Commentary

Op-ed

العزل السياسي.. توجه طائش يهدد إنجازات الثورة الليبية

في المؤتمر الوطني لرابطة أهالي ضحايا مذبحة سجن أبو سليم والذي عقد في طرابلس في يناير، ريت المشرع الليبي عبد الوهاب محمد قايد يدافع بشدة عن القانون المقترح في البلاد “للعزل السياسي”.

القانون الذي وافق عليه البرلمان بشكل مبدئي سوف يحرم أي شخص ارتبط اسمه بنظام معمر القذافي من شغل أي مناصب حكومية في ليبيا، ولا يقتصر الحرمان على المناصب العليا في النظام وإنما يمتد أيضًا ليشمل الوظائف البيروقراطية العليا والمتوسطة في البلاد.

وفي القاعة الشعبية الكبرى في طرابلس التي عُقد بها المؤتمر، هتف أهالي الضحايا تأييدًا لعبد الوهاب محمد قايد داعين إياه للعمل على تمرير القانون.

لقد سمعت آراء مشابهة قبل يومين عند التحدث مع ثوار سابقين يحتجون أمام البرلمان. هم أخبروني أن قانون العزل السياسي يجب أن يتم اعتماده وفرض تنفيذه بحزم إذا كانت ليبيا تسعى لحماية الثورة وتنحية الفساد عن حكومة البلاد الجديدة.

ثوار ليبيا وأهالي ضحايا مذبحة أبو سليم مخلصون في جهودهم ولديهم نوايا طيبة لبناء ليبيا جديدة وإبعاد من شاركوا في نظام القذافي عن أي شكل من أشكال السلطة.

كانت المشاعر السائدة في قاعة الاجتماعات الشعبية وسط طرابلس متحمسة، حيث انخرطت أمهات الضحايا وشقيقاتهم في البكاء، في حين هتف الرجال قائلين “الله أكبر”. لقد جاءوا إلى المؤتمر بحثًا عن إجابات حول ما حدث بالفعل لضحاياهم الذين بلغ عددهم 1270 ضحية أُعدموا بلا محاكمة من قبل الشرطة السرية للقذافي.

قضى قايد 16 عامًا في سجن أبو سليم، وقال لصحيفة نيويورك تايمز في أكتوبر الماضي “لقد كبُرت في السجن”. قايد هو شقيق أبو يحيى الليبي الذي وصفه المقال بأنه “ألمع نجم في تنظيم القاعدة والرجل الثاني في القيادة” والذي قُتل بعد ذلك في هجوم بطائرة أمريكية بدون طيار في باكستان. قايد الآن عضو معتدل فى البرلمان الليبى، يناصر التسامح والتعددية؛ ويمثل الدفاع عن حقوق أسر ضحايا مذبحة أبو سليم جزءًا من رسالته.

وفيما يخص الثوار المحتجين أمام البرلمان الليبى، فقد أخذوا نصيبهم من المعاناة والألم تحت نير حكم القذافي؛ فإلى جانب قضائهم سنواتٍ طوال فى سجونه، تعرض كثير منهم إما للإصابة بجروح أو لفقد بعض أحبائهم فى آتون القتال من أجل الإطاحة بالقذافي. ويعتقد الثوار الآن أن مهمتهم هى الدفاع عن انتصارهم؛ وأن عليهم أن يحموا ليبيا من ثورة مضادة يرونها بداية لاختراق مؤسسات الدولة من جانب الموالين للقذافي.

إن هذه الرغبات الملحة في مساءلة الشخصيات البارزة فى نظام الحكم السابق، وفى بناء دولة ليبية تقوم على مبدأ الحكم الرشيد هى ما يدفع ويحرك تلك الدعوات المطالبة بإصدار قانون العزل السياسى. ومع ذلك ينبغي على مؤيدي القانون أن يكونوا حذرين؛ فالانقسام المجتمعي، وعدم الاستقرار، وإعادة تجميع وانتظام الموالين للقذافي قد يكون من بين التداعيات غير المقصودة التى قد تنجم عن هذا القانون بصورته المقترحة.

وعلى أنصار القانون أن ينتبهوا لعدم تكرار التجربة العراقية الخاصة “بالقضاء على بعثنة الدولة”؛ ففي محاولة للإطاحة بكل أعضاء حزب البعث الذى كان يتزعمه صدام حسين من ساحة الحياة العامة، دمرت السلطة الائتلافية المؤقتة عملية إعادة البناء في العراق، من خلال تهميش قطاعات واسعة من المجتمع وإذكاء نار الطائفية.

إن النتيجة الأولى والمباشرة لتطبيق قانون العزل السياسي الليبي قد تكون هي الدفع بالمسؤولين السابقين الأذكياء وذوى النفوذ — منهم من لديه إمكانية الانتفاع والتحكم فى الموارد الرئيسية — إلى الانضمام إلى قسم لا يستهان به من المجتمع الليبي غير راضٍ عن نتيجة الثورة.

كما أن هناك — فى الوقت الحاضر — نحو مليون لاجئ ليبي فى الدول المجاورة، لاسيما تونس ومصر، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من الأشخاص الذين أجبروا على الارتحال داخليًا فى جميع أنحاء ليبيا.

ولقد كان من أكثر الجوانب بشاعة فى الثورة الليبية أنها وصمت مدنًا بأكملها (من بينها سرت وبني وليد) وقبائل بأسرها ( من بينها قبيلة ورفلة) بأنها مناصرة للقذافي، ومن ثم استبعدتها من عملية إعاة البناء. إن تلك التكتلات الاجتماعية المهمشة من لاجئين ومرحلين وطوائف ومدنٍ منبوذة هي بمثابة قنبلة ولسوف يدفع قانون العزل السياسى مجموعة جديدة من المسؤولين السابقين الأقوياء إلى الانضمام لتلك الجماعات المستبعدة والمعزولة سياسيًا. ومعًا يستطيعون إعادة تجميع صفوفهم ليمثلوا تحديًا للثورة وللاستقرار فى البلاد.

إن المسؤولين السابقين الذين استهدفهم قانون العزل السياسى هم كذلك الأشخاص الذين يتسمون بالخبرة السابقة فى الحكم، وبالمعرفة اللازمة لكيفية الإدارة الفعلية للبلاد، بما فى ذلك التعليم الرسمى، والاقتصاد، والجوانب الإدارية والتنظيمية فى مجال النفط. إن ليبيا تعاني نقصًا فى عدد القضاة على سبيل المثال، ومعظم القضاة العاملين كان لهم دور ما في النظام السابق. ومن ثم فإن قانون العزل السياسي من شأنه أن يجعل ليبيا تعمل بقضاء مشلول، بكل ما يحمله ذلك من تداعيات مدمرة.

وعلى القدر نفسه من الأهمية، فإن قانون العزل السياسي هو بمثابة نظام دفاعى متعسف وعديم الكفاءة فى مواجهة الفساد. فالبيروقراطيون الفاسدون الذين لم يكونوا جزءًا من نظام حكم القذافى قد يكونون قادرين على شغل مناصب عالية فى الحكومة الجديدة، بينما قد يتم إقصاء أفراد مخلصين وأمناء ممن أجبروا على العمل مع النظام القديم لعدم وجود بديل آخر أمامهم.

إن الإحباط الذي يشعر به أهالي الضحايا والثوار غير مفهوم وليس له مبرر ويجب مواجهته وعلاجه، والحل الممكن لمظالمهم هو قانون للعدالة الانتقالية يستهدف أفرادًا بعينهم — وليس طوائف اجتماعية — بناءً على أفعالهم وسلوكياتهم خلال فترة حكم النظام القديم. وينبغي أن يحاسب القانون المقترح الأشحاص المتورطين فى جرائم فعلية، وليس لمجرد عملهم مع النظام القديم.

وبدلاً من قانون العزل السياسي، ينبغي أن يحشد الليبيون جهودهم لصياغة قانون كفء شامل وشفاف للعدالة الانتقالية. ومن شأن هذا القانون أن ينص على محاسبة هؤلاء الذين تورطوا فى تجاوزات ومخالفات فى ظل النظام السابق، بينما يسمح لجراح الضحايا أن تتعافى. وفي الوقت نفسه، فقد يتجنب هذا القانون المقترح مزيدًا من الانقسام في ليبيا وينقذها من صراع مرير وأليم آخر.