Commentary

Op-ed

الثورة المضادة للجهاديين في سوريا

في وقت مبكر صباح 3 يناير، اشتبك المتمردون السوريون مع جماعة الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) المتطرفة في معارك مكثفة في 5 محافظات من أصل 14، فاضطرّ مقاتلو جماعة داعش إلى الانسحاب مما لا يقل عن 28 بلدية متفرقة. حتى الآن، ضمّت القوات التي تحارب جماعة داعش المسيطرة على مناطق في إدلب، وحلب، وحماة، والرقة، ودير الزور أعضاءً من ثلاث جبهات متمردة – وهي جبهة ثوار سوريا المتميّزة بقوميتها إلى حد كبير، وجيش المجاهدين المعتدل إسلامياً والذي تمّ تشكيله مؤخّراً، والجبهة الإسلامية السلفية.

كان هذا تطوراً متوقعاً تماماً. على مدى الشهور الأخيرة، كانت حدة التوتر تزيد بين جماعة داعش ومختلف الجماعات المعارضة السورية ، وقطاعات واسعة من الشعب السوري. منذ ظهورها في سوريا في أبريل ومايو من العام 2013، أثبتت جماعة داعش معاييرها وأيديولوجيتها المتشددة في المناطق الخاضعة لسيطرتها. لطالما نظر السوريون إلى جماعة داعش على أنّها حركة وصولية تتصرّف بشكل فردي. فقد أثبتت بشكلٍ متزايد عدم رغبتها بالعمل جنبا إلى جنب مع تشكيلات متعددة الأطراف موجودة مسبقاً وتمّ إنشاؤها من أجل تنسيق العمليات ضد الحكومة، وإدارة حكم فعّال للمعارضة على الأراضي “المُحرّرة”، وتسوية النزاعات القانونية.

لو أخذنا النكسة لنفوذ جماعة داعش، التي ألحقتها الجهود المتضافرة، فهي تُعتبر خطوة إيجابية. للمرة الأولى منذ عدة شهور، يبدو أنّ المعارك الأخيرة ضد جماعة داعش جمعت ما بين القوميين، والعلمانيين، والإسلاميين، والسلفيين تحت راية واحدة. أخيراً، يفرض السوريون سيطرتهم على ثورتهم. ومع ذلك، فإن ظهور هذه الجبهة الجديدة يضيف عنصراً آخر من التعقيد إلى هذا الصراع الذي لا ينفكّ أن يتغيّر. سؤالان شائكان يطرحان نفسهما: من المستفيد من نكسة جماعة داعش، وكيف ستتكيّف جماعة داعش مع الوضع الجديد؟

من المستفيد؟

جبهة النصرة – كونها الجماعة الرسمية التابعة لتنظيم القاعدة في سوريا (لم يعد يُعترف بالدولة الإسلامية في العراق التي أتت قبل جماعة داعش على أنّها تتبع لتنظيم القاعدة منذ العام 2007، بحسب بعض التقارير)، صوّرت الجبهة نفسها بدهاء كوسيط خلال المعارك الأخيرة. ففي حين أعلنت المجموعة ظهورها في سوريا في أواخر شهر يناير 2012، تشير الدلائل اللاحقة أنها كانت نشطة شكلياً على الأقل في سوريا منذ صيف العام 2011، عندما قدِم زعيم جبهة النصرة أبو محمد الجولاني والعديد من زملائه السوريين في الدولة الإسلامية في العراق إلى سوريا لتأسيس جماعة مسلحة. ركّزت الجبهة في عملياتها في الأشهر الستة الأولى على تنفيذ سلسلة تفجير سيارات تخلف إصابات جماعية في المناطق “الحضرية”، قامت في الفترة الممتدة بين منتصف وأواخر العام 2012 بتطوير عملياتها نوعياً حيث أصبحت قوة محترفة نفّذت هجمات بالاشتراك مع مجموعات مختلفة في شمال سوريا. لقد نفّذت الجبهة عملياتها في 13 محافظة سورية من أصل 14 حتى الآن، وكان من شأن قدراتها العسكرية الهائلة و براغميتها الدبلوماسية الثابتة أن تخوّلها أن تمثل جزءاً مقبولاً على نطاق واسع – ومحترماً بالطبع – في حركة التمرد المسلحة السورية.

وفي تسجيل صوتي صدر له يوم 7 يناير، دعا زعيم جبهة النصرة الجولاني لإنشاء “مجلس شرعي مستقل [يضمّ] جميع الفصائل بالإضافة إلى وقف لإطلاق النار”، لكنه لمّح ببراعة إلى أنّ جماعة داعش لم تفلح أبداً بالتعاون مع مثل هذه المطالب. ما يدعو للسخرية هو أنّه وفي حين كان لجبهة النصرة دورٌ صغير (في الغالب) في القتال ضد جماعة داعش، أصبحت عدد من البلديات تحت سيطرة جبهة النصرة الفعلية. وهكذا، على الأقل على المدى القريب، زاد مستوى نفوذها على الأرض في مناطق شمال سوريا. في المستقبل، من المرجح أن تصبح هذه السيطرة مشتركة مع جماعات محلية وأعضاء مجموعات أكبر وإسلامية تعمل في محافظات متعددة أو في جميع أنحاء البلاد في بعض الحالات.

كما واستفادت جبهة النصرة من سلسلة تصريحات أصدرها جهاديّون بارزون يدينون فيها جماعة داعش، مثال بارز على ذلك الدعوة التي أطلقها رجل الدين المتشدد أبو قتادة في 16 يناير – في حديثه خلال محاكمته في العاصمة الأردنية عمان – لجماعة داعش من أجل وقف عمليّات الخطف، وإطلاق سراح الرهائن، والأهم من ذلك، حل هيكليّاته وتصنيف نفسه ضمن قيادة جبهة النصرة. وفي وقتٍ لاحق من اليوم عينه، أدان مسؤول في تنظيم القاعدة ومن كبار قادة حركة أحرار الشام الإسلاميّة المخضرم أبو خالد السوري جماعة داعش على “جرائمها” خلال الجهاد في سوريا وأصرّ على أنّ جماعة داعش لم تمثّل بأيّ شكل من الأشكال تنظيم القاعدة، ولا زعيمه أيمن الظواهري، أو زعيمه السّابق أسامة بن لادن. (ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ الظواهري قام بتعيين أبو خالد السوري في منتصف العام 2013 كرئيس ينوب عنه ووسيط بين جبهة النصرة وجماعة داعش عقب ظهور الانقسام في سوريا في منتصف شهر أبريل 2013).

الجبهة الإسلامية – في حين بدا أن معظم القتال الأولي ضد جماعة داعش سيطر عليه جيش المجاهدين وجبهة المتمردين السّوريين (التي تشكلت في 9 ديسمبر 2013)، برزت الجبهة الإسلاميّة كلاعب محوري أكثر تحفّظاً. فبعد حوالي سبعة أشهر على إجراء المفاوضات، تم تأسيس الجبهة الإسلاميّة في 22 نوفمبر وتشكّلت من الوحدات الفردية السورية المتمردة والنّافذة – بما في ذلك حركة أحرار الشام، جيش الاسلام، لواء التوحيد، وصقور الشام. شُكّلت الجبهة الإسلاميّة لتمثل الاندماج الكلي للمجموعات السبعة (المجموعات الثلاثة المتبقية هي لواء الحق، كتائب أنصار الشام، والجبهة الإسلامية الكرديّة)، وتضمّ اليوم حوالي 60,000 مقاتل، ويمكن القول بأنّها تمثّل بحقّ حالياً أقوى تجمّع متمرد في سوريا.

وعلى الرغم من إنكار تورطها في القتال ضدّ جماعة داعش، فقد شاركت مجموعات الجبهة الإسلاميّة بشكلٍ مؤكّد في عمليات هجومية ودفاعية منذ 4 يناير. وفي 6 يناير، أكد بيان صادر عن المكتب السياسي التابع للجبهة الإسلاميّة على “أنّنا نقاتل كل من يهاجمنا وكلّ من يدفعنا إلى المعركة، سواء أكان سوريا أم أجنبياً” – في إشارة واضحة إلى جماعة داعش أو العناصر الأجنبيّة المقاتلة. دفع بروز الجبهة الإسلاميّة بطريقة بارزة للجميع إلى ملاحظة ضعف هيكلية الائتلاف الوطني السوري المدعوم من الغرب والمجلس العسكري السوري. وقد ساهم بشكل ملحوظ رفض الجبهة الإسلاميّة المطوّل بالاعتراف بشرعية المؤتمر الدولي المقرر في مونترو أو المشاركة فيه في تضعيف الهياكل السياسية المعارضة في سوريا في الفترة التي سبقت المحادثات. وعلى هذا النحو، أصبح دور الجبهة الإسلاميّة المحوريّ في الصّراع أكثر وضوحاً.

الرئيس الأسد – في حين أشارت تقارير الناشطين إلى وفاة أكثر من1,000 مقاتلٍ في الأيام الـ 13 الأولى من القتال، وقعت عدة مواقع، وتحديداً داخل مدينة حلب ومن حولها، تحت سيطرة الحكومة نتيجة الاشتباكات. ومن المفاجئ تراجع العمليات العسكريّة والقوات الجوية وشبه العسكرية في شمال سوريا وشرقها بشكل ملحوظ بعد 3 يناير. لم يكن على الحكومة ومناصريها فعل الكثير؛ فقد اكتفت بالوقوف ومشاهدة أعدائها ينقلبون على بعضهم البعض.

جماعة داعش في المرحلة الثانية

تكبدت جماعة داعش خسائر جسيمة في الأرواح وعلى الأرض خلال الأيام الأخيرة. إلا أنها ما زالت تقاتل منذ 6 يناير، بدأت جماعة داعش بنشر “انتحاريين” وسيارات مفخخة لاستهداف أشخاص ومواقع تابعة للجبهة الإسلامية و جبهة ثوار سوريا وجيش المجاهدين في شمال سوريا وشرقها. وفي تسجيل صوتي صدر في 7 يناير، هدّد المتحدّث الرسمي باسم جماعة داعش أبو محمد العدناني “بسحق” هؤلاء الذين يقاتلون ضدها وأعلن رسمياً الحرب على أي فرد أو مجموعة يشتبه في صلتهم بالائتلاف الوطني السوري أو بالمركز الإعلامي السوري. لم تترك كلمات العدناني، التي اختارها بدقة، المجال للخيال، فقال بوضوح: “اعلموا أن لنا جيوشاً في العراق وجيشاً في الشام من الأسود الجياع، شرابهم الدماء وأنيسهم الأشلاء، ولم يجدوا في ما شربوا أشهى من دماء الصحوات”.

وفي السياق الأوسع لصراع سيستمر لسنوات قادمة، فإن حقيقة أنّ معظم الجماعات المتمردة في سوريا التي أصبحت جماعة داعش عدوتها سيكون لها انعكاسات سلبية في المستقبل بلا شكّ. في العراق، أظهرت الدولة الإسلامية في العراق قدرة هائلة لاسترداد عافيتها، وللنمو، وللقتال بشكل أقوى عقب بروز ميليشيات الصحوة التي ساعدت الولايات المتحدة بإنشائها، أو الصحوة العشائرية السنية في منتصف القرن الماضي. ومن المرجح أن تشهد سوريا في المستقبل تكراراً لحملتها المحترفة من الاغتيالات والهجمات التي استهدفت قوات الأمن وعناصر ميليشيا الصحوات. وسوف يكون لحملة عسكرية تقوم بها جماعة داعش ضد الائتلاف الوطني السوري والمركز الإعلامي السوري داخل الأراضي السورية آثاراً ضارة على قدرة المتمردين المعتدلين للنجاح في هزيمة القوات الحكومية على المستوى المحلي والإقليمي، وعلى مستوى الوطني بشكلٍ عام.

الخاتمة

مع استمرار الاقتتال بين الفصائل في شمال سوريا وشرقها، تبدو جماعة داعش في وضع الهجوم المضاد على نحو متزايد. بحسب التقارير، هناك المزيد من الضحايا كل يوم. وفي الوقت نفسه، يتزايد الضغط داخل صفوف المعارضة السياسية السورية المدعومة من الغرب – الائتلاف الوطني السوري – لحضور محادثات السلام السورية في 22 يناير الجاري في مونترو، على الرغم من أن مصير هذه المحادثات سيبوء بالفشل. ما زال موقف أغلبية كبيرة من المتمردين على الأرض معارضاً للمحادثات ويبدو أنّ الائتلاف منقسماً بشكل كبير حول مسألة المشاركة في هذه المحادثات.

المضحك المبكي في الأمر هو أنّ استمرار الغرب بالضغط على الائتلاف الوطني السوري من أجل حضور محادثات السلام أدى بشكل مباشر لتقويض بنية المعارضة التي تودّ صراحةً أن تعزّزها. إنّ الائتلاف في شكله الحالي بالكاد له أي تأثير على التطورات على الساحة السورية، ومن المستبعد جداً في هذه المرحلة أن تسفر محادثات 22 يناير عن أي نتيجة إيجابية ملموسة. لا طالما اشتكت المعارضة العسكرية – التي تتألف من قوميين وعلمانيين وإسلاميين، وسلفيين – أنها لا تشعر بأنها ممثّلة ضمن التشكيلات السياسية المعارضة، على الرغم من كونها أساسية في مستقبل الصراع أو السلام في سوريا. بالتالي، فإن الفرصة الفضلى لتحقيق تقدم ملموس تكمن الآن في التشجيع على تشكيل بنية معارضة جديدة بتمثيل أكبر، تتضمن جميع المجموعات السورية المعلنة والتي تكون جديرة وعلى استعداد للمشاركة.

لن تذهب جماعة داعش إلى أي مكان، ولقد بدأت معركة مضادة مشتركة. إلا أنّ التطورات الأخيرة أعطت حقنةً من الطاقة والحماس لصفوف المعارضة المسلّحة السورية الأكثر اعتدالاً، كما وأنها ساهمت في جذب عناصر ضمن تشكيلات أكثر تعصباً إلى صفوف المعارضة.