Commentary

طبيعة النّظام الدّولي المتغيّرة ودور الولايات المتّحدة الأمريكيّة

U.S. President Donald Trump boards Air Force One after his summit with North Korean leader Kim Jong Un in Singapore June 12, 2018. REUTERS/Jonathan Ernst - RC13889AA630

نظّم مركز بروكنجز الهند طاولة مستديرة مع بروس جونز، نائب الرئيس ومدير قسم الدراسات السياسيّة الخارجيّة في معهد بروكنجز في واشنطن، لمناقشة طبيعة النّظام الدّولي المتغيّرة ودور الولايات المتّحدة الأمريكيّة. وفي حين أُجريت المناقشة تحت قاعدة تشاتام هاوس، تجدون أدناه النقاط الأساسية التي تمّ التوافق عليها.

يعتبر الكثيرون أنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لا يتسبّب في إحداث تحوّلات ملحوظة في النّظام الدّولي، بل في تسريعها. ففي السياسة الخارجيّة، يبدو أنّ لترامب وجهة نظر عالميّة واضحة ومحدّدة، ترتكز إلى تشكيك متأصّل في نظام التحالف ما بعد الحرب العالميّة الثانية وفي النّظام المتعدّد الأطراف. لكنّه لا يبدو أنّ فريق السياسة الخارجيّة التابع له يشاطره وجهة النظر العالميّة هذه دائماً، وقد لا تمثّل خطاباته بالتالي سياسات إدارته فعليّاً.

فمن أجل فهم ترامب، يجدر بنا أن نذهب أبعد من خطاباته وتصريحاته المبالَغ فيها وأن نراقب أوجه التقاطع ما بين وجهات نظره العالميّة والوجهات الخاصّة بفريقه من المستشارين المقرّبين. ونلاحظ أنّ هذا التفاعل ما بين ترامب وفريق السياسة الخارجيّة التابع له يحدث بطرقٍ وبمسائل وبمجالات متباينة. ففي عدّة مناطق، مثلاً، لطالما اتّسقت سياسات ترامب مع إطار السياسة الخارجيّة التقليدية للجمهوريّين إلى حد كبير في مسائل عدّة، كالشرق الأوسط وآسيا. وحتّى في ما يتعلّق بالمسائل العالميّة، كالانسحاب من اتّفاق باريس للمناخ ومن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتّحدة، لم يبتعد ترامب كثيراً عن نطاق السياسة الخارجيّة المتحفّظة التقليديّة. فالابتعاد الحقيقي عن موقف الجمهوريين التقليدي يكمن في المجال التجاري بصورة أساسيّة.

وفي ما يتعلّق بآسيا، على الرغم من خطابات ترامب، استطاع فريق السياسة الخارجيّة التابع له تطبيق رؤيته العالميّة الخاصّة التي تستند إلى موقف دفاعي أمريكي قوي في المنطقة. فقد زادت بالفعل الموارد المخصّصة للقدرات الدفاعيّة الأمريكيّة في آسيا. أمّا العامل الأساسي المهمّ هنا، فهو الارتياب العميق ضمن المجتمعات الاستراتيجيّة والسياسيّة والاقتصاديّة الأمريكيّة في الصين والتردّد المتنامي في مواصلة التعاون معها. وبالتالي، ستتميّز العلاقة الأمريكيّة-الصينيّة لاحقاً وعلى نحوٍ مطّرد بالتوتّر والتنافس والخصومة.

أمّا في أوروبا، على الرغم من وجهة نظر ترامب العالميّة الرافضة للتحالف ومن الشكّ الجوهري الذي يساوره بشأن الاتّحاد الأوروبي وحلف الناتو، استطاع فريقه أن يفعّل إعادة نشر القوات في الشرق وزيادة الأسلحة في أوكرانيا وفرض العقوبات على روسيا. ومع أنّ ترامب أبدى استعداده للتّعاون مع بوتين، يرفض الديمقراطيّون والجمهوريّون بشكل موحّد أيّ نوع من التنازلات لروسيا. وعليه، فإنّ فريق السياسة الخارجيّة التابع لترامب مستعدّ لتطبيق السياسات التي تتماشى مع وجهة نظر الجمهوريين العالميّة التقليديّة وقادر على ذلك، متجاهلاً بالتالي الأجندة الخاصّة بترامب.

في الواقع، إنّ الشرق الأوسط هو المسألة الوحيدة في السياسة الخارجيّة التي تتقارب فيها وجهات نظر ترامب وفريق الأمن القومي التابع له. وتجدر الإشارة إلى وجود توافق ساحق في المجتمع الاستراتيجي، الذي يسيطر عليه المحاربون العسكريّون القدامى من مختلف الحروب الإقليميّة، على أنّ الكثير من المشاكل التي تشهدها المنطقة يمكن أن تُعزى إلى إيران وعلى ضرورة مواجهة طهران واحتوائها. ويعتقد البعض أيضاً أنّ إسرائيل تحتاج إلى تأمين حمايتها مهما كان الثمن.

ولترامب كذلك وجهة نظر عالميّة مميّزة حقّاً حول التجارة، وقد استطاع إيجاد فريق يشاطره وجهات نظره الحمائيّة. ونلاحظ بالتالي أنّ خطاب ترامب يترجَم فعليّاً إلى السياسة في المجال التجاري: قد تكون رؤيته في التجارة واقعيّة سياسيّاً، إلّا أنّها غير معقولة من الناحية الاقتصاديّة بفعل الطبيعة المترابطة لسلاسل التوريد العالميّة. وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن ترامب استفاد من ميول الرأي العام الأمريكي الرجعيّة لغايات سياسيّة، مع الآثار المهمّة المترتّبة على النّظام التجاري الدّولي. ولا بدّ من الذكر أنّ الصين تتحدّى الزعامة الأمريكيّة لِما بعد نظام الحرب العالميّة الثانية، معتمدةً مقاربة تبادليّة وتجاريّة بحتة. ففي حين تحاول الصين تأكيد زعامتها في هياكل متعدّدة الأطراف، لا تشترك في القيم الليبراليّة التي أسّست هذه الهياكل. وما يعقّد هذا الوضع هو انتماء الولايات المتّحدة الأمريكيّة والصين إلى هيكل اقتصادي مشترك، على الرغم من كونهما منافسيْن استراتيجيّيْن.

ونحن نشهد الآن بالتالي قطبيّة ثنائيّة غير متناظرة في النّظام الدّولي الذي لم تتساوَ فيه الولايات المتّحدة الأمريكيّة والصين بعد من حيث السلطة، إلّا أنّه يبدو جليّاً أنّ الصين تشكّل ثاني أقوى سلطة، مع العلم أنّ مسافة كبيرة تفصل ما بينها والدول الأخرى التي تتبعها. ويبدو حقّاً وجود هيكل متعدّد الأقطاب حول الصين والولايات المتّحدة الأمريكيّة، مع تكافؤ تقريبي في ما بين دولٍ كألمانيا وفرنسا والهند واليابان وروسيا وغيرها. وتحاول هذه الدول، كلٌّ في نطاقها، حماية مواقفها في مواجهة الولايات المتّحدة الأمريكيّة والصين. والجدير بالذّكر أنّ غياب الهيكل الأمني الذي يمكنه احتواء صراع القوى العظمى بشكل وافٍ وتمثيل مصالح كلّ القوى المعنيّة هو ما يعقّد هذا السيناريو. وعليه، يتعيّن على المجتمع الدّولي أن يحدّد مفهوم هيكل أمني جديد وينفّذه من دون أن يخضع لسيطرة مؤسّسات كمجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة، أو كُتلٍ يتزعّمها الغرب كحلف الناتو. فهذه كلّها لا يمكنها أن تفلح في احتواء توتّرات القوى العظمى: إنّ الهيكل الأمني الدّولي النموذجي سيشمل القوى الصاعدة والبنّاءة، ممّا سيخفّف من حدّة صراع القوى العظمى.