Commentary

Op-ed

لماذا يجب أن تكون أسعار النفط عالية ومستقرة؟

بعد عشر سنوات من تقلب الأسعار، شهدت السنوات الثلاثة الماضية فترة غير عادية من الاستقرار في سوق النفط، مع بلوغ سعر برميل النفط الخام معدل وصل إلى 110 دولار سنوياً. ومع ذلك، ترجح توقعات عام 2014 تراجعاً ليصل المعدل إلى 105 دولار، على أساس توسيع العرض والطلب الذي جاء أضعف من المتوقع. علاوةً على ذلك، حال خليط جمع بين الأحداث الجيوسياسية في سوريا وليبيا ونيجيريا من دون زيادة العرض رغم الدخول الواسع النطاق للصخر الزيتي الأمريكي إلى السوق. ظل السعر مرتفعاً حتى الآن، ولكن إلى متى ستبقى الأسعار أعلى من 100 دولار؟

جاء انخفاض الأسعار المرتقب في وقتٍ شهد وصول أكبر مستهلك في العالم إلى هدف سعى إليه منذ وقتٍ طويل ألا وهو الاكتفاء الذاتي من الطاقة. انطلقت الولايات المتحدة لتحقيق هذا المسعى بعد أزمة النفط في العام 1973، وفي السنوات الأخيرة شهدت البلاد تطوير برنامج نووي شامل وتطوير الوقود الحيوي والسعي إلى إنتاج النفط من مصادر أعلى تكلفة من أي وقت مضى: رمال القطران في كندا وأعماق خليج المكسيك وحتى براري ألاسكا. وأبعد من ذلك، استخرجت النفط من آبار المياه العميقة في البرازيل ومن حقول النفط منخفض الكبريت في أفريقيا الغربية، وكلها وسائل تساهم في تخفيض الاعتماد على نفط الشرق الأوسط.

أدى تطوير مصادر النفط والغاز غير التقليدية في الآونة الأخيرة في الولايات المتحدة إلى ثورة في تدفقات وسياسات الطاقة، مع وقوف البلاد على حافة التحول إلى دولة مصدرة للغاز. بدا التطور السريع في مجالات النفط والغاز الصخري خارقاً في بعض الأحيان، ولكن أكثر تكلفة وخطورة على غرار العديد من المصادر التقليدية التي تعتمدها الولايات المتحدة (تتراوح تكلفة كلّ برميل بين 60-80 دولار)، كما تبدو معدلات الإنتاج والنضوب أقل قابلية للتنبؤ بها بالمقارنة مع المصادر التقليدية. ونتيجة لذلك، فإن الإمدادات المحلية والإقليمية الأمريكية معرضة جداً لتقلبات الأسعار، تماماً كما حصل حين وصل العمل في رمال القطران في كندا إلى طريق مسدود في العام 2008 بعد انخفاض الأسعار.

ادعى محللون أن عصر “النفط السهل” قد انتهى، وأننا ندخل فترة الاستخراج المكلف والمعالجة التي تتطلب رأسمال عالٍ. وإذ يتطلب قطاع النفط والغاز الصخري حالياً 1.5 دولار في الاستثمار الرأسمالي مقابل دولار واحد من الإيرادات، أدارت شركات نفطية كبرى عديدة ظهرها للصخر الزيتي لتوسع عملياتها في حقول النفط “السهلة” في الشرق الأوسط. رغم المخاطر التي ينطوي عليها، يبدو النفط العراقي الذي يُضخ بكلفة تصل إلى 20 دولار للبرميل وكأنه احتمال جذاب، تماماً كالمصادر في ليبيا وإيران حين تسمح الظروف السياسية والأمنية بضخّ النفط. ولكن هل ستنخفض أسعار النفط الأكثر سهولةً في السوق لدرجة سيتوقف معها إنتاج الصخر الزيتي؟

نظراً إلى الانتعاش الاقتصادي العالمي البطيء ومعدلات النمو المنخفضة في شكل غير متوقع في الهند والصين، فإن انخفاض أسعار النفط يبدو أمراً أكيداً. مع تخفي نمو الطلب وراء زيادة الإمدادات، هل يمكن أن تصمد صناعة النفط الأمريكية أمام تقلبات الأسعار مع تحولها إلى صناعة تعتمد في شكل متزايد على أسعار عالية لتبقى مربحة؟

رغم انخفاض تكلفة إنتاج النفط في الشرق الأوسط، يستطيع عدد قليل من الدول الصغيرة في المنطقة التعامل مع انخفاض الأسعار إلى أقل من 100 دولار. تحتاج أغلبية الدول إلى سعر نفط يصل إلى 90 دولار أو أكثر لتغطية الإنفاق الحكومي الحالي، مع توقع صندوق النقد الدولي أن تعاني أغلبية الدول المصدرة للنفط في المنطقة عجزاً مالياً بحلول العام 2015 في حال انخفضت الأسعار انخفاضاً كبيراً. حتى عند سعرٍ يصل إلى 100 دولار للبرميل، من المتوقع أن يتباطأ الإنفاق العام في المنطقة. وقد نمت هذه البلدان بالاعتماد على ريع أرباح النفط العالية، منفقةً مبالغ ضخمة على دعم الطاقة في شكلٍ غير واقعي لتصل إلى المستهلكين المحليين ومسجلةً فشلاً في استثمار الأجيال المستقبلية.

حتى العراق، ورغم أنه يشهد أكبر ارتفاع في الإنتاج المحلي في المنطقة، فإنه يعاني عجزاً متزايداً أكثر من أي وقت مضى مع تخطي الإنفاق الحكومي للإيرادات الموسعة. بلغت ميزانية العام الماضي 119 مليار دولار، لتسجل زيادة هائلة وصلت إلى ستة أضعاف على مستويات الإنفاق في العام 2004، في حين يتوقع أن تنفق الحكومة ما يزيد عن 150 مليار دولار هذا العام. وبينما يبلغ إنتاج النفط في العراق أعلى مستوى له منذ عقود (3.5 مليون برميل يومياُ في فبراير، 2.8 مليون برميل منها تقريباً مخصصة للتصدير)، فإن زيادة الإيرادات تعتمد كلياً على ارتفاع أسعار النفط. إن أي انخفاض في الأسعار يعني أن العجز العراقي الذي يحوم على الدوام عند نحو 17 بالمئة من شأنه أن يخرج عن السيطرة. الأسوأ من ذلك هو أن تكاليف التشغيل في مجال صناعة النفط العراقية ترتفع أسرع من دخلها النفطي، تاركةً كميات أقل وأقل من الأموال للإستثمار الرأسمالي، الأمر الذي تبدو الحاجة إليه ماسة جداً لتحقيق التنمية الاقتصادية الحقيقية.

يهدد انخفاض حاد في الأسعار الإستقرار السياسي في معظم أنحاء الشرق الأوسط، بينما يقوض في شكلٍ محتمل صناعة النفط المتنامية في الولايات المتحدة. إلا أن الأسعار المرتفعة تشكل أيضاً تهديداً للإستقرار الإقتصادي العالمي. في 10 من أصل 11 حالة ركود في الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، وفقا لدراسة أجراها الاقتصادي جيمس هاملتون، سبق الركود الاقتصادي ارتفاع في أسعار النفط. وفوق كل شيء، تتداخل التقلبات المفرطة في الأسعار مع خطط الإنفاق الإستهلاكي واستراتيجيات الأعمال المنتجة على حد سواء.

حالياً، تحاول أوبك خدمة مصالحها الإقتصادية من خلال تنظيم السوق مع تحديد إنتاجها اليومي بثلاثين مليون برميل، في ما تؤدي المملكة العربية السعودية دور المنتج البديل. والسؤال هو إلى متى يمكن أن تحافظ المملكة على هذا الدور حين تواجه زيادة على الطلب في الداخل وعجزاً محتملاً في الميزانية. بينما يملك العراق القدرة على أن يكون منتجاً “متبقياً” في المستقبل، يبدو أن أفضل مسار للعمل يتجلى في الوقت الحالي في تعاون كل من المنتجين والمستهلكين الرئيسيين لتنظيم العرض والسعر.

لحماية أنفسهم من تقلبات الأسعار، عمد أعضاء وكالة الطاقة الدولية والعديد من المنتجين من خارج أوبك إلى تخزين احتياطيات الطاقة. نظراً لزيادة التقلبات في الأسعار بين عامي 2000 و2010 والاضطرابات التي لحقت بالجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط، تبدو الدعوة إلى التدخل في السوق للسعي إلى استقرار الأسعار أمراً ضرورياً. في حال تعاونت أوبك، أقوى اتحاد لمنتجي النفط، ووكالة الطاقة الدولية، أكبر مستهلكي الطاقة، فبإمكانهما تحقيق هذا الهدف. في يونيو 2011، على سبيل المثال، أصدرت وكالة الطاقة الدولية 60 مليون برميل من احتياطيات الطاقة رداً على انقطاع إمدادات النفط من ليبيا. ومع ذلك، ثمة حاجة إلى مزيد من التعاون بين المنظمتين معاً. معاً، تتمتع وكالة الطاقة الدولية ومنظمة أوبك بالقدرة على ابتكار نموذج تدخل مناسب يراعي المصلحة المشتركة التي قد يؤمنها استقرار الأسعار.

أن استقرار الأسعار يعود بالنفع على اقتصادات دول أوبك المعتمدة على النفط والمنتجين الأفارقة الكبار، لا سيما وأنه يحقق استقرار الدخل القومي، ويدعم خطط الإنفاق الحكومي الحالية، ويسمح للدول أن تخطط للمستقبل عن طريق إنشاء وتوسيع صناديق الثروة. يمكن أن تكون شركات النفط الدولية قادرة على اتخاذ وجهة نظر أكثر أمناً حول استثماراتها، داعمةً مشاريع طويلة الأجل في تطوير البنية التحتية وإنتاج الطاقة. في الواقع من شأن ذلك أن يزيل المضاربة من السوق.

ومن شأن سعر مستقر عند 100 دولار للبرميل أن يعطي بعض اليقين في السوق ولسياسات الطاقة العالمية. قد تترك الأسعار عند هذا المستوى أيضاً آثاراً جانبية إيجابية على النظام العالمي للطاقة: فمن شأنها أن تشجع تطوير مصادر الطاقة البديلة مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية، وأن تعزز زيادة كفاءة استخدام الطاقة، وأن تشجع الشركات النفطية الكبرى للاستثمار في تقنيات أكثر كفاءة وفي مواقع أكثر بعداً.

وخلافاً للحكمة المتعارف عليها، فإن من شأن أسعار النفط الأكثر انخفاضاً أن تؤذي الرخاء الاقتصادي في الولايات المتحدة والدول الرئيسية المنتجة للنفط، ومعظمها من الدول النامية الأكثر عرضة للتأثر بجوانب تقلبات أسعار النفط الضارة، والتي كانت السبب في تباطؤ نموها الاقتصادي حتى يومنا هذا. قد يقول النقاد أن أسعاراً مرتفعة ومستقرة مماثلة من شأنها أن تبطئ النمو الاقتصادي والانتعاش، إلا أنها على المدى الطويل ستفعل الكثير للتخفيف من جوانب الطفرة والكساد للدورة الاقتصادية، وللحد من مخاطر استثمار الرأسمال المستقبلي الضروري. إنّ بناء الانتعاش الاقتصادي على طاقة رخيصة بشكل غير واقعي يعرّض النظام لفشل أكبر عندما يشهد صدمات الأسعار لا مفر منها. إنّ ما يحتاج إليه الاقتصاد العالمي هو أسعار مستقرة ومستدامة من شأنها أن توفّر أساساً للتخطيط الفعال.