Commentary

هل تسعى تركيا، تونس ومصر إلى تفكيك الدولة الإسلامية؟

لم يكن إقدام الحكومة التركية على قطع الأشجار من حديقة جيزي في اسطنبول أكثر ما استفز المحتجين وأثار سخطهم إنما كان الخطة التي أعلن عنها رئيس الوزراء أردوغان هذا الشهر والتي تقضي ببناء مسجد يتسع لحوالي 1500 شخص في ساحة تقسيم. خلافاً للنزاعات الأخيرة بشأن المساجد بالقرب من مركز التجارة العالمي في نيويورك أو على مقربة من كاتدرائية كولونيا في ألمانيا، لا يتناول المتظاهرون في اسطنبول حقّ المسلمين في بناء دور عبادة، فدافعو الضرائب الأتراك الذين يطالبون بإلغاء هذه المساجد يعبرون عن رغبتهم بالتحرر من دولة الدين.

يُعتبر مسجد تقسيم واحداً من ضمن ستمائة مسجد تنوي الدولة التركية بناءها هذا العام، ومن ضمنها مسجد في اسطنبول يضاهي حجمه حجم ملعبٍ رياضيٍ وهو بناءٌ سيتميز بأطول مئذنةٍ في العالم. يصرّ رئيس الوزراء أردوغان أنه لا يحتاج إلى إذن المتظاهرين أو الحزب المعارض، وأنه على حقّ. وقد قضت محكمة محلية أن المنطقة تفتقر إلى مساحة كافية لإقامة الصلاة ووافقت الوزارات المعنية على التصميم، وبالتالي لا ضرورة لأي نقاش.

إنه النقاش ذاته الذي اعتاد أردوغان أن يرحب به حين كان أحد وجوه المعارضة، والذي يمكن أن يكون بداية جدال أكبر لطالما تجنبه المواطنون في تركيا وشمال أفريقيا منذ أن اقتحمت الأحزاب الإسلامية الحكومات في السنوات الأخيرة. ما مصير الإسلام الرسمي في النظام السياسي الناشئ؟

لم تخطط الأحزاب الإسلامية الحاكمة اليوم في تركيا وتونس ومصر لدولة ترعى الإسلام. فقد ورثت عن أسلافها الذين حظيوا بدعم الجيش مجموعة واهية من المؤسسات والخدمات. على مدى ستين عاماً مضت، استخدمت السيطرة المدنية على الدين لتعزيز الهوية الوطنية ومواجهة تأثير الإخوان المسلمين والمبشرين والجماعات السياسية التي اعتبرت مثيرة للفتنة. وغالباً ما يعني ذلك الأسلاف الأيديولوجيين الذين يحكمون الأحزاب الإسلامية اليوم. فعلى سبيل المثال، بني حوالي ثلث المساجد التركية البالغ عددها 82 ألف مسجد في الثمانينيات في حين أن حزب العدالة والتنمية الذي يرأسه أردوغان لم يشرف إلا على بضعة آلاف مسجد شُيّدت مؤخراً.

على غرار الكنيسة الوطنية المؤسَسة، ترمي “دولة الإسلامية” في تركيا وفي معظم منطقة شمال أفريقيا إلى تنظيم مختلف جوانب روحانية المواطنين الشكلية. تدير طائفة كبيرة من موظفي القطاع العام المساجد والصلوات والمواعظ وخدمات دورة الحياة والتعليم الديني وكليات اللاهوت والتفسير الديني عن طريق مجالس علماء الدين. مع رحيل القادة العسكريين العلمانيين الأقوياء من المنطقة، يمكن أن نفترض اقتراب أجل هذا الجهاز القمعي المكلف. إلا أن ما حصل كان العكس تماماً.

في تركيا، اقترح أول شخصٍ يعينه رئيس الوزراء أردوغان لرئاسة الشؤون الدينية الحدّ من تدخل الدولة المباشر في حياة المواطنين الدينية، إلا أن سرعان ما تمّ إقصاء هذه الفكرة ووضعها على الرفّ. عوضاً عن ذلك، تضاعف إنفاق الحكومة على الشؤون الإسلامية بمعدل أربع مرات ليصل إلى 2.3 مليار دولار – أي أكثر من 1% من الميزانية الوطنية. وينتمي 40% من مجموع وظائف الخدمة المدنية التي أنشئت حديثاً إلى البيروقراطية الدينية، ويشكل موظفوها اليوم البالغ عددهم 121 ألف موظف حوالي 6% من مجموع موظفي الدولة التركية.

وعلى نحو مماثل، عززت كل من الحكومات الإسلامية وغير الإسلامية في مختلف أنحاء شمال أفريقيا وقوّت الدولة الإسلامية في خلال العقد الماضي – قبل الربيع العربي وبعده. سيطرت الحكومة التونسية الجديدة بسهولة على المؤسسات التي أخلتها من كوادر النظام القديم في العام 2011 ووظفت أعداد إضافية من أساتذة الدين والشريعة والأئمة. هذا العام، اعتقل وزير الشؤون الإسلامية المحافظ الدعاة غير الحائزين ترخيصاً وأدان الفتاوى الدينية القادمة من الخارج، وادعي أنه أعاد فرض سيطرة الدولة على حوالي 5000 مسجد في البلاد بعد سنوات الفوضى التي سادت المرحلة الانتقالية.

لماذا تبنى الإسلاميون بإخلاص شديد جهازاً وجدوه منذ بضع سنوات كريهاً جداً؟ في الواقع، اكتسبوا بفعل استلامهم الحكم منظوراً جديداً، فقد بات لهم اليوم ثورةً يدافعون عنها. تتخذ الأحزاب الحاكمة اليوم في مصر وتونس وليبيا موقع الضامنين في مواجهة السلفيين الراديكاليين – أعلن البعض منهم حرباً علنية حتى على العناصر الأكثر محافظة في الأنظمة الجديدة.

يحاكي التشابك مع الدين الرسمي أيضاً حالة الإسلاميين في ترتيبات تقاسم السلطة، كما هو الحال في المغرب، حيث لا تزال وزارة الشؤون الإسلامية واحدة من وزارات الملك السيادية التي يتمتع موظفيها البالغ عددهم 52 ألف موظف بالميزانية الأسرع نمواً في الحكومة إذ يخصص لهم مبلغ يساوي اليوم المبلغ المخصص للأسرة المالكة نفسها. علاوة على ذلك تم زيادة الميزانية المخصصة لتدريب الأئمة المغاربة عشرة أضعاف في السنوات الثلاث الماضية. وفي دولة الجزائر المجاورة حيث يسود خوف من الزحف السلفي، عمدت وزارة الشؤون الدينية إلى توظيف آلاف الموظفين الجدد سنوياً وحاولت إبقاء الأطراف السياسية خارج المساجد.

يعتبر بعض حروب العصابات الأيديولوجية ضرورياً لضمان الأمن القومي. قام السلفيون والقاعدة المرتبطون بالمتطرفين بتنفيذ عمليات اعتداء جسدي وأعمال إرهاب في كل من هذه الدول في خلال العام المنصرم. لكن الاحتكار الديني الذي حرصت حكومات ما بعد الربيع العربي على حمايته أدى أيضاً إلى حركات دينية غير عنيفة خارج الحياة المؤسسية وأضعف شرعية الدولة بحدّ ذاتها. وكانت النتيجة أن مارس بعض الصوفيين الأكثر تأثيراً اليوم السلطة ضمن نطاق منفصلٍ انفصالاً تاماً عن سيادة القانون. ولما كانوا لا يسجلون كمنظمات دينية أو أحزاب سياسية، بقيوا بمنأى عن المساءلة من قبل المؤسسات الديمقراطية.

في حال واصلت الدولة الإسلامية النمو من دون إصلاح نظامها الأساسي لتصبح أكثر شمولاً، ستحرم نفسها من الحقائق الاجتماعية والسياسية الهامة. ستبدو هذه الديناميكية غير الصحية مألوفة لأولئك الذين وصلوا أخيراً إلى السلطة بعد عقود كانوا فيها نكرة. إنهم يعرفون أن لا استدامة أو عدل في دعم احتكار الدولة للدين بينما لا تحظى الأقليات المسالمة بالقبول. أو على الأقل زعمت هذه الحكومات عينها أن هذه هي حالة المسلمين في أوروبا الغربية.

في حال عجزت الأنظمة الجديدة عن العثور على تركيبة أفضل لدين يحظى بدعم عام، فالتغيرات الاجتماعية المزدهرة ستجعلها واضحةً عاجلاً أم آجلاً فلا تستحق أن تحتفظ بقواها. من ناحية أخرى، يتعين على الليبراليين والعلمانيين أن يتابعوا بحذر وأن ينصحوا بإصلاح دولة الإسلامية وليس بإلغائها. إن تدميرها من دون خطة انتقال ستطلق العنان لفوضى في مجال كانت النظام سمته الأساسية لقرون طويلة.

ظهرت في الأفق بعض علامات الإصلاح: فقد قدم كلّ من تركيا والمغرب بعض الاقتراحات في ما يتعل بالمرأة والأقليات اللغوية والدينية. وفي وقتٍ سابقٍ من هذا العام، وافق الإخوان المسلمون في مصر وليبيا على تعيين قادة معروفين باعتدالهم لتأدية أدوار مهمة ذات صلة بالشؤون الدينية. ولكن حتى الآن، لم يكن ما حصل كافياً لإقناع أحدٍ أن التعدد الديني يوشك على تقديم نتائج عادلة منصفة.

بات معظم الخلافات جزءاً من تصنيفات القرن الواحد والعشرين السياسية، إلا أن بعض الأحداث تبدو أهم من غيرها. لا يمكن للحكومة التركية ودول شمال أفريقيا التي سارت على خطاها أن تدعي أنها مصابة برهاب الإسلام في حين يسيّر المسلمون الاحتجاجات.