Commentary

الطائفية وسياسات الشرق الأوسط الجديد

مع احتدام القتال في سوريا، وامتداد آثاره إلى لبنان بشكلٍ بات أكثر وضوحاً، وزيادة أعمال العنف في العراق وتضخم التوترات في البحرين ودعوة الزعماء الدينيين كحسن نصر الله ويوسف القرضاوي إلى الحرب، لا عجب أن تكون الطائفية العدسة التي من خلالها يرى معظم الأجانب أحداث الشرق الأوسط. حتى صحيفة نيويورك تايمز تعتقد ذلك، فلا شكّ إذاً أن الأمر صحيح.

لا يمكن أن ننكر أن الطائفية تشكّل عاملاً حقيقياً في سياسات تلك الدول ودول أخرى في المنطقة. ولكن من الضروري إدراك السياق السياسي الذي تبرز فيه الطائفية في سياسات الدول وفهم أن الصراع الطائفي و التحالفات السياسية الطائفية لا يشكلان حقائق غير قابلة للتغيير. في حين تُعتبر الهويات الدينية عناصر هامة وقوية جداً في الطريقة التي يستعملها الناس لتعريف عن أنفسهم على المستوى السياسي، إلا أنها ليست دائماً عناصر مهيمنة ولا تعني دائماً الشيء ذاته. يعد السياق السياسي المعاصر أكثر أهمية من تاريخ القرن الإسلامي الأول لفهم الدور الذي تؤديه الطائفية في الصراعات الحديثة.

في تجربة العالم العربي المعاصر، برز ظهور الطائفية (والهويات الوطنية الفرعية الأخرى، مثل القبلية والمناطقية) كقوة أدت إلى تدهور الدولة. عندما تعجز الدولة عن توفير الأمن والخدمات الأساسية لمواطنيها، يتعين عليهم أن يتطلعوا إلى تلك المجتمعات القادرة على حمايتهم والتي يشعرون أنها آمنة. بهذا، أدت الهويات الطائفية والقبلية دوراً كبيراً في سياسة بعض الدول العربية مثل لبنان واليمن، حيث لطالما تميزت الدولة بالضعف.

تبدو الحالة مختلفة في كل من سوريا والعراق حيث أنشأ حزب البعث نظاماً ديكتاتورياً في الستينيات قام على بناء دولة قوية ومتعجرفة. تشكلت النخبة الحاكمة في كلا البلدين بأغلبيته الساحقة من أقلية طائفية – سنة في العراق وعلويين في سوريا. مع مرور الوقت، باتت النخبة الأساسية هذه ممثلة أكثر وأكثر بأسرة محددة من أسر تلك الأقلية الطائفية، إلا أنها لم تحكم في كلا البلدين في البداية على أساس طائفي. شكلت القومية العربية الأيديولوجية الرسمية للدولة، ونقطة ارتكاز النظام التعليمي الذي انتهجته الدولة والخطاب المعتمد من قبل وسائل الإعلام الحكومية.

ولكن مع تعرض سيطرة الحكام للمعارضة، باتوا يعتمدون أكثر فأكثر على دعم الطائفيين للحصول على الدعم، وباتت سماتهم الطائفية (والعرقية في المناطق الكردية) تميز معارضتهم أكثر فأكثر. مع غزو الولايات المتحدة للعراق في العام 2003، سيطرت الهويات الطائفية والعرقية على السياسة العراقية مع تقلص قوة دولة صدام حسين القاسية تحت ضغوط العقوبات الاقتصادية والضغوط السياسية. وازدادت حدة هذا الاتجاه مع تدمير الولايات المتحدة لما تبقى من أجهزة الدولة العراقية. الأمر كذلك في سوريا، فما بدأ كاحتجاج شعبي وطني ضد دكتاتورية الأسد تطور إلى معركة طائفية مع تراجع امتداد الدولة السورية. حدد النظام بسرعة معركته من أجل البقاء وصنفها كصراع طائفي، وجاءت ردة فعل المعارضة مماثلة.

رغم أن الحالة في كل من لبنان وسوريا والعراق اختلفت في البداية، إلا أن الأمر انتهى بهذه الدول باعتبارها هلال الدولٍ الضعيفة في المشرق العربي، حيث تهيمن حالياً الهويات الوطنية الفرعية الطائفية والعرقية على السياسات وتحرك الصراع. إلا أن المسار هذا لم يكن مساراً حتمياً لا مفر منه. فلو لم يدخل صدام حسين في حربين كارثيتين في العام 1980 والعام 1990، كان بناء الدولة العراقية، حتى وهو لا يزال في سدة الرئاسة، ليتم بشكل يتسم بفائدة أكبر وطائفية أقل. ولو وفى بشار الأسد بوعود الإصلاح السياسي التي قطعها على شعبه في ما سبق، لتجنبت سوريا احتجاجات عام 2011 ووالمعاناة الراهنة الناتجة عن انهيار سلطة الدولة. في الواقع، لم يكن إرساء طابع الطائفية الشديدة على سياساتهما النتيجة الوحيدة.

ليس ضرورياً أن يهيمن التنظيم الطائفي للصراع السياسي في هذه البلدان على الساحة السياسية في المستقبل. وفي هذا الصدد يُعتبر لبنان مقارنة مفيدة. أصبح ضعف الدولة اللبنانية، وهي سمة صفقة النخبة التي أنشأت منذ عقود النظام السياسي اللبناني، أكثر وضوحاً مع نشوب الحرب الأهلية بين العامين 1970 و1980. لذلك ليس غريباً أن تستمر الطائفية في تسيير السياسات اللبنانية. إلا أن محاور الصراع والتحالفات تغيرت مع مرور الوقت. في ذروة الحرب الأهلية، نشأت حركة ديناميكية تواجه فيها المسيحي والمسلم. أما الآن فقد بات السنة والشيعة طرفي الصراع، في حين ينقسم المسيحيون بين مؤيدين لـ14 آذار ومؤيدين لـ8 آذار. تبقى هذه سياسات طائفية، إلا أن سجل الأهداف يختلف تماماً. إنه تذكير جيد بأن منطق الطائفية لا يسيطر تماماً على السياسة والخيارات السياسية.

لا تدان دول سوريا والعراق وحتى لبنان على المدى الطويل بالصراعات الطائفية والعرقية العميقة التي تحرك حالياً سياساتهم. ولكن للتخلص من المسار المدمر الذي تعانيه الدول الثلاثة هذه، يتعين على النخب السياسية أن تجد وسيلة للاتفاق على طريقة لإعادة بناء الدولة وعلى أساس من المواطنة الشاملة بدلاً من الهويات الطائفية والعرقية الوطنية الفرعية. إنها مهمة صعبة إلا أنها ليست مستحيلة، مهمةٌ أتطلع إلى مناقشتها في الدورة المقبلة من منتدى أمريكا والعالم الإسلامي الذي سينعقد نهاية هذا الاسبوع في الدوحة.