Commentary

Op-ed

لا بد من صون الصحافة الموثوقة الحرة في العراق

شكّل العراق أحد أكثر الأماكن خطورة بالنسبة للصحفيين منذ تحريره في العام 2003. لقى العديد من الصحفيين حتفهم وهم يزاولون مهنتهم النبيلة التي غالباً ما عرّضتهم للخطر في كل مرة أزعجت تقاريرهم إحدى المجموعات السياسية أو المسلحة. وهنا، لا بد أن نشير قبل كل شيء أنّ حرية التعبير يجب أن تكون محمية في العراق وأنّ كافة أنواع التهديدات التي يتعرض لها الصحفيون مستهجنة، ويجب على الحكومة العراقية أن تتخذ إجراءات جدية ضد أي مجموعة أو كيان مسلح يشكّل خطراً على الصحفيين.

في المقابل، يجب علينا أيضاً أن ندعو الصحفيين لأن يضعوا أخلاقيات المهنة قبل أي اعتبارات أخرى وأن يمارسوا عملهم دون تشويه الحقيقة أو التطاول على أية مجموعة أو كيان. وكما أنّ حرية الصحافة مقدسة في البلدان الديمقراطية، كذلك هو نقل الأخبار المسؤول الذي يقوم على البحث المثبّت والخالي من الكلام الفارغ والتحليل المنحاز والعداء تجاه أي جماعة أو حزب.

إنّ مغادرة نيد باركر العراق، مدير مكتب وكالة رويترز للأنباء في بغداد، هو مثال على ذلك. فقد أعلنت رويترز أنّ باركر “غادر العراق بعدما تلقيه تهديداً على موقع فيسبوك، وتعرضه لانتقادات من قناة تلفزيونية تابعة للقوات الشيعية شبه العسكرية، قناة العهد الفضائية، رداً على تقرير نشرته رويترز الأسبوع الماضي حول تفاصيل عن عمليات إعدام خارج إطار القانون ونهب في مدينة تكريت”. في حين أنه يجب أن يؤخذ أي تهديد على محمل الجد، إلا أنه من الصعب القول إن ما قاله مقدم البرنامج الساخر يمثل تهديداً للسيد باركر أو لرويترز. لو راجعنا المقطع المعني من الحلقة، لتبيّن بوضوح أنّ مقدم البرنامج وجيه عباس كان يقرأ طلباً منشوراً يطلب من الحكومة العراقية طرد السيد باركر لأنه “يكتب مقالات للرأي العام الغربي تشوِّه صورة وحدات الحشد الشعبي”. ثم يقرأ حرفياً بريداً إلكترونياً وصله بشأن رويترز من عراقي يعيش في الولايات المتحدة دون أي تعليقات تحرّض على العنف ضد الوكالة أو رئيس مكتبها. وفي مقابلة معه، قال السيد عباس للمؤلفين إنّه لم يهدد أحداّ وإنّ “كل ما فعلته هو قراءة الرسالة التي وصلتني تقول إنّ السيد باركر يساوي داعش بوحدات الحشد الشعبي، وطلبت من الحكومة ألا تقبل بذلك وأن تطرده، وهذا حقنا”.

لم نتمكن من الوصول إلى التهديد المنشور على فيسبوك والذي اقتبسته رويترز في مقالتها، وحاولنا الاتصال بالسيد باركر لمناقشة طبيعة هذا التهديد، ولكن لم نتمكن من الحصول على إجابة. في وقت لاحق، أجرى باركر مقابلة مع ناشونال بابليك راديو (NPR) ليشرح لماذا كان عليه مغادرة العراق، إلا أنّ هذه المرة ألمحت تصريحاته إلى إلقاء اللوم على خطاب رئيس الوزراء حيدر العبادي الأخير قبل توجّه هذا الأخير إلى العاصمة الأمريكية واشنطن، كما وأنه سلط الضوء على الاتهام من قِبَل قناة العهد لحشدها حملة ضده وضد كالة رويترز. ومع ذلك، كانت الحكومة العراقية متجاوبة جداً للتهديد المزعوم ضد السيد باركر ففرضت المزيد من الأمن على مكتب الوكالة المحصن وفتحت تحقيقاً في القضية. وبعد التفحّص الدقيق لبيان رئيس الوزراء العبادي ولبيان قناة العهد، لم نجد أي دليل على أي تهديد.

بينما نؤكد حقّ السيد باركر بفعل ما يراه الأفضل لضمان سلامته، نشير إلى أنه كان بالإمكان معالجة هذه المسألة بشكلٍ أفضل. وكان رئيس الوزراء العبادي قد وضع حرية الصحافة على رأس جدول أعماله ولطالما رحب بالصحافيين الذين اعتبرهم عينيه على الأرض. لا شكّ أن ترك بغداد مع عنوان عريض يهدد حياة عدد كبير من الصحفيين الأجانب والعراقيين الذين تشتدّ الحاجة إليهم. يدرك أولئك الذين يعرفون العراق معرفةً حقة أن عنواناً رئيساً مماثلاً هو بمثابة هدية من السماء للبعثيين ولأنصار داعش لا سيما وأنه يضع مستقبل الصحافة الحرة على المحك. لا شكّ أن البعثيين سيعملون للقضاء على الصحفيين بهدف توجيه أصابع الاتهام نحو وحدات الحشد الشعبي – تلك القوة المحلية التي من دونها كانت بغداد لتكون عاصمة داعش منذ يونيو 2014. ووحدات الحشد الشعبي هي قوة محلية أشادت بها الحكومة العراقية، والأمم المتحدة ونائب الرئيس الأمريكي جو بايدن، والمجتمع الدولي، بينما لا يزال عدد من الصحفيين يشير إليها بالقوة “المدعومة من إيران”؛ قوة وطنية تكبدت آلاف الإصابات منذ هجوم داعش حتى من دون الحصول على أي رواتب.

ليس سرٌ على أحد أن إيران تؤمّن الدعم العسكري للعراق، تماماً كما تفعل الولايات المتحدة، بينما تُظهر استجابةً أكبر لصدّ خطر الإرهاب الذي تطرحه داعش. ولكن اتهام المجموعات الشيعية المسلحة كافةً بالاعتماد على الدعم الإيراني ليس إلا ضرباً من الخيال، في حين أن الحشد الشعبي ، يتألف من أغلبية شيعية ، إلا أنه يضمّ عشائر سنية ومسيحيين ويزيديين وعرب وتركمان، ولا تزال هذه القوة المحلية ترحب بمتطوعين لمحاربة داعش، علماً أنها تخضع للحكومة العراقية. إيران هي دولة تتشارك بأكثر من 1400 كلم من حدودها مع العراق، وآلاف السنين من التاريخ والثقافة، و40 بالمئة من موارد نهر دجلة المائية، وكلها أسباب تأتي ضمن لائحة طويلة من الأسباب التي تحتم قيام علاقات سليمة بين العراق وإيران مقابل ما يفضله مروجو الحرب الذين يتجرأون على تصنيف معظم العراقيين الشيعة بأنهم إيرانيون من دون معرفة الكثير عن توجهات العراقيين الشيعة على الصعيدين الاجتماعي والسياسي. خلافاً للولايات المتحدة التي تتشارك القليل مع العراق، رغم أنها أدت دوراً فعالاً لإنهاء 23 عاماً من الظلم ودعمت إعادة بناء العراق وجيشه؛ كذلك هي إيران، التي تسعى إلى إنقاذ علاقاتها مع الولايات المتحدة، وربما استعادة دورها كحليف إقليمي للولايات المتحدة ما إن تنتهي العقوبات المفروضة عليها.

إننا ندرك أن آراءنا هي خارج الطيف المألوف للباحثين في الشأن العراقي. فمنذ المقال الذي نشرناه حول فتوى آية الله السيستاني، والذي وضحنا فيه المعنى لهذه الفتوى وكيفية استخدام السلطة الدينية العليا في العراق (المرجعية) كأداة لدعوة العراقيين للذود عن العراق، أشار إلينا الفريق الذي يصف هذه الفتوى بأنها مدعومة من إيران وذلك لحشد الشيعة ضدّ السنة بأننا مناصرين لإيران. على موقع تويتر يكثر المتصيدون الذي يدعون أنهم “خبراء” يختارون تغريدات باحثين مختصين في مجالهم لمهاجمتهم، بينما يميل صحفيون سطحيون وباحثون سيئون إلى استخدام خطابهم كأساس لمنشوراتهم. أما الجزء الأخطر فهو أن بعض صناع القرار والساسة الذين يستخدمون هذه المساهمات “الفكرية” كأساس لإعلام السياسة الخارجية والأمن القومي. وهذه كارثة.

يواجه العراق خطراً غير عادي من مجموعة إرهابية عابرة للحدود، مدعومة وممولة من عددٍ من اللاعبين الإقليميين، بينما لا تزال البلاد تعاني من تدخل بعض القوى الأجنبية التي اعتادت استخدام العراق كساحة المعركة لتصفية الحسابات والخلافات. إلا أنّ الإعلام الدولي لا يزال يحكم على ديمقراطية العراق الناشئة وكأنها قديمة النشأة ويتوقع انتعاشاً وازدهاراً أسرع في السنوات المقبلة بعد نصف قرن من الدكتاتورية العسكرية والتي خضعت بمعظمها لحكم البعثيين. رغم ذلك، يميل الصحفيون وعدد كبير من محللي السياسة الخارجية إلى تجاهل البعد التاريخي الذي أثّر على الديمقراطيات الراهنة بعد الصراع الأخير، كضرورة فعلية من شأنها أن تساعد العراق على استعادة عافيته، بينما يرسمون مستقبلاً مرعباً لبلدٍ قام لتوّه من أعباء الماضي.

أما على مستوى الحريات، ورغم أنّ الديمقراطية في العراق لا تزال في مراحلها الأولى وفي مراحل متأخرة جداً بالمقارنة مع الديمقراطيات الغربية، إلا أنها تسبق بأشواط معظم دول الشرق الأوسط.