عندما فاز باراك أوباما بمنصب الرئاسة عام ٢٠٠٨، كانت التوقعات أن ذلك من شأنه أن يؤسس لحقبة سياسية جديدة. ففي الولايات المتحدة نفسها، كان أمل العديدين أن ينتهي التجاذب السياسي بين الحزبين، وأن تصل المناحرات التي عرفت باسم حروب الثقافة إلى خاتمتها. أما في الخارج، فالملايين تطلعوا قدماً لتوجه جديد من الولايات المتحدة في التواصل والتشاور مع بقية العالم. أما اليوم، وقد لاحت الانتخابات النصفية لعام ٢٠١٠ في الأفق، وأوشك معها أن ينقضي نصف ولاية الرئيس أوباما، فمن المناسب طرح السؤال، هل هذه التوقعات في طريقها إلى التنفيذ؟ وإن لم تكن كذلك، لمَ لا؟
وفي شأن الوحدة الوطنية، فإن انتخاب أول رئيس أفريقي أميركي أدى في بادئ الأمر إلى تراجع طفيف إنما ملحوظ في السجال الحزبي المشحون بالبغضاء والانقسام. إلا أن تلك المرحلة الوجيزة تكاد أن تكون قذ طويت صفحتها اليوم، فيما البلاد لا تزال تعاني من صدمة الأزمة المالية التي ابتدأت عام ٢٠٠٨، والتي كانت سبقتها أعوام عديدة من التراجع في دخل المواطنين العاديين مقابل المزيد من المكافآت للنخب من الوفرة الاقتصادية العالمية. وفي العام ٢٠٠٥، كان الفشل على مستوى الحكومة الاتحادية كما على المستوى المحلي ومستوى الولاية في التصدي بشكل مناسب لكارثة إعصار كاترينا قد أدى إلى تعزيز الشعور بعدم الثقة لدى المواطنين إزاء حكومتهم. ويبدو اليوم أن التسرب النفطي في خليج المكسيك من شأنه كذلك أن يلطخ الحكومة الحالية. وفي الوقت نفسه فإن إصرار أوباما الناجح في التوصل إلى إصلاح النظام الصحي قد ضاعف من التوتر بين الحزبين وتسبب بإطلاق حركة «حفلة الشاي» (التي تستعيد في اسمها فصلاً من التاريخ التأسيسي للولايات المتحدة حين أقدم المستوطنون في العالم الجديد على إتلاف شحنة من الشاي احتجاجاً على مسلك الحكومة البريطانية في فرض ضرائب مرتفعة). فالساحة السياسية في الولايات المتحدة تبقى اليوم مليئة بالتجاذب، من الاقتصادي إلى الاجتماعي والثقافي.
أما في الشأن الخارجي، فإن باراك حسين أوباما هو أول رئيس للولايات المتحدة ذو معرفة أو ذو علاقة مباشرة بالإسلام. ومن أولى الخطوات التي أقدم عليها كرئيس للبلاد التوجه إلى العالم الإسلامي مباشرة من خلال مقابلة مع قناة العربية، ثم سافر إلى كل من استانبول والقاهرة، وألقى في كل من تركيا ومصر كلمة مقنعة موجهة ليس فقط للقادة والمواطنين فيهما، بل لعموم المسلمين في أرجاء العالم. ولكن عندما تسلّم الرئيس أوباما جائزة نوبل للسلام في أوسلو، فإنه قد أسهب بشرح تصوره للالتزام الأميركي المتجدد بالحرب على الإرهابيين الإسلاميين في أفغانستان وغيرها. واليوم مجدداً، نرى المسلمين في أنحاء العالم يعربون عن امتعاضهم أو معارضتهم الصريحة لسياسة أميركا الخارجية.
ومن الجدير بالذكر أن أوباما قد أقرّ بعلاقته بالإسلام بشكل أكثر حرية بعد انتخابه رئيساً منه قبل الانتخاب، بل إنه طوال الحملة الانتخابية قد بذل قصارى جهده للتمايز عن دين أبيه. فهو، على سبيل المثال، قد زار خلالها العديد من الكنائس المسيحية واليهودية، ولكنه لم يزر مسجداً قط. والوقائع السياسية التي دفعت المرشح أوباما في هذا الاتجاه لم تتغير بعد الانتخاب ومن شأنها أن تستمر بالتأثير على خياراته وخيارات غيره من المسؤولين المنتَخبين. فأوباما منذ فوزه وإلى اليوم لم يقم بزيارة أي مسجد بعد! ورغم ذلك قإن الأميركيين المسلمين قد اقترعوا لصالحه بغالبيتهم العظمى عام ٢٠٠٨، ولا يزالون إلى اليوم يؤيدونه، وإن خف حماس هذا التأييد.
ولكن الهدف من هذا المقال ليس إلقاء اللوم على الرئيس أوباما لتخلفه عن تحقيق آمال مؤيديه والمعجبين به. ولا لإلقاء اللوم على سلفه للمصاعب التي تواجهها البلاد. فالرؤساء الأميركيون ليسوا قادة تنفيذيين ذوي قدرة غير محدودة تسمح لهم بفرض التغيير العميق على الجمهور الممانع أو المقاوم. بل على العكس، فإن عليهم أن يجهدوا لتحقيق أهدافهم ضمن قيود النظام السياسي والذي جرى تصميمه للحد من السلطة التنفيذية. فيجدر بالمراقبين إذن ولا سيما منهم من هو خارج الولايات المتحدة، أن يدركوا أن هذه القيود قد ترتفع أو تنخفض تجاوباً مع الأحداث أو مع الكفاءات القيادية، ولكنها لا تختفي أبداً.
وهذا زمن عصيب بالنسبة للأميركيين، إذ علينا أن نواجه التحديات الداخلية الاقتصادية والمالية، فيما نحن نراجع موقعنا في العالم. إلا أنه لا بد لنا أن نقوم بهذه المراجعة. وفيما نحن نقدم عليها، فإن أحد أصعب التحديات التي لا بد من التصدي لها هو إدراك الأبعاد الثقافية لتلاقينا مع العالم الإسلامي. فنحن اليوم، فيما تستمر المناوشات في وسطنا حول الإجهاض والزواج المثلي، لا ندرك صحيح الإدراك مدى تأثير قيمنا الثقافية على علاقتنا مع المسلمين في أرجاء العالم، وكذلك مع المسلمين في رحابنا، والعديد من هؤلاء من مواطنينا. وهذا عائد وإن جزئياً إلى أن النخب الفكرية والمسؤولين عن صياغة السياسة الخارجية غالباً ما يهملون اعتبار العوامل الثقافية أو يقللون من أهميتها. وهذا الإهمال يدعو للأسف، ذلك أنه في حين يجد المسلمين بعض أوجه الثقافة الأميركية مأزومة أو منفرة، فإنهم ينظرون إلى غيرها من الأوجه بالرضا بل بالإعجاب. فتحفظنا أو عدم قدرتنا على التطرق إلى هذه الطواهر الثقافية يجعل من الولايات المتحدة أكثر عجزاً عن مخاطبة العالم الإسلامي. فيهدف هذا المقال هو المباشرة بتصحيح هذا الاختلال بالتوازن، عبر استكشاف بعض الاختلافات الثقافية، وكذلك أوجه التشابه الثقافية، بين المسلمين وغير المسلمين.
الشغف بالاستملاك المادي: الوجه الأول للعملة
من الطبيعي أن تستحوز الأزمة المالية والاقتصادية على اهتمامنا المباشر. غير أنه من الواجب أن يكون بديهياً أننا لا نواجه حالة نظام اقتصادي وحسب، بل أيضاً حالة قيم ومعتقدات هي الأساس التي يقوم هذا النظام عليه، وهي تشكل نمط حياة.
والعديد من الأميركيين، ومعهم الأصدقاء والخصوم في الخارج، كثيراً ما يعيدون مصابنا الحالي إلى شغفنا بالاستملاك المادي. وخلف هذا التشخيص تقبع القناعة بأن السبب الحقيقي لمسعى الولايات المتحدة إلى الهمينة على العالم، مهما كان منكفأً في المرحلة الحالية، هو هذا التوق المتواصل لجمهورها بالحصول على الممتلكات وإشباع الرغبات. ولكن هل المسألة كما يتكرر الطرح مجرد مسألة طمع وجشع؟
لا بد أولاً من الإقرار بأن الميل لدى الأميركيين إلى الاستهلاكية المفرطة والاستعداد التلقائي إلى الانغماس بالديون لإرضاء هذا الميل يجعل من الولايات المتحدة حالة فريدة بالمقارنة مع معظم سائر الديمقراطيات المتقدمة. غير أنه إذا سعينا إلى تبين أصول الأزمة الحالية، لأدركنا أنها تعود جزئياً إلى جهود محمودة لتمكين ذوي الدخل المحدود من الأفارقة الأميركيين والمهاجرين من دول أميركا اللاتينية من تحقيق آمالهم بامتلاك مساكنهم. فهدف رفع معدل ملكية المسكن لدى الأقليات كان عاملاً هاماً في الترتيبات والسياسات التي أوصلتنا إلى هذه الحالة المتردية اليوم. أي وبعبارة أخرى، فإن طمع المستثمرين تم إرضاؤه جزئياً من خلال الجهود لتشجيع ما اعتبره الجمهوريون والديمقراطيون على حد سواء هدفاً اجتماعياً محموداً، بل عدالة اجتماعية. والعديدون يفضلون أن يتناسوا ذلك اليوم، غير أن الذين نبهوا إلى خطورة الاعتماد الزائد على القروض التي لا تستوفي شروط الحرص المعتادة، في عقد التسعينات كما في العقد الأول من هذا القرن، وهي القروض التي جرى تسويقها للمهمشين اقتصادياً، غالباً ما ووجهوا باتهامات لامبالاة إزاء أولئك الذين يسعون ألى تحقيق حلمهم الأميركي، وفي بعض الحالات، فإن هؤلاء المشككين قد اتهموا بالعنصرية.
والوضوح الأخلاقي كما الوضوح التحليلي مطلوب هنا. فاليوم، وبعد انهيار النظام المالي القائم على هذه الممارسات والمؤسسات، فإن المتضرر الأول هم نفس المهمشين اقتصادياً. ومن السذاجة طبعاً إنكار أن طموحات هؤلاء كانت أحياناً مشوبة بسوء التقدير والإفراط. فالدوافع التي تحرك الأفراد ليس من السهل تفنيدها والحكم عليها. إذ ما هو بنظر البعض طموح وإقدام قد يكون برأي البعض الآخر جشع وطمع. إلا أن الإشارة إلى مساهمة طموحات المهاجرين والأقليات في المأزق لا يجوز على الإطلاق أن يفهم أن تحميل للمسؤولية لمن خسر منزله. إذ لا شك أن المسؤولية الرئيسية للوضع الحالي تقع على المستثمرين الذين استغلوا هذه الطموحات، وعلى الدوائر الحكومية التي بتخلفها عن الرقابة أتاحت لهم المخاطرة بهذه القروض.
والنقطة هنا دقيقة وهامة. فمصابنا الحالي يكشف أن محرك انفتاح المجتمع الأميركي وحركيته هو رغبة المواطن الأميركي بالتقدم المادي. فالفرص المتاحة للأثرياء بأن يزدادوا ثراءاً هي التي تشجع غيرهم على التقدم اقتصادياً، وتسمح لهم ربما بأن يصبحوا بدورهم من الأثرياء. فإلى حد كبير، يعتمد المفهوم الأميركي لتكافؤ الفرص والمساواة الاجتماعية على الشغف بالاستملاك المادي بل على الطمع. وليست هذه فكرة جديدة، بل هي كانت الشغل الشاغل للفلسفة الأخلاقية في القرن الثامن عشر.غير أنه كالمعتاد، فإن الأفكار الفلسفية العميقة غالباً ما تتعرض للإهمال حين تكون إمكانية الاستفادة منها عالية.
والحقيقة الصارخة هي أنه إذا كان لا بد من المحافظة على الحلم الأميركي، فإن ذلك لن يكون إلا من خلال النمو الاقتصادي المتواصل. وإذا كان الهدف تعزيز هذا النمو، فلا بد من الاستمرار بالرضا بهذا الطمع. واليوم، نحن نتعلم مجدداً بأنه ثمة طمع مقيّد وطمع مطلق، كما أن الأسواق قد تخضع للتنظيم أو قد تكون منفلتة. ونحن في كلتا الحالتين مقبلون على المزيد من التقييد والتنظيم. إلا أن شغف الاستملاك الذي يقوم عليه اقتصادنا المبني على حرية الأسواق لن يشهد التبديل.
وهذه الرؤية قد لا يوافق عليها فوراً بعض الأميركيين. ذلك أنه في أوساط المثقفين والميسورين، جرت العادة على رفض المادية واعتبار أن مستويات الاستهلاك المرتفعة لدينا هي نتيجة الدعاية والإعلان. والواقع أنه في حين لا يمكن إنكار تأثير الإعلان على فئات معينة من الجمهور، ولا سيما الشباب، فإن ما يطمح معظم الأميركيين إلى اقتنائه من حاجات والحصول عليه من خدمات يعكس ضرورات الحياة اليومية في هذا المجتمع.
وبعبارة أخرى، فإن الأميركيين يمتلكون سيارتين أو ثلاثة سيارات للأسرة الواحدة ليس بالضرورة بدافع الخيلاء، رغم أن مصنعي السيارات يسعون بالطبع إلى التأثير على المستهلك بهذا الاتجاه، إنما هو يملكون هذه السيارات لإن المدن والضواحي في الولايات المتحدة قد بنيت ليكون التنقل فيها عبر الوسائل الخاصة. فالبدائل البديهية في المجتمعات الميسورة الأخرى، مثل القطارات وغيرها من وسائل النقل العام، هي أقل فائدة في الولايات المتحدة. وبالتأكيد، هذا الواقع يعكس مصالح مصنعي السيارات وقدرتهم على التأثير على صانعي القرار، إلا أن جهودهم هذه ما كانت لتفلح لولا أنها متطابقة إلى حد كبير مع التوقعات المتأصلة حول حق الفرد بالخيار المطلق وبالقدرة على التحرك بين مكان وآخر.
لا شك إذن أنه لا يمكن التخلص من العادات الاستهلاكية في الولايات المتحدة عبر المواعظ. والرئيس جيمي كارتر اكتشف هذه الحقيقة التي أحبطته عندما ألقى خطبته الشهيرة والتي دعا فيها الأميركيين إلى تبديل عاداتهم الاستهلاكية، فما جنى منها إلا المزيد من التراجع في وزنه السياسي. وهذا لا يعني أن الأميركيين لن يقدموا أبداً على إعادة النظر بعاداتهم الاستهلاكية، ولكنه يشير إلى أنه إذا كان هذا هو الهدف فعلاً فلا بد من مواجهة الواقع أن الاستهلاك المفرط والخيارات القصوى من الأمور المتجذرة في نمط حياتنا (وعليه فإن نقاد المجتمع الأميركي في الداخل والخارج والذين يرون أن التغيير الجذري هو المطلوب هم على صواب). وبعبارة أخرى، فالاستهلاكية في الولايات المتحدة ليست معصومة عن التغيير، ولكن هذا التغيير لن يتحقق سريعاً أو بسهولة، ذلك أن نمط الحياة في الولايات المتحدة، مهما كانت عيوبه ونواقصه، ما زال يقدم فرصاً عظيمة للأفراد وأسرهم من أنحاء العالم.
وهذه الفكرة المبدئية قد غابت عن الأذهان خلال الاستهجان إزاء الغزو والاحتلال الأميركيين للعراق. فنقّاد الولايات المتحدة اتهموها بأنها غزت دولة ذات سيادة من أجل النفط فقط. ولكن ذلك كان خاطئاً من وجهين هامين. أولاً إن الولايات المتحدة لم تسقط صدام حسين فقط من أجل الوصول إلى النفط، فالحملة العسكرية التي أقدم عليها، مهما كانت رديئة الإعداد والتنفيذ، لم تكن تهدف حصراً إلى تحقيق نتائج مادية واقتصادية. ولا شك أن ضمان تدفق النفط أو السيطرة عليه كان أحد الاعتبارات، ولكنه لم يكن الاعتبار الوحيد أو حتى الأول. فأمن إسرائيل كان أيضاً من هذه الاعتبارات، بل ربما جاوز هذا الاعتبار سابقه. فالواقع أن مصالح الولايات المتحدة في مجال النفط والطاقة كانت ولا تزال على تعارض مع الدور الأميركي الضامن لأمن إسرائيل.
ثانياً، وهو بيت القصيد، النفط ليس مجرد سلعة كمالية يمكن للأميركيين التخلي عنها أو ترف ينبغي عليهم أن يتجاوزوه. بل النفط ليس بضاعة اعتيادية لا تستحق الحزم السياسي أو حتى الحسم العسكري. فمهما كان اعتماد الولايات المتحدة للنفط من الخارج تهوراً على المدى البعيد، فإن تعطيله المفاجئ سوف يتمخض عن خسارات اقتصادية واجتماعية، وهذه الخسارات دون شك سوف يتحمل وطأتها بقدر كبير أولئك الذين هم بحاجة إلى تقدم اقتصادي. فنحن إذن نعود مجدداً إلى مقولة أن شغفنا المادي مترابط بشدة مع آمال ملايين الأميركيين، بمن فيهم المهاجرين الوافدين من شتى أرجاء العالم والذين يربطون الولايات المتحدة بهذا العالم، والأعداد المتزايدة من هؤلاء من المسلمين.
خيارات نمط الحياة: الوجه الآخر للعملة
ما سلف ليس القصة برمتها. فنمط الحياة الأميركي ليس قائماً حصراً على الشغف بالاستملاك المادي. فنحن إذا صدق أننا طمّاعون، فإن طمعنا ليس مقتصراً على الأشياء المادية. بل نحن شعب دائم الحركة توّاق إلى الانفتاح والتجارب الجديدة. ونحن طمّاعون بما اصطلح على تسميته بخيارات نمط الحياة. وهذا الجانب من شخصيتنا المشتركة يظهر جلياً في مدننا وضواحيها المترامية الأطراف، وبالنسبة المرتفعة من التنقل السكني لدينا، إذ ننتقل من مكان إلى آخر أكثر من الأوروپيين مثلاً، وبالمستوى العالي من استعمالنا للمخدرات. وخلافاً لسمعتنا الشائعة أننا متحفظون جنسياً، فإننا قد تخلينا عن المحاظير في هذا الشأن. والشباب لدينا يبتدئ بنشاطه الجنسي في سن مبكر كما الأوروپيين، إنما مع عدد أكبر من الشركاء. والأميركيون هم دون شك من أكبر المنتجين والمستهلكين للمواد الإباحية.
ولاستيعاب مدى عمق التمسك الأميركي بالخيارات الشخصية والاختيار المطلق، يمكن النظر إلى كيفية تفاعله في إطار خارج النطاق الاقتصادي، في مجال الأسرة تحديداً. فكما أشار الأستاذ أندرو شرلن في كتابه « حلقة الزواج » فإنه للولايات المتحدة أعلى مستويات الزواج في العالم الغربي، ولكنه لها أيضاً أعلى مستويات الطلاق. وخارج إطار الزوجية، فإن المتساكنين ينفصلون عن بعضهم البعض هنا بمعدلات تفوق ما يقابلها في المجتمعات الغربية الأخرى، ثم يدخلون بعلاقات جديدة. وكما يلخص شرلن المعطيات : «أن يعيش المرء شراكات عاطفية وجنسية متعددة هو أكثر شيوعاً في الولايات المتحدة ليس لأن الأفراد يتخلون عن شركائهم بشكل أسرع، ولكنهم لأنهم يقيمون العلاقات بشكل أسرع، ويدخلون بعلاقات جديدة بعد الانفصال بشكل أسرع ».
والأثر الأعظم لهذه الانقطاعات في الحياة الشخصية هو طبعاً من نصيب الأطفال، إذ يواجه هؤلاء صعوبات ملحوظة بالمقارنة مع رفاقهم من أبناء الأسر الثابتة ذات الوالدين أو حتى ذات الوالد الواحد. وقد أشار العالم الاجتماعي في جامعة هارڤارد كريستوفر جنكس إلى ذلك في خلاصته حول القيم الاجتماعية في الولايات المتحدة بقوله « منحى إطلاق اليد الذي تعتمده الولايات المتحدة يؤدي إلى انتاجية فريدة في الجانب الاقتصادي وإلى درجة عالية من السلوك القصير النظر والعدائي والمفسد في الجانب الاجتماعي ».
ولا يأتي جنكس على ذكر موضوع الإجهاض، ولكن هذا الموضوع مفيد للمزيد من التوضيح. فالحالة الأميركية اليوم، كما جرى تعريفها في المحاكم الاتحادية، هي ربما الأكثر تحررية، والبعض قد يقول الأكثر تطرفاً، في العالم، إذ تمنح المرأة حق خيار الإجهاض طوال فترة الحمل بما في ذلك في الفصل الثالث منه. وهذا الحق في الفصل الثالث نادراً ما يمارس، ولكن المواجهة بشأنه تتكرر. والولايات المتحدة تشهد على أي حال تشهد أعلى معدلات الإجهاض في العالم.
وقد أصّلت المحكمة العليا للولايات المتحدة سياسة الإجهاض في إطار حق الفرد المبدئي بالخصوصية. وهذا يتعارض مع سياسات أكثر تشدداً في دول أوروپا الغربية، إذ هي عادة لا تدرج إمكانية الإجهاض ضمن إطار الحقوق. ففي ألمانيا مثلاً، حيث الإجهاض متاح بسهولة نسبية للنساء خلال الفصل الأول، وبصعوبة أكثر في الفصليين التاليين، فإن الإجهاض لا يعتبر حقاً فردياً بل عملياً جريمة يغض المجتمع النظر عنها وتمتنع الدولة عن ملاحقة مرتكبها.
وبعض التحرريين يفهم الترابط بين الحريات الاقتصادية والثقافية ويجهد بالتالي إلى الدفاع عنها على أنها وجهان لعملة واحدة. إلا أن معظم الأميركيين يجدون صعوبة بالإقرار بهذا الترابط، والتجاذب الحاصل في السياسة اليوم يزيد الرؤية تشويشاً. فالتقدميون واليساريون يدينون اقتصاد السوق لإساءته إلى الروابط المجتمعية، والمحافظون يدينون برنامج اليسار الثقافي لما ينضوي عليه من إفراط بالفردية. واليسار يعتبر الحاجة إلى النفط دليلاً على الجشع، فيما اليمين يرى في سهولة الإجهاض دليل انحطاط أو حتى فسوق. وكل من الجانبين يمتنع عن الإقرار بالترابط بين هذين الوجهين من الخيار والاختيار الفرديين، بل ربما هو غافل عنه. والحصيلة أن الأميركيين يلزمون الفرد بالحد الأدنى من القيود على المستويين الاقتصادي والثقافي.
شاطئ المحيط
فقد لا نرى نحن الأميركيون كيف أنه يمكن اعتبار هذه الخلافات المستمرة في ثقافتنا وسياستنا منذ عقود أوجه متكاملة لمسألة واحدة. غير أن هذا الاعتبار هو تحديداً الطريقة التي يعتمدها العديد من المسلمين، سواءاً منهم المتعاطفين مع الولايات المتحدة أو المتخاصمين معها، لتفسير المواجهات الأميركية الداخلية. إذ أن الأميركيين بنظرهم قد يختلفون في الفروع، ولكنهم متحدون في الأصول، وذلك بانشغالهم المستمر وشغفهم المتواصل للاستملاك الفردي.
،ليس من المستغرب أن يتخلف الأميركيون عن استيعاب الرؤية الأوسع لحروب الثقافة التي نعيشها. فهي حروبنا نحن، وانهماكنا فيها مستمر منذ زمن. إلا أنها ليس المسألة برمتها. قمنذ الحادي عشر من أيلول ٢٠٠١، سار الأميركيون بخطىً مترددة لطمس الخلافات والظهور بمظهر الجبهة الموحدة عند مخاطبة الآخرين، ولا سيما الخصوم والأعداء الذين يعرفون أنفسهم بمعرفات دينية متشددة. ودون شك، لا تزال مسائل الإجهاض والزواج المثلي موضوع خلاف مستمر، ولكن حدة هذا الخلاف قد انحسرت بالمقارنة مع ما سبق. وقد يعود ذلك إلى عوامل اقتصادية في بعض أوجهه. ولكن على أي حال، فكما أن المسلمين قد اتحدوا في دفاعهم إزاء الهجمات والانتقادات التي يتعرضون لها من غير المسلمين، فإن الأميركيين يبدون المزيد من الاتحاد إزاء المسلمين. وكان يقال في الماضي أن التجاذب الحزبي ينتهي عند شاطئ المحيط. وهذا لم يعد صحيحاً بشكل واضح، إلا أن حروب الثقافة الأميركية تميل إلى الانتهاء عند هذا الشاطئ.
فلننظر لوهلة إلى ذروة هذه الحروب في عقد التسعينات. وليس من باب الصدفة أن هذه الحقبة قد ابتدأت مع نهاية الحرب الباردة ومع نشوب السجال بشأن الفن التجاوزي والذي يظهر ممارسات جنسية إيلامية بالإضافة إلى إساءات إلى الرموز الوطنية والدينية المسيحية. فبعد أعوام قليلة، ونتيجة لمسلك الرئيس كلينتون الفضائحي، فإن بعض المحافظين لم يكتفوا بإدانة ما جرى كحالة خاصة، بل اعتبروا مسلكه نموذجاً عن جيل كامل من الأميركيين الذين يسيئون إلى الأسرة برفضهم للأخلاق المتعارف عليها. واعتبر القاضي روبرت بورك في كتابه « الزحف باتجاه عمورة » أن الثقافة الأميركية أمست منحطة دون رجاء نهوض، بل وصل به الحد أن تساءل وبعض زملاء له في مجلة فيرست ثينغز حول شرعية النظام الأميركي.
واليوم، وفي أعقاب اعتداءات الحادي عشر من أيلول ٢٠٠١، فإن هذه المواجهات قد لحق بها النسيان، وإذ بالمحافظين الذين شنوا الحملات الشعواء على الإفراط في الثقافة الأميركية في عقد التسعينات يرفعون اليوم السلاح للدفاع عن فضائلها، وذلك رداً على ممارسات المسلمين وانتقاداتهم، وهم الذين كانوا بادئ ذي بدء ممتعضين من الإفراط عينه. والمفارقات هنا أكثر من أن تحصى، ومن أبرزها أن المحافظين الذين أمضوا السنين في نقد الحركة النسوية وأسقطوا حقوق النساء من اعتبارهم على أنها مدخلاً لبرنامج إباحي، يصدحون اليوم بمهاجمة الإسلام لتخلفه في تحقيق المساواة بين الجنسين.
والمحافظون والتقدميون على السواء يطرحون الولايات المتحدة اليوم أما أعين العالم الإسلامي على أنها القدوة والمثال في حقوق النساء والمساواة بين الجنسين، وهكذا يجد المحافظون السبيل للتأكيد على تفوق الولايات المتحدة، وإن بشكل يختلف عنه قبل الحادي عشر من أيلول ٢٠٠١، فيما الناشطات النسويات وغيرهن من التقدميين ينضمون إلى هذا الجهد لدفع قضيتهم قدماً وللتأكيد على التزامهم بالقيم الأميركية في الوقت الذي ينادون فيه عادة بمعارضة الحروب التي يشنها مواطنيهم ضد جهاديين يعمدون إلى العنف.
هذا فيما انشغالنا بكيفية معاملة المجتمعات الإسلامية للنساء قد أتاح لنا غضّ النظر عمّا تحتضنه توجهاتنا التقدمية من ثقافة تسليعية ترضى بالانفلات الجنسي وبالمواد الإباحية التي تحقّر النساء (والرجال) بل تشجع عليها. فهذه العوامل التي ساهمنا بإطلاقها عالمياً هي من الأسباب التي تدفع بالنساء المسلمات إلى أمان التواضع في الملبس، بما في ذلك الحجاب. ولا شك أن الانفلات الجنسي والمواد الإباحية تثير استهجان العديد من الأميركيين، غير أننا حين نلتفت إلى الخارج، نعمد إلى الدفاع التلقائي عن نمط حياتنا المفترض، تماماً كما تفعل المجتمعات الإسلامية.
إخراج الثقافة من حلبة المواجهة
تمكن الأميركيون في زمن ارتفعت فيه وتيرة التجاذبات السياسية الداخلية من تحقيق بعض الوحدة عبر التركيز على عدو خارجي. وهذا الأمر ليس مفاجئاً. غير أن المفاجئ والجدير بالانتباه هو أننا قللنا من أهمية الخلافات الثقافية مع هذا العدو، خاصة أنه يعرّف نفسه بلغة دينية. فنحن الأميركيون قد أقنعنا أنفسنا لأسباب مختلفة أن خلافنا مع الإسلام ليس ثقافياً بالمعنى الدقيق.
ففي موضوع المساواة بين الجنسين مثلاً، لا نعتبر المسألة قيمة ثقافية يتوجب تشجيعها، بل حق إنساني يتوجب الحصول عليه. وهذا التوجه يتضح في الدراسة التي أعدتها مؤسسة راند عام ٢٠٠٧، بعنوان بناء شبكات إسلامية معتدلة، والتي تصنف المساواة بين الجنسين و حرية العبادة على أنها حقوق إإنسانية متعارف عليها دولياً. فهنا كما في غيره من المواضع في الخطاب المعاصر، يجري الحديث عن حقوق الإنسان، وهي التي لا يجوز تجاوزها لاعتبارات اجتماعية أو ثقافية أو سياسية، دون التوضيح أو التفسير. وهذه مسألة معقدة وشائكة لا يمكن إيفاؤها حقها هنا، بل تكفي الإشارة إلى استعمال عبارة الحقوق كنموذج صارخ حول الأسلوب الأميركي بتجاوز البعد الثقافي عند معالجة قضايا العالم الإسلامي.
والمثال الآخر يتضح لدى من يعمد إلى تفسير الالتقاء الأميركي بالحركة الإسلامية الثورية من خلال منظور الحرب الباردة، ويصرّ على الحديث عن أننا منخرطون بحرب عقائدية ضد الفاشية الإسلامية بشكل يشابه المعركة مع الشيوعية. والمثير للانتباه هو أن هذا التوجه يلقى الترحيب في أوساط المحافظين الجدد، وهم الذين في الأمس شددوا على العوامل الثقافية عند تقييمهم مثلاً للسياسة الاجتماعية في الولايات المتحدة في مقابل سياسات التنمية في الخارج. إلا أنه ما أن تحقق الانتصار في الحرب الباردة، حتى عمد الكثير من المحافظين الجدد إلى إعادة توجيه أنفسهم نحو دفع الديمقراطية وحقوق الإنسان، عامدني بالتالي إلى التخفيف من أهمية دور الثقافة في الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
ولا شك أن عبارة الفاشية الإسلامية تثير سخط المسلمين. إلا أنها ليست دون بعض الاستحقاق. فكما الحرب الباردة، فإن المواجهة اليوم تجري بالتدرج وعلى مدى فترة زمنية طويلة دون اللجوء الى عديد القوات المسلحة. وكما فعلنا في أوروپا الغربية وغيرها خلال الحرب الباردة، فإن الأميركيين يسعون إلى كسب القلوب والعقول للملايين من الناس العاديين الذين لم يتضح ولاؤهم. وأخيراً، فكما أشار فرانسيس فوكوياما وغيره، فإن المتطرفين الإسلاميين تدفعهم عقيدة حديثة تتماهى مع الشيوعية والفاشية أكثر منها مع الدين.
ولكن على الرغم من أوجه التشابه هذه، فإن الفارق الرئيسي بين الحرب الباردة والمواجهج اليوم هي بأن هذه الأخيرة ذات مضمون ثقافي هام. فمعركة الولايات المتحدة مع الفاشية والشيوعية كانت مع خصوم يشاركوننا بتراث التنوير، وإن كانت قراءتهم لهذا التراث مشوهة. أما اليوم، فإننا نواجه أعداء برزوا من حضارة متميزة ليست غربية، بل هي حضارة ذات تاريخ طويل من التنافس والتحدي والصراع مع الغرب.
ونتائج هذه الرؤية الثقافية متعددة وحيوية. فالصراع الثقافي، ابتداءاً، قد يكون موجعاً أكثر على المتسويين الشخصي والجماعي من الصراع العقائدي. قارن مثلاً بين ردة كل من الشيوعي ويتكر تشامبرز والمسلمة أيان هرسي علي. فلا شك أن الأول قد سار على درب شاق ومرير عندما قطع أواصر علاقته مع زملاء له ثم أقدم على خيانتهم، إلا أن الألم والمرارة هنالك تتضاءل بالمقارنة مع ما ترتب عن تخلي تلك الأخيرة عن شعائر دين أبيها وأمها ومن ثم إدانتها له.
وهذا المخاض الأليم هو دون شك أحد الأسباب التي تدفع بقادتنا إلى التأكيد على أننا لا نعيش حالة مواجهة ثقافية مع الإسلام. إلا أن هذا التأكيد يفتقد الصدقية عند النظر فيه. أذكركم مجدداً بالترابط الذي أشرت إليه بين الأزمة المالية والاقتصادية في الولايات المتحدة وبين القيم الأميركية، والتي منها الحسن ومنها القبيح. فهذه القيم مجتمعة تشكل نمط الحياة لدينا. وهكذا يراها الإسلاميون المتطرفون. ولكن هكذا يراها أيضاً العديد من المسلمين العادين الملتزمين بالقانون، وإن كانوا هم أنفسهم غير ملتزمين تماماً بالقيم الإسلامية النابذة للإسراف والداعية إلى ضبط النفس.
دعوني أكون واضحاً. الولايات المتحدة ليست بحالة حرب مع الإسلام. وليس هناك جماعة إسلامية عالمية موحدة تواجهنا، مهما أسهب العديد من المسلمين في الحديث عن الأمة. إلا أنه من النفاق والإخفاق تجاهل الأساس الثقافي للمواجهة التي نعيشها اليوم. والواقع أن صراعنا العنيف أحياناً مع المسلمين المتطرفين يقع على ساحة ثقافية، ويتابعه جمهور واسع من المسلمين المحافظين ثقافياً وغير المتطرفين، فهؤلاء لا يعنيهم فقط من يربح في هذه المواجهة، بل كذلك أسلوب الولايات المتحدة في خوض المعركة.
ويتوجب على الذين يتنكرون لهذا التفسير الثقافي للمعركة الدائرة أن ينظروا في دواعي لجوء غير المسلمين بهذه الكثرة وبهذه السرعة إلى إثارة موضوع المساواة بين الجنسين في المجتمعات الإسلامية (وإن أدرجوه في خانة حقوق الإنسان)، أو أن يتساءلوا عمّا يجعل العديد من المسلمين ينفر من الموسيقى الشعبية والفن التصويري، أو لماذا يقف العالم الإسلامي موقفاً عدائياً قطعياً إزاء المثلية الجنسية العلنية. فهذه مسائل ذات أهمية كبيرة بالنسبة لغير المسلمين كما للمسلمين.
ورغم ذلك فإن النخب السياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة غالباً ما تدفع بالثقافة إلى الخلفية في المناقشات والسجالات المعاصرة. وهذا لا يعود فقط رلى أنه يناسب المصالح السياسية المباشرة للتقدميين المرنين والمحافظين الأذكياء، ولكنه أيضاً، كما اقترحت فيما سلف، لأنه ثمة توجهات فكرية أوسع تدلو بدلوها. ففيما يتعلق بالعالم الإسلامي تحديداً، تكفي الإشارة إلى الثقافة لإثارة شبح نظرية صراع الحضارات لصموئيل هانتغتون. والواقع أن معظم الأساتذة الجامعيين والمحللين يرفضون تركيز هانتنغتون على الثقافة في السياسة العالمية، كردة فعل على استفزازه لهم إذ قال مؤيداً لنظريته أن البغض من الطبيعة الإنسانية. وقصد هانتنغتون كان طبعاً أن الصراعات الثقافية مريرة ومستعصية، ولا سيما في مرحلة ما بعد الحرب الباردة هذه. ولكنه لم يرحب بهذه الصراعات، ولا هو اعتبرها حتمية. بل إن هانتغتون عارض الغزو الأميركي للعراق، وهو أمر تجاهله نقّاده الذين غالباً ما يقرنون بينه وبين دعاة الحرب من المحافظين الجدد.
على أي حال، وقبل طرح هانتنغتون لنظريته بفترة طويلة، ثابر علماء المجتمع على رفض التفسيرات الثقافية للشؤون الإنسانية. وهذا الرفض للثقافة يعكس جزئياً تباعد أو حتى نبذ قطعي لدى النخب الأميركية تجاه الدين كأساس للعمل أو التحليل. وتحديداً، فإن الأساتذة الجامعيين والمفكرين لدينا قد صنفوا هذه التوجهات على أنها اختزالية، أي أنها تسقط على الجماعات، ولا سيما الهامشية، سمات جوهرية غير متحولة. والخشية كانت أن يجري تصوير هذه الجماعات على أنها غير قابلة للتفاعل مع السياسات العامة الهادفة إلى تطويرها، مما يغذي الصور النمطية السلبية ويدعم موقف القوى السياسية المحافظة والرجعية. في المقابل، فإنه جرى اعتبار التحليلات البنيوية الاجتماعية أو البيئوية على أنها تقدمية، مع افتراض أن العوامل التي بنيت عليها أكثر قابلية للتدخل الحكومي. والمفارقة بالطبع والتي تتبين بعد أجيال عدة من التجارب في السياسة الاجتماعية، هي أنه لا العوامل الثقافية ولا العوامل البنيوية لديها حتماً قابلية التجاوب مع المبادرات السياسية.
رقعة العمى الثقافي لدينا
النتائج المترتبة عن تجاهل الأبعاد الثقافية للتلاقي المعاصر بين الولايات المتحدة والإسلام عديدة وهامة. فمنها الفشل في إدراك وطأة ثقافتنا على العالم. والواقع أن هذه الوطأة الثقافية قد تضاهي في أهميتها كل من الوطأتين الاقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة في أرجاء العالم. ورغم ذلك، وباستثناء دعاة استعمال ما يسمى بالقوة الناعمة، فإن القلة القليلة منا على ما يبدو تدرك هذا الأمر. وهذا لا يعني أن وطأتنا الثقافية كلية الإيجابية أو كلية السلبية. فكما اقترحت أعلاه، فإن الرغبات والطموحات الأميركية تتفاوت. وكما أن منتوجنا الثقافي الهائل يجذب البعض منّا وينفّر البعض الآخر، فهو كذلك يجذب وينفّر العديدين في أنحاء الأرض. ولا شك أن الكثير من ثقافتنا الشعبية تستجذب الغرائز الدنيا، ولا سيما منها التي تستهدف الذكور من الشباب في الداخل والخارج. ألا أن منتوجنا الثقافي بين الحين والآخر يتوجه إلى الأرقى في الطبيعة البشرية.
ومهما كان الحال، فإننا كأميركيين على الغالب نجهل وطأة ثقافتنا في الخارج. وقد ظهر للعيان نموذج مقلق في هذا الصدد مع التصرفات المشينة للعسكريين الأميركيين في العراق، وفي سجن أبو غريب تحديداً. فقلة من الأميركيين لم تطلع على تلك الصور الغريبة المروعة، وكأن من أخذها سائح في حديقة حيوانات. ولكن في حين أن معظمنا اعتبرها حادثة من الإساءة والتعذيب محرجة لنا كمجموع وطني، فإن جون أغرستو يقدم تفسيراً مختلفاً من وجهة نظر متميزة. وأغرستو هو رجل تربية أميركي خدم في العراق في فترة پول يريمر كمستشار أعلى لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي. وفي كتابه « صفعة الحقيقة : تحرير العراق وفشل النوايا الحسنة » يستفيد أغرستو من محادثاته وتجاربه في عراق ما بعد الاحتلال ليكشف أن العراقيين لم يفاجأوا نتيجة التصرف المخزي في أبو غريب. وهو ينقل عن مترجمه العراقي قوله « نحن شعب متوحش، والتوحش في دمنا ».
ثم يقدم أغرستو ملاحظة غابت عن الكثير من الأميركيين: «لم تكن صدمة العراقيين نتيجة التعذيب الذي انكشف في هذه الحادثة، بل في طبيعة هذا التعذيب وفي منحاه الجنسي»، ثم يضيف:
أبو غريب كشف عن استسلام الأميركيين للشذوذ الجنسي بما في ذلك الإيلام المثلي، ولكنه كشف أيضاً عن استعداد الأميركيات لأن تلتقط صورهن وهن يقدمن على تعذيب جنسي لرجال عراة، فالفرح البادي على وجوههن لم يحط من قدر العراقيين وحسب إنما من قدرهن.
ويتابع أغرستو في استعراضه لوجهة النظر العراقية:
لم يبدُ ما جرى في أبو غريب وكأنه محاولة لانتزاع معلومات هامة من المعتقلين عبر معاملة قاسية، بل بدا وكأنه ألعاب جنسية وترفيهية منحطة. ففي وسط يشدد فيه أعداؤنا على أن الحداثة هي الإسراف والدياثة ، وأن الثقافة الأميركية ثقافة شذوذ وإفراط في المتعة المحظورة، وإن العلمانية ليست إلا ابتعاد عن الدين وتحدي الخالق، فإن ما جرى في أبو غريب كان هبة لأعدائنا وكارثة صرفة للولايات المتحدة وأصدقائها.
أما في الولايات المتحدة والتي شهدت بالطبع ردود فعل مستهجنة حول ما جرى في أبو غريب، فالتركيز كان معاكساً. ذلك أن الأميركيين كانوا أكثر ميلاً إلى التشديد على أن ما جرى كان حالة تعذيب وإساءات، فيما الجانب الجنسي لما جرى لم يتقدم إلى الواجهة. والكتاب النسويون يركزون على هذه الرؤية حين يشيرون إلى أن التقدميين هنا قد تهربوا من المحتوى الإباحي الشاذ لأبو غريب لأن في ذكره دفعاً إلزامياً لهم بإعادة النظر في التزامهم بحرية التعبير، وكذلك بشكل عام في تقييمهم للإباحية على أنها في طبيعتها لا تتسبب بضرر.
والإصرار لدى النخب في الولايات المتحدة على إخراج الثقافة من حلبة الصراع قد تسبب بنتيجة مؤسفة أخرى: فنحن قد حجبنا من وجهة نطرنا الفوارق الهامة بين الولايات المتحدة وأوروپا. ومن المفارقة أن ذلك يكشف عن مدى كوننا الأفضل بالمقارنة مع أصدقائنا عبر المحيط في التطرق إلى الشجون الثقافية للمسلمين في أنحاء العالم. فالولايات المتحدة أولاً هي أكثر تسامحاً وانفتاحاً إزاء القادمين الجدد إليها من أية دولة أوروپية تقريباً. ثانياً، ليس لدينا هنا في الولايات المتحدة العلمانية القطعية المدوية والتي احتوت دور الدين في الحياة العامة في أوروپا وتسببت بالتالي بتهميش العديد من المسلمين وتنفيرهم.
والمثال على ذلك يتبدى من الضوضاء التي رافقت الرسوم الساخرة من الرسول محمد والتي نشرت في صحيفة ييلاندز پوستن الدانماركية عام ٢٠٠٥. فعلى الخلاف من نظيراتها الأوروپية، فإن وسائل الإعلام الأميركية على الغالب امتنعت عن نشر هذه الرسوم. فعلى الرغم من فرديتنا القاسية والتنافسية ومن الحماية التي يمنحها التعديل الدستوري الأول، فإن التعددية في الولايات المتحدة قد أرست على ما يبدو بعض عادات ضبط النفس. أما المسلمون في أوروپا، فهم يلقون بالمقابل دعاة حرية تعبير إطلاقيين يرفضون الإقرار بمشروعية شكواهم.
فمن المؤسف إذن أن بعض المعلقين الأميركيين (بمن فيهم بعض الذين أبدوا الززدراء إزاء الأوروپيين لعدم تأييدهم لغزونا للعراق) سارعوا إلى الدفاع عن الأوروپيين الذين عمدوا إلى رفع الرسوم المهينة. في هذه الحالة، على ما يبدو، عدو عدوي يصبح صديقي، وإن كان من التقدميين الأوروپيين المتخاذلين!
وفي نفس النمط، فإن المعلقين الأميركيين قد دافعوا بشدة عن العلمانية الصلبة لتركيا الكمالية، نتيجة قلقهم من البرنامج الديني المفترض الذي تعمل حكومة رجب طيب أردوغان الإسلامية والتي انتخبت ديمقراطياً (مرتين) على تطبيقه. هذا فيما هؤلاء المعلقين الأميركيين أنفسهم قد استفاضوا في حالات أخرى في انتقاد العلمانية، ولا سيما في شكلها الفرنسي وهو الشكل الذي تستقى منه الكمالية على أنه أقل صواباً من دستورنا الذي يضمن حماية صريحة للحرية الدينية والتسامح والتعددية.
فهذه المسائل لا تحظى بالاهتمام الذي تستحقه، ذلك أن النخب في الولايات المتحدة، مجدداً، قد قررت أن المواجهة مع الإسلام ليست ثقافية. فهذا ليس فقط من باب المفارقات، ولكنه كذلك مؤسف، لأن الولايات المتحدة تجمع المكونات الاجتماعية والمؤسساتية والفكرية للتطرق إلى مسائل الخلاف التي سبق ذكرها. وهذا لا يعني أننا لم نرتكب الأخطاء في هذا المجال، إذ بالفعل قد ارتكبنا الأخطاء. ولكننا كأميركيين وبشكل عام أكثر أهلية للتواصل مع المسلمين على المستوى الثقافي من الأوروپيين.
والنتيجة الأخيرة لتجاهل السياق الثقافي في تلاقينا مع الإسلام هو في طمس المشترك بين الديانات الإبراهيمية الثلاثة. ولا شك أن القواسم المشتركة هي موضوع متكرر في اللقاءات الحوارية بين الأديان، يشير إليها رجال الدين المتحمسين للمسألة. أما خارج هذا الإطار، أي في الساحة العامة غير المغلقة، فاللهجة مختلفة. فالاستماع إلى المعلقين في هذه الساحة، يكاد المرء أن يغفل أن مشاركة النساء اليهوديات في صلاة الكنيس إلى أمد قريب كانت من شرفة مخصصة لهن (وبعضهن لدى الطوائف الحسيدية ما زلن كذلك منفصلات عن الرجال)، وأن الكاثوليك كانوا يمتنعون من أكل اللحوم ويمارسون الصيام، وأن الپروتستانت في كنائسهم الرئيسية كانوا يدينون لعب القمار وشرب الخمور، وأن الأميركيين، في معظمهم التزموا بتعديل دستوري يحظر تضنيع المشروبات الكحولية وبيعها ونقلها. وبشكل عام يكاد المرء أن يغفل أنه كان ثمة زمن دعا فيه كل من الپروتستانت والكاثوليك واليهود إلى عدم الإسراف في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
ولا شك أنه ثمة فروق جوهرية في الثقافة والتاريخ والعقيدة بين الإسلام والمسيحية واليهودية. غير أنه ثمة أوجه تشابه تدعو الأميركيين إلى النظر بحال المسلمين المعاصرين، لا من باب الشعور غير المناسب بالذنب، بل من باب الفضول والضرورة، الفضول حول كيف ينظر المسلمون إلى الولايات المتحدة المعاصرة على أنها قائمة على التبذير والابتذال والإسراف، نظراً إلى أن الأميركيين إلى أمس قريب كانوا يثمنون الاقتصاد والتحفظ وضبط النفس، والضرورة لأن بناء جسور التواصل والتفاهم والثقة بين المسلمين وغير المسلمين لن يتم إلا من خلال الاستكشاف الصادق والمتكامل.
دعوني أكون واضحاً. أنا لا أدعو إلى حوار أديان يرفع القيم المشتركة دون الجرأة المطلوبة للتطرق إلى نقاط الاختلاف. ولا أنا أقترح التركيز على بناء الصداقات في العالم الإسلامي. فالصداقات مرغوبة دوماً، ولكنها لا يجوز أن تكون هدفنا الأول، بل هي في الشؤون الدولية غير مناسبة كهدف. المطلوب اليوم أن يحدد الأميركيون نقاط التلاقي مع المسلمين، ليس فقط على أساس الخلفية والتاريخ، بل كذلك المصلحة. ولذلك، لا بد من الإقرار بقوتنا وهيمنتنا على الشؤون الدولية، دون اعتذار ودون التظاهر بأن هذه الهيمنة غير متحققة.
وفي الإطار نفسه، الأحرى بالأميركيين أن يتخلوا في الداخل والخارج عن هذا البحث العقيم والمهين عن المسلمين المعتدلين. فهؤلاء لا وجود لهم، ليس لأن كل المسلمين متطرفين أو إرهابيين، بل لأن مسلماتتهم الثقافية تختلف عن مسلماتنا. وجاءت دراسة مؤسسة راند التي سبق ذكرها على تعريف المسلمين المعتدلين على أنهم « يشتركون بالأبعاد الأساسية للثقافة الديمقراطية، ومنها دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان المتعارف عليها دولياً، … واحترام الاختلاف، والقبول بمصادر تشريع غير فئوية، ومعارضة الإرهاب وغيره من أشكال العنف غير المشروعة ». أي، وبعبارة أخرى، المسلم المعتدل هو الذي على استعداد لملاقاة الولايات المتحدة عند ثمانين بالمئة من الطرق.
هنا محدداً. فإنه من المفيد اعتماد توجه ثقافي أكثر حرصاً، إذ من شأن هذا التوجه أن يكشف أن هذا التعريف هو في آن واحد ضيق وفضفاض. وبغضّ النظر عن المسألة المقلقة والخلافية حول التأييد والدعم من المسلمين للإرهابيين، فإن هذا التعريف يمزج ما بين الثقافة الديمقراطية واحترام التعددية في لهجة قد تلقى الممانعة من العديد من الأميركيين أنفسهم. ثم أنه في حين أن المسلمين في أرجاء الأرض منهمكون بحوار حول هذه المسائل، ليس من المناسب أن يفرض الأميركيون امتحاناً ومعايير حول من هو المسلم المعتدل. بالإضافة طبعاً إلى ما يشير إليه التقرير عينه بأن قلة قليلة من المسلمين قد تنجح في هذا الامتحان، وهؤلاء قد يفتقدون العلاقات المفيدة مع محيطهم.
وقد اقترح عالم الاجتماع أميتاي عصيوني منهجاً واعداً مختلفاً، حين دعا إلى محاولة إيجاد معتدلين غير تقدميين في العالم الإسلامي، وذلك انطلاقاً من ملاحظته أن مركز الثقل في هذا العالم مختلف عنه في في عالمنا بقدر كبير فلا ينبغي أن ننشغل بمن يوافقنا الرأي أو يعارضناه، بل علينا التركيز على من هو على استعداد للتواصل معنا. فالهدف مجدداً ليس إيجاد الأصدقاء بل المخاطبين الذين قد لا تروق لهم القيم الأميركية والأميركيين أنفسهم، ولكنهم على استعداد للبحث في إمكانية استكشاف المصالح المشتركة. وهذا بالطبع هو جوهر السياسة، والسياسة هي الموضوع بعينه.
الثقافة والقوة الأميركية
من المفارقات أن المؤسسة العسكرية الأميركية، وهي المؤسسة المعزولة عن غيرها في المجتمع الأميركي، ولا سيما إزاء القطاع الجامعي، قد اكتشفت قبل غيرها أهمية الثقافة. فنتيجة لمواجهة الفشل في العراق وأفغانستان، توصل قادتنا العسكريين إلى قناعة أن الانتصار ليس فقط نتيجة القوة الحاسمة لقتل العدو، ولكن أيضاً هو بكسب القلوب والعقول في أوساط المدنيين. ولا بد لتحقيق ذلك من أن يفهم الجنود القيم والثقافة التي يعتنقها هؤلاء المدنيين، وإلا فالكارثة مقبلة. وعلى هذا الأساس، أعادت المؤسسة العسكرية تصميم خططها لمحاربة التمرد وبذلت الجهود لاستعمال علماء الاجتماع، ولا سيما منهم علماء الإنسان. وكما شهدنا في برنامج الصحوات في محافظة الأنبار في العراق، فإن هذا التوجه يعني العمل مع من كان عدواً إلى أمس قريب، وهؤلاء ليسوا بالتأكيد من المسلمين المعتدلين غير أنه يمكن تجنيدهم لمحاربة أعداء أكثر تطرفاً. واليوم، فيما أنا أسطر هذه السطور، تحاول حكومة الرئيس أوباما استعمال المنهج نفسه في أفغانستان المختلفة في طبيعتها وثقافتها.
ومنهج مكافحة التمرد هذا يستدعي إعادة النظر بأجيال من النظريات العسكرية المبنية على القوة المفرطة والتقنيات المتطورة الهادفة إلى إرباك العدو الحد من الخسائر الأميركية. وهذا لن يتحقق بسهولة، وأصعب ما فيه مسعانا إلى ترجمة الثقافات الغريبة كي يتمكن الجنود الشباب من فهمها لتحقيق أهداف عسكرية واضحة. وإذا ابتعدت المؤسسة العسكرية كثيراً عن استعمال القوة أو التهديد بالقوة لتحطيم إرادة العدو، فإنه لن تكون عندها مؤسسة عسكرية، مما قد يؤدي إلى خسارات بالأرواح لا يرضى به الجمهور. ورغم ذلك، يبدو أن هذا هو توجه القوات المسلحة بعد الكارثة في كل من العراق وأفغانستان.
على أن هذا التوجه لن يغير من موقع الولايات المهيمن في العالم. والعديد من الأميركيي يعترضون على نفوذنا، بل بعض قد طاب له ما تعرضنا له من إذلال مؤخراً، فيما البعض الآخر يتطلع قدماً إلى استعمال قوة أقل، ويفترض أن العالم سوف يكون أفضل نتيجة لذلك. وهذا التصور الأخير خاصة هو وهم صريح. فالولايات المتحدة سوف تبقى في المستقبل المنظور القوة العظمى على الأرض. ونظراً إلى أصدقائنا ومنافسينا وأعدائنا، فهذا أمر جيد، لنا ولعموم من يشترك معنا بالعيش على هذا الكوكب.
وإدراكاً لهذه الحقائق المستديمة، فرن البعض يدعو إلى ممارسة أكثر رشداً للقوة الأميركية: مزيد من التشاور مع الحلفاء، وأقل مواجهات مع الخصوم. وفي هذا السياق، برز الاقتراح بأن مشاكلنا مع العالم الإسلامي قد تنحسر في حال سرنا باتجاه سياسة أكثر توازناً في القضية الفلسطينية وإسرائيل. وفي حين أن ذلك قد لا يؤثر إيجابياً على أعتى أعدائنا الإسلاميين، إلا أنه من شأنه أن يتيح لنا فرصاً أفضل مع المسلمي وغير المسلمين العاديين في أرجاء العالم.
وهذا هو بوضوح توجه حكومة أوباما، إلا أنه ثمة حدود واقعية لقدرة الولايات المتحدة على التحرك في هذا الاتجاه. ومصالحنا الموضوعية لن تتبدل في المستقبل القريب، وكذلك نمط الحياة الذي يفرض هذه المصالح لن يتبدل. فسياستنا بالتالي لن تؤخذ منعطفات كبيرة، وهذا ما يظهر بالفعل أنه مسار حكومة أوباما.
أما ما قد يتبدل، فهو فهمنا لقوة الولايات المتحدة وموقعها على الساحة الدولية. وهنا أنا أدعو إلى المزيد من الوعي الذاتي، وهو ما نفتقده نحن الأميركيون عادة. علينا على سبيل المثال أن ندرك أن مثاليتنا تتحول بسهولة إلى وعظ أخلاقي سواءاً كنا نقدم على فعل قوة صلبة في العراق أو عمل قوة لينة في أفغانستان لدفع المساواة بين الجنسين. وفي هذا الصدد، فقد نستفيد من الإصغاء إلى تنبيه عالم السياسة الفرنسي پيار هسنر حول أن نظامنا السياسي قد يكون مبنياً على ريبة مؤصلة من القوة السياسية وعلى أساليب احتوائها، إلا أن أفعالنا على المسرح الدولي تقول للعالم: « نحن نأتي إليكم بالقوة المفرطة، وعليكم أن تثقوا بنا ». فلا يلزم التنويه مجدداً على نه ثمة فارق كبير بين قيمنا وسلوكنا.
وأخيراً، فإني أدعو إلى قدر من التواضع إزاء الإسلام والعالم الإسلامي. إذ ثمة فارق بين أن نقول أننا نريد أن نتعلم عن الإسلام، وبين أن نقول أننا نريد أن نتعلم من الإسلام. وفي زمن صعوبات فائقة نتيجة للأزمة المالية والاقتصادية التي أصابتنا، فإنه بوسع الأميركيين من غير المسلمين أن ينظروا في إنجازات المؤسسات والمنتجات المالية التي تلتزم المبادئ الإسلامية، والتي قد لا تكون قد تعرضت لخسارات مشابهة لغيرها. وهذه بالفعل قناعة يميل إليها العديد من المسلمين. فعلى الأقل، قد يكون ذلك مدخلاً لتواصل منتج، بدلاً من بحث جديد حول المساواة بين الجنسين في العالم الإسلامي.
وكذلك الأمر، فإن العديد من الأميركيين، حتى المتدينين منهم، لا يرتاحون إلى الذكر الدائم للقدرة الإلهية في خطاب المسلمين. إلا أن الأميركيين المسيحيين واليهود يقدمون على الذكر نفسه دون حرج. فحتى في برنامج الخطوات الإثني عشرة الهادف إلى معالجة حالات الإدمان، وهو العلماني في تصريحه، يقف الأفراد للإقرار بخضوعهم للقوة العليا قبل الالتزام بمسؤوليتهم لمكافحة إدمانهم.
وأيضاً، قد يستفيد الأميركيون غير المسلمين من التعليقات التي أدلى بها كيث إليسون، النائب الديمقراطي عن ولاية مينيسوتا وهو أول مسلم انتخب للكونغرس، في كلمة بعد انتخابات العام ٢٠٠٨، إذ دعا سائر المسلمين إلى التحفظ في تفاؤلهم إزاء المرشح الذي خاض المعركة الانتخابية مبتعداً كل البعد عن ديانة أبيه المسلم، أي باراك أوباما، قائلاً: « أوباما ليس من سوف ينقذنا، بل الله ».
قد لا تروق هذه الكلمة لغير المسلمين، ولكن من شأنها أن تذكرنا نحن الأميركيين بأننا ندرك أموراً حول الرسالات السماوية والتي خدمتنا كأمة. فهذه الرسالات هي التي أطرّت ودعمت حركة الحقوق المدنية التي قادها القس مارتن لوثر كينغ.
وكلمة أخيرة. ففي ضوضاء العالم المعاصر، قد تغيب عن الأميركيين من غير المسلمين أوجه التراث اليهودي المسيحي التي تلقي الأصواء على الإسلام. والمفارقة أن الإسلام هنا قادر على أن يعلمنا. فالإسلام يرفض معتقد الخطيئة الأصلية، ولا يعتبر أن الإنسان ملطخ بهذه الخطيئة، بل أنه ينسى مكانه في خليقة الخالق. لذلك فالصلوات الخمسة وغيرها من الشعائر مركزية بالنسبة للإسلام، إذ لا بد من مواجهة ميل الإنسان إلى أن ينسى. والميل لدى الأميركيين اليوم هو إلى نسيان تراثنا الديني، ومن شأن الإسلام أن يذكرنا بذلك، تاركاً أمامنا المجال لأن نختلف في الأمور الأخرى.
Commentary
Op-edالثقافة الأميركية والعالم الإسلامي
June 30, 2010