Commentary

Op-ed

كيف ستؤثر ثورة الياسمين التونسية في العالم العربي؟

انطلقت الانتفاضة التونسية كاحتجاج تلقائي ضد انتشار مشكلة البطالة وتبخر توقعات الشباب في مجتمع ترتفع فيه نسبة التعليم وتنمو فيه الطبقة المتوسطة. وخلال أقل من شهر، اكتسحت موجة الاحتجاجات التي شهدتها الشوارع التونسية أحد أكثر الأنظمة قمعية في المنطقة ليصبح فصلاً من فصول التاريخ، وذاعت صدى هذه الاحتجاجات وانتشرت صورها انتشار الحريق في الغابة لاسيما في ظل توافر الوسائل والتكنولوجيا الحديثة مثل مواقع التواصل الاجتماعي والهواتف الجوالة والقنوات الفضائية، فتحولت إلى وسيلة لإدانة نظام ديكتاتوري فاسد وإلى مطالب بالحرية والديمقراطية. وهنا يبرز العديد من الأسئلة، ومنها: هل يمكن أن يتحقق الانتقال السلمي إلى الديمقراطية؟ وهل ستحقق الأحزاب الإسلامية نفوذاً كبيراً في النظام السياسي؟ ولكنني أركز هنا بشكل رئيس على التعقيدات التي تحملها هذا التطورات في طياتها بالنسبة للدول الأخرى في العالم العربي مثل الجزائر، ومصر، والأردن، والمغرب، وسوريا.

العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي وقفت وراء هذه الانتفاضة هي من ضمن القواسم المشتركة الهامة بين تونس والدول الأخرى، فتعيش المنطقة برمتها حالياً عهداً هو عهد نمو الفئة الشبابية من السكان والتي يتراوح عمرها بين 15 – 29 سنة، ولم يسبق مثيل له في تاريخ النمو الديمغرافي بالمنطقة، وبدوره فرض هذا النمو الديمغرافي الشبابي ضغوطاً على منظومة التعليم وأسواق العمل، وازداد الطين بلة في ظل انهيار النموذج الاقتصادي الذي كفل، أساساً، بالوظائف في الجهاز البيروقراطي وقطاعات الدولة لكل شخص حصل على شهادة جامعية، وحتى الثانوية العامة في بعض الحالات. ولم تؤد السياسات القائمة منذ زمن طويل والتي تم الشروع في تطبيقها في الستينات إلى انتفاخ الجهاز البيروقراطي فحسب بل أسهم أيضاً في صياغة نموذج التعليم الذي حصل عليه الملايين – وهو تعليم اهتم بالحصول على الشهادات الرسمية التي لا بد منها لشغل وظائف حكومية بدلا من التركيز على تطوير وتنمية مهارات إنتاجية يتطلبها الاقتصاد في عصر العولمة الذي يتنامي فيه دور القطاع الخاص، وعندما بلغت نتائج هذه السياسات ذروتها في عقدي الثمانينات والتسعينات توقفت الحكومات عن توظيف الأفراد تماماً، فاكتشف الشباب أن الشهادات العلمية التي حصلوا عليها لا تساوي شيئاً وليست لها أدنى قيمة، إلا أنهم ظلوا متمسكين بتوقعاتهم العالية ليحققوا لأنفسهم مكانة الطبقة المتوسطة في المجتمع وذلك من خلال الحصول على الوظائف الرسمية، وعندما اتضح وبشكل متزايد أنه لا يمكن أن تتحقق هذه التوقعات على أرض الواقع فظهر لديهم شعور بالغضب والإحباط، ورغم أن تونس تمكنت من تحقيق معدل نمو أعلى ونشاط اقتصادي أكبر نسبياً مقارنة بالدول المجاورة لها، إلا أن ذلك لم يسعف لتلبية توقعات الشباب التونسيين.

ولا شك أنه، وبجانب الشعور بالإحباط والغضب السائد في أوساط الشباب، تم استخدام تكنولوجيا المعلومات الحديثة بغية نشر الأخبار والصور نشراً سريعاً والمساعدة في تنظيم الاحتجاجات في الشوارع، الأمر الذي كان له الأثر الأكبر في إنجاح ثورة الياسمين. وإن هذا العامل الأخير متاح بوفرة في أنحاء العالم العربي الأخرى في ظل شيوع استخدام الهواتف الجوالة والقنوات الفضائية في كل مكان بالمنطقة ورواج خدمة الإنترنت رواجاً متزايداً وسريعاً. إلى ذلك، لعبت مواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيس بوك وغيرها دوراً كبيراً في تهيئة الأجواء لظهور الاحتجاجات والحركات الاجتماعية السابقة بالمنطقة، مثل حركة “6 نيسان” الشبابية في مصر والتي قامت بتنظيم الاعتصامات والاحتجاجات ضد ارتفاع أسعار المواد الغذائية عام 2008؛ وما تلاها من ظهور المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، محمد البرادعي، كشخصية معارضة بارزة، وفي ظل التزايد المستمر في استخدام التكنولوجيا سيبقي المجال مفتوحا لظهور الحركات الاحتجاجية الجماهيرية ونموها دون الحاجة إلى الجماعات المنظمة مثل الأحزاب السياسية والنقابات العمالية. أما الأنظمة القمعية فإنها لم تتعلم حتى الآن كيفية التصدي لهذه الحركات الشبابية المدعومة بوسائل المعلومات والتكنولوجيا الحديثة.

وثمة قاسم مشترك آخر بين تونس والعديد من الدول العربية المجاورة لها، وهو وجود مزيج من القمع السياسي والفساد الذي يمارسه النظام والمحسوبون عليه، إلا أن تونس وفي ظل زين العابدين بن علي كانت مختلفة عن الأنظمة العربية فيما يختص بشكل القمع الذي انتهجه النظام وطبيعة الفساد الذي استشرى فيه. وخذ مثالا على ذلك أن النظامين المصري والجزائري استطاعا قراءة مؤشرات ثورة المعلومات فاستنتجا أن من المستحيل تماما فرض القيود على حرية التعبير، فتوجه النظامان نحو السماح بنسبة أكبر من حرية التعبير والنقاش العام في الصحف المستقلة وجرائد المعارضة والقنوات التلفزيونية الخاصة (ومعظمها قنوات فضائية) وكذلك مواقع الإنترنت. وبينما لم تستطع تونس فرض سيطرة تامة على الوسائل الحديثة والوسائط الجديدة، إلا أنها حاولت الاستمرار في الحفاظ على القيود القمعية للغاية التي فرضتها على التعبير العام وحالت دون استخدام العامة أي مكان قد يساعدهم على تنفيس شعورهم بالإحباط من خلال اللجوء إلى انتقاد النظام، ولاسيما فيما يختص بأي شكل من أشكال التعبير الديني والتعبير عن الذات، فأصبح الشعب التونسي يفسر العلمانية المفروضة من قبل الدولة أنه نظام فاسد وقمعي، فازدراه وكرهه.

إلى ذلك، فإن فساد النظام التونسي يختلف إلى حدما عن فساد الأنظمة في الدول العربية المجاورة له. ومثال ذلك أن الفساد والمحسوبية شائعان في الجزائر ومصر والمغرب شيوعاً كبيراً، وتجني ثمارهما شريحة كبيرة من هذه المجتمعات حيث يتم توزيعها بين الطبقات المتوسطة لاسيما أولئك الذين لهم روابط بالجهاز البيروقراطي والقوات العسكرية والأمنية. وعلى عكس ذلك، الظاهر أن الفساد في تونس حصري لعائلة الرئيس وأقربائه الذين احتكروا الكثير من ثروات الدولة. أما الكثيرين من المصريين فعيتبرون الفساد شراً عليهم أن يتعلموا العيش معه، ولهذا لا يؤدي ذلك إلى إثارة نفس مستوى الغضب الذي أثاره الفساد المستشري في الأسرة الحاكمة في تونس.

وثمة فارق آخر بين تونس وجيرانها، وهو يكمن في دور القوات المسلحة في النظام السياسي. فيستند الجهاز القمعي التونسي أساساً إلى قوات الأمن الداخلي ووزارة الداخلية التي ظهر منها الرئيس زين العابدين بن علي نفسه، فيما بقيت القوات المسلحة التونسية صغيرة الحجم وفي معزل عن أمور السياسة. ولكن الأمر يختلف في كل من الجزائر ومصر وسوريا حيث تلعب القوات المسلحة ـ خلف الكواليس ـ دوراً أهم بكثير في النظام السياسي وحيث أنها ـ وعلى عكس القوات المسلحة التونسية ـ قد لا تتردد في التدخل لقمع الاحتجاجات في الشوارع إذا شكلت خطراً للنظام.

ونظراً إلى أوجه التماثل والاختلاف بين تونس والدول العربية المجاورة لها، من المستحيل التكهن حول تأثير ثورة الياسمين في التطورات في الأماكن الأخرى بالمنطقة من عدمه، ويكفي القول بأن الأنظمة الاستبدادية في المنطقة تلقت الرسالة الواردة من تونس واضحة ومن الأكيد أنها لن تتقاعس عن إبداء ردة فعلها، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف يحدث ذلك؟ هل ستبدأ هذه الأنظمة بتطبيق إصلاحات ديمقراطية حقيقية لمعالجة الشعور بالإحباط والغضب في وسط سكانها؟ أم ستكتفي بإبداء نسبة أكبر من الخجل السياسي في وجه الإصلاحات الاقتصادية الملحة التي هي صعبة في الوقت ذاته لتواصل الاعتماد على أجهزتها الأمنية القمعية لسحق موجة الاحتجاجات المتنامية.