Commentary

Op-ed

مودي يستخدم مهاراته الثقافية في آسيا

توجه الهنود العام الماضي إلى صناديق الاقتراع لانتخاب رجلٍ وصل إلى السلطة معتمداً على الإحياء الثقافي ضمن حزب الشعب الهندي الهندوسي القومي (بهاراتيا جاناتا). إلا أن فوز ناريندرا مودي في الانتخابات نتج أيضاً عن البراغماتية النشيطة. مذاك، جمعت السياسة الخارجية هاتين الفكرتين – الثقافة والبراغماتية – بنجاح، لا سيما في آسيا. استُخدمت الثقافة كأداة قوة ناعمة ساهمت في تحقيق المصالح وشكلت واحدة من المجالات التي أظهر فيها مودي تميزه عن الإدارات السابقة.

تحت شعار السياسة الهندية “النظر شرقاً/ العمل شرقاً”، استخدم مودي الثقافة لجذب سكان آسيا. وشكّلت البوذية جسر عبور لنواياه، ولا يُخفى أن البوذية تربط مختلف أنحاء آسيا أكثر من أي ديانة أو فلسفة أخرى. استقبلت الهند هذا العام احتفال بوذا بورنيما الدولي لإحياء ذكرى ولادة بوذا وتحقيقه للتنوير ووفاته. وجاء قرار استقبال هذا الاحتفال على أثر مبادرة أطلقها مودي الذي ترأس فعاليات ذلك اليوم. وأشار مودي أنه “من دون بوذا، لا يمكن لهذا القرن أن يكون قرن آسيا”. أعلنت وزارة الداخلية الهندية أن الهند ستقيم سنوياً احتفالاً ترعاه الحكومة بهذه المناسبة. وتخطط الحكومة لإقامة دار للعبادة والتعليم البوذي في نيودلهي. وبهذا، تحاول حكومة مودي الترويج للهند على أنها مهد البوذية وموطن لبوذا (رغم أنه ولِد في الأراضي التابعة حالياً للنيبال). إن استخدام البوذية لا يتعارض بالضرورة مع العقيدة الهندوسية، التي تسعى إلى حماية كلّ ما يتعلق بالموروث الهندي، بما في ذلك البوذية والجينية والسيخية، والترويج له.

وأحد الأهداف التي ترمي نيودلهي إلى تحقيقها عن طريق البوذية هو إبطال مفعول القوة الناعمة التي تعتمدها الصين. وقد سعت وزارة الخارجية الصينية في الآونة الأخيرة إلى رفع دور البوذية كأداة في السياسة الخارجية. تستفيد بكين من كونها تضم أكبر عددٍ من البوذيين في العالم ويُقال أنها تمرّ بنهضة بوذية في ظلّ حكم الرئيس شي جين بينغ، في حين أن عدد البوذيين قليل في الهند ومعظمهم من فقراء المجتمع.

بالإضافة إلى السباق على النفوذ في البلدان الآسيوية الأخرى، تستخدم كلّ من نيودلهي وبكين الثقافة لجذب سكان منهما الأخر ولتلطيف العلاقات. ويجري العمل حالياً على بعض المبادرات الثنائية، كمبادرة “المحميات الثقافية” التي تشمل بنغالورو وبكين. في حين أن تأثير الثقافة قد أعاقة قليلاً المصالح الاستراتيجية المتنافسة في الجوار الهندي والجوار الصيني على طول الحدود المشتركة المتنازع عليها، والمحيط الهندي وعلى الساحة الاقتصادية، إلا أنّ العلاقات الثقافية التي تربط نيودلهي ببكين هي أفضل من تلك التي تربطها مع أي قوة عظمى أخرى. وفي هذا المجال، تتميز الهند والصين، كأمتين، فهما تشكلان بعضاً من أقدم التقاليد الثقافية المستمرة في العالم.

شهدت الثقافة كجسرٍ جهوداً أكبر في الصين من تلك التي شهدتها في الهند، وقد يبدو ذلك واضحاً في تركيز بكين الثقافي خلال زيارة مودي الأخيرة. تشعر الصين بالحاجة إلى العمل أكثر لالتماس الشعب الهندي وليس العكس. ويُعزى ذلك جزئياً إلى رغبة الصين في منع استخدام الهند كحليف مناهض للصين من قبل الولايات المتحدة وإلى سعيها لحثّ الهند على الانضمام إلى مبادرة “حزام واحد وطريق واحد” التي أطلقتها الصين.

قد تستفيد الهند من ميزة (في حال عرفت كيف تديرها) لأن التأثير الثقافي قد اتخذ اتجاهاً واحداً إلى حدٍّ كبير . ومن الأقوال المفضلة المنتشرة بين الهنود هي تلك التي صرّح بها السفير والفيلسوف الصيني، هو شيه: “غزت الهند الصين وسيطرت عليها ثقافياً على مدى 20 قرناً من دون أن تضطر إلى إرسال جندي واحد عبر حدودها”، وكانت البوذية الهندية هي التي ساعدت على تحديد شكل الحضارة الصينية. هذه هي القوة الناعمة القديمة التي يتعين على مودي الوصول إليها، بينما يتفادى الكبرياء التي يرافقها. إن التواضع في الترويج للثقافة الهندية مهم بشكلٍ خاص في آسيا حيث أعاق الافتقار إليه الدبلوماسيين الهنود في السابق. ويبدو ذلك مهماً أكثر بالنسبة لمودي، لا سيما وأن حزب الشعب الهندي قد فتح المجال أمام مزاعم الشوفينية أكثر من الحكومات السابقة التي يرأسها المؤتمر الوطني الهندي.

في حين كانت الصين تساعد على بناء المعابد في بورما وتايلاند وكمبوديا وعلى حمايتها، زار مودي المعابد البوذية أثناء زياراته لليابان وكوريا الجنوبية ومنغوليا وأهدى هذه الدول، كما فعل في دولٍ آسيوية أخرى، غصناً من شجرة بودهي المقدسة. يمكن أن تنافس الهند ليس فقط من خلال التشديد على البوذية، إنما على الهندوسية والسنسكريتية لصلاتها القديمة بالمنطقة. تنطق إندونيسيا، أكبر دول اتحاد دول جنوب شرق آسيا (آسيان) وأكثرها نفوذاً، لغةً مستوحاة من السنسكريتية، وتتخذ شعاراً للنبالة يضم طائر الجارودا المستوحى من الأساطير الهندوسية، وتضم معابد بوذية وهندوسية مرموقة.

لقد استُخدمت الدبلوماسية الثقافية كذلك في المناطق المجاورة للهند. فقد استُخدمت البوذية لجذب بوتان والنيبال. في كاتماندو شكلت الثقافة واحدة من اهتمامات مودي الأربعة (التعاون والثقافة والتواصل والدستور) في نيبال (دولة قدم لها رئيس الوزراء غصناً من شجرة بودهي). قد تكون جهود مودي قد أسفرت عن نتائج أهم في سريلانكا – واحدة من أقدم الدول البوذية. في حال كان التاريخ الجيوسياسي والمصالح الاستراتيجية والاقتصادية هي المحددات الوحيدة لسمعة نيودلهي في الجزيرة، فإن الصين تسبق الهند. استطاع مودي الحد من هذه الفجوة جزئياً من خلال التماس العلاقات البوذية الهندية-السريلانكية القديمة، التي يعود تاريخها إلى إمبراطورية الموريين في ظلّ حكم أشوكا.

بالطبع، الثقافة وحدها لا تكفي، كما رأينا مع الصين، لتغيير سياسات الدول تجاه الهند. مع ذلك، تمثل الثقافة أداةً تحتاجها الهند أكثر من أي قوة عظمى أخرى لتستخدمها بهدف دعم جهاز السياسة الخارجية الذي لا يتمتع بموارد كافية. وصل مودي إلى السلطة محلياً وحقق أهدافه السياسية جزئياً بسبب دعوته إلى الافتخار بالثقافة الهندية. عند السعي لتحقيق أهداف وطنية على الصعيد العالمي، سيفيد مودي الهنود جميعاً في حال استطاع استخدام الثقافة ليمارس السحر عينه.