغم من ثروته، على أنّه مدافع عن التونسيين الفقراء و”المَنسيّين”، وهي سمعة اكتسبها من خلال استضافة برنامج خيري يدعى خليل تونس منذ العام 2017 (توقّف عن استضافته في يونيو تماشياً مع قانون الانتخابات). ووعد القروي بـ”ثورة في صندوق الاقتراع” لصالح “تونس الأخرى”، أي الملايين الذين أهملتهم المؤسّسة. وفي تباينٍ مع دولة اللامركزية التي ينادي بها سعيّد، يعد القروي ضمنياً بدولة قوية يمكنها استعادة النمو الاقتصادي وتأمين البضائع والخدمات للشعب.
ومع أنّ القروي وجه جديد في الترشّح للرئاسة، هو ليس بمبتدئ في السياسية. فقد انتهجت محطّته التلفزيونية، قناة نسمة، توجهاً سياسياً جداً في انتقاد حزب النهضة الإسلامي في خلال فترة حكومة الترويكا بين العامين 2011 و2013. بعد ذلك، أسّس القروي مع الرئيس الراحل باجي قايد السبسي حزب نداء تونس، ويُزعم أنّه استغلّ محطته التلفزيونية لمؤازرة ترشّح السبسي في انتخابات العام 2014. بالتالي، مع أنّه يتحلّى بالخبرة السياسية، ما زال قادراً على الظهور بصورة الدخيل السياسي الذي لم يتبوّأ منصباً سياسياً من قبل.
ومع بدء ازدياد الأصوات المؤيّدة للقروي في استطلاعات الرأي، بدا وكأنّ أحزاب المؤسّسة تتّحد لإضعاف ترشّحه. ففي يونيو، أقرّ البرلمان تعديلات في القانون الانتخابي كانت لتمنع القروي من الترشّح، لكنّ الرئيس الراحل السبسي لم يوقّعها. ومنذ تلك الآونة، تعرّض القروي للاعتقال والسجن بتهمتَي التهرّب الضريبي وتبييض الأموال، مما حَرمه من إجراء حملته أو الظهور في المناظرات الرئاسية المتلفزة الأولى في البلاد. ومع أنّ التهمتين بحقّه قد تكونان صحيحتَين، إذ أصدرتهما في العام 2016 مجموعة “أنا يقظ” التابعة لمنظمة الشفافية الدولية، سيّس توقيتُ الاعتقال التهمتَين وسمح لحملة القروي بالاستفادة منهما. فقد وصفت الحملة القروي كأوّل سجين سياسي في تونس منذ اندلاع الثورة وشبّهته بنلسون مانديلا واستغلّت عملية سجنه لكسب التعاطف وتعزيز فكرة أنّ القروي دخيلٌ جعلت منه المؤسّسة ضحية.
باختصار، يمثّل سعيّد والقروي شكلَين هما على طرفَي نقيض من أشكال الشعبوية. فتَلقى طبيعةُ سعيّد الفكرية وأجندته الهادفة إلى “منح السلطة للشعب” تعاطفَ الحشود الشابّة المتعلّمة أكثر، ولا سيما الثورويين المخذولين. وبالفعل، تشير استطلاعات رأي المقترعين التي أجرتها سيغما كونساي إلى أنّه حقّق الأداء الأفضل في صفوف المقترعين الشباب من حملة الشهادات الجامعية الذي يصوّتون للمرّة الأولى. في المقابل، يحقّق القروي أداء جيداً في صفوف المصوّتين السابقين لحزب نداء تونس والمصوّتين الفقراء الريفيين، ولا سيّما أولئك الذين استفادوا من البرنامج الخيري. وتشير استطلاعات رأي المقترعين أنّ القروي فاز بقرابة 41 في المئة من أصوات المقترعين الذين لم يحظَوا بتعليم رسمي و30 في المئة من أصوات الذين حظَوا بتعليم ابتدائي فحسب.
المؤسّسة: خسارة معركة وليس الحرب
فيما شكّلت نتائج الانتخابات انتكاسة كبيرة للمؤسسة، هي تعطيها دروساً مهمّة في المستقبل. فقد كانت المؤسسة شديدة الانقسام بحلول فترة الانتخابات، مما أوجد فرصة للدخلاء بكسب كلا المركزين في الجولة الثانية من التصويت.
ما لا يقلّ عن ستّة مرشّحين أجروا حملات لما يمكننا تسميته “مؤسسة علمانية”، أي المجموعة التقديمة الحداثوية المرتبطة أساساً بحزب نداء تونس التابع للرئيس الراحل السبسي. وشمل هؤلاء المرشّحون رئيس الوزراء يوسف الشاهد ووزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي والمديرة السابقة للديوان الرئاسي سلمى اللومي الرقيق ورئيس الوزراء السابق مهدي جمعة. وشكّل دعم محسن مرزوق وسليم الرياحي للزبيدي بداية، لكنّها لم تكن كافية أبداً لتوحيد هذا الصفّ. فكما لفت الشاهد بحدّ ذاته، على هذه الأحزاب أن توحّد قواها إن أرادت أن تبلي بلاء حسناً في الانتخابات النيابية في 6 أكتوبر.
ولعلّ المفاجأة الكبرى في هذه الانتخابات كانت الأداء الرديء لحزب النهضة، الحزب الإسلامي الذي أدّى دوراً في كلّ حكومة مُنتخَبة منذ ثورة العام 2011. وغالباً ما توقّع المراقبون أنّ ماكينة حزب النهضة الانتخابية يمكنها بشكل اعتيادي كسب 20-30 في المئة من الناخبين، بيد أنّ مرشح حزب النهضة عبد الفتاح مورو لم يفز سوى بنسبة 11 في المئة من الأصوات يوم الأحد. وإذا تكرّر أداء الحزب الضعيف في الانتخابات النيابية وإذا ارتأت القيادة أن تلقي اللوم على مساوماتها الكثيرة إزاء دور الدين وأهداف الثورة، سيكون لهذه الهزيمة تداعيات ضخمة على الطريقة التي يُموضِع فيها الحزب نفسه في المستقبل.
في المستقبل
ستقام الجولة الثانية من التصويت بين قيس سعيّد ونبيل القروي في 29 سبتمبر أو 6 أكتوبر أو 13 أكتوبر، تبعاً لعدد الطعون الصادرة عن الجولة الأولى. لكنّ المستقبل ما زال غامض الملامح. فما زال القروي في السجن، وإذا تمّت إدانته قبل الجولة الثانية (أمر غير مرجّح لكن ممكن)، سيحلّ مكانه المرشّح في المرتبة الثالث، أي عبد الفتاح مورو من حزب النهضة. وإن لم تتمّ الإدانة، يمكن أن ينال القروي حصانة في حال فوزه بالانتخابات الرئاسية.
وفي حال رست المنافسة على سعيّد والقروي في الجولة الثانية، ستشكّل الجهة التي تدعمها الأحزاب الخاسرة مؤشّراً مهمّاً للأداء الذي سيحقّقه كلّ مرشّح. فقد يستعطف سعيّد، المحافظ الاجتماعي والمؤيّد للثورة نسبياً، مقترعي حزب النهضة، فيما قد يستعطف القروي، المناهض للإسلامية والعضو السابق في حزب نداء تونس، المؤسسة العلمانية. فكلا سعيّد والقروي لم يكسب أكثر من 20 في المئة من الأصوات في الجولة الأولى، مما يجعل من مسألة كسب دعم الأحزاب والمرشّحين الآخرين أمراً غاية في الأهمّية للوصول إلى نسبة 50 في المئة.
على الأقلّ بموجب الدستور الحالي، الانتخابات البرلمانية في 6 أكتوبر أهمّ بكثير من الانتخابات الرئاسية، لأنّ رئيس الوزراء، وهو الجهة الأقوى بين السلطتَين التنفيذيتين، يستقي سلطته من البرلمان. وقد سبق أن بدأت الحملة، لكنّ اللافت أنّ قيس سعيّد سيكون غائباً. فبدون حزب ينتمي إليه لن يحظى بتمثيل مباشر في البرلمان. أما قلب تونس، حزب القروي الذي تمّ تأسيسه حديثاً، فكان يتصدّر الاستطلاعات التي تسبق الانتخابات النيابية. ومع عمليّتَين انتخابيتين إضافيتين في الأسابيع القادمة، قد يكون زلزال تونس السياسي قد بدأ لتوّه.
Commentary
الدخلاء السياسيون يكسحون الانتخابات الرئاسيّة التونسيّة
الإثنين، 16 أيلول 2019