Commentary

كيف ينبغي على الولايات المتّحدة مقاربة الحوار الاستراتيجي مع العراق

Iraqi Prime Minister Mustafa al-Kadhimi uses his mobile phone at his office in Baghdad, Iraq May 9, 2020. Picture taken May 9, 2020. Iraqi Prime Minister Media Office/Handout via REUTERS ATTENTION EDITORS - THIS IMAGE WAS PROVIDED BY A THIRD PARTY.

بعد خمسة أشهر ومحاولتَين فاشلتَتن، بات للعراق رئيسُ وزراء جديد. ويمنح تعيينُ مصطفى الكاظمي البلادَ احتمالاً بأن يبرز نوعٌ من الاستراحة بعد أشهر من الشلل السياسي والاضطرابات الشعبيّة منذ أكتوبر 2019. وقد زعزعت هذه الاضطرابات كيان الطبقة السياسية، وتفاقم بفعل جائحة فيروس كورونا المستجدّ والانخفاض الشديد في أسعار النفط والتوتّرات بين الولايات المتحدة وإيران.

وقد تزايدت التوتّرات بين العراق والولايات المتّحدة منذ أن اغتالت هذه الأخيرة القائد الإيراني قاسم سليماني والقائد العراقي أبو مهدي المهندس في العراق في يناير. فقد ازداد إحباط الولايات المتحدة من عدم إحكام بغداد السيطرةَ على المجموعات المسلّحة التي تأتمر لإيران ومن استخدام إيران العراقَ كوسيلة للالتفاف على الأثر الاقتصادي الذي تخلّفه حملة الضغط الأقصى التي تنتهجها واشنطن أو للحدّ منها. وقد زادت واشنطن من الضغط على العراق عبر تقصير المهل الممنوحة للإعفاءات من العقوبات التي تسمح للعراق باستيراد الكهرباء من إيران، لا بل هدّد الرئيس ترامب حتّى بفرض عقوبات على بغداد وحجب قدرة وصولها إلى الأموال الاحتياطية العراقية إذا استمرّت الجهات الوكيلة لإيران بمهاجمة القوّات الأمريكية من دون عقاب.

لكن في خضمّ هذه التوتّرات، لدى واشنطن وبغداد فرصة لإعادة ترتيب علاقتهما من خلال حوار استراتيجي بين الولايات المتحدة والعراق في الشهر المقبل. وينبغي على الولايات المتحدة مقاربة الأمر على النحو الآتي:

1- بناء علاقات طويلة الأمد مع بعض المكوّنات الرئيسية في قوّات الحشد الشعبي عوضاً عن الطلب من العراق حلّها بالكامل

قوّات الحشد الشعبي عبارة عن منظّمة ميليشياوية جامعة عديدها مئة ألف عنصر. وهي خاضعة للجهات الوكيلة لإيران وتأتمر لأوامرها، لكنّها تتألّف من فصائل متنوّعة، وقد أحبط تصاعد نفوذها واشنطن. وقد منحت الحرب ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية قوّات الحشد الشعبي إحساساً بالوحدة والغاية، لكنّها باتت اليوم في حالة ارتباك عقب انسحاب الفصائل المؤيّدة لآية الله علي السيستاني، رجل الدين الشيعي الأهمّ في العراق. وعلى غرار السيستاني، امتعضت هذه المجموعات من أنّ الجهات الوكيلة لإيران استغلّت قوات الحشد الشعبي كواجهة لتحقيق طموحاتها الخاصة.

ويشكّل انسحابها فرصةً للولايات المتّحدة لإنشاء علاقات وثيقة أكثر مع الفصائل المؤيّدة للسيستاني. ولا ينبغي أن تطلب الولايات المتّحدة من العراق حلّ قوّات الحشد الشعبي برمّتها، فهذا طلب تعجز بغداد عن تلبيته نظراً إلى نفوذ قوّات الحشد الشعبي في المؤسّسات والسياسة العراقية. عوضاً عن ذلك، ينبغي على الولايات المتّحدة العمل مع رئيس الوزراء لتقديم دعم عسكري وتدريب مباشرَين لمجموعات مُفضَّلة أكثر لتساعدها على قلب ميزان القوى لصالحها. وينبغي أن يكون تقديم هذه الأسلحة مشروطاً بعدم وصولها إلى الفصائل الموالية لإيران، والأهم، بعدم استعمالها ضدّ حلفاء الولايات المتّحدة في المستقبل. وتشير الانقسامات الراهنة إلى أنّه يمكن حثّ الفصائل المؤيّدة للدولة في قوّات الحشد الشعبي على إنشاء علاقات وثيقة أكثر مع جهات فاعلة خارجية على غرار الولايات المتّحدة، وذلك إمّا عبر عمليات انخراط ثنائية مباشرة أو بشكل غير مباشر عبر الكاظمي. ومن خلال تقوية هذه الفصائل ومنحها المزيد من الأهمّية يحظى الكاظمي بمساحة ضرورية تَقِيه من المجموعات المتحالفة مع إيران التي تتّسم بقوّة لا يمكن احتواؤها من دون هذه المساحة. وبإمكان الولايات المتحدة أن تساعد الكاظمي على الاستفادة من الانقسامات لإعادة موازنة العلاقة بين الدولة والجهات الوكيلة لإيران.

2- عدم التوقّع بأنّ بغداد ستضبط الجهات الوكيلة لإيران (في الوقت الراهن)

الخبر السار للولايات المتحدة أنّ الجهات الوكيلة لإيران باتت تعاني عدداً من نقاط الضعف منذ اندلاع الحركات الاحتجاجية ومنذ اغتيال سليماني والمهندس، الذي أدّى إلى فراغ في القيادة وضَعَ شبكة الجهات الوكيلة لإيران في حالة تشوّش. فقد انخرطت هذه الجهات في العنف المُرتكب ضدّ المحتجّين، ممّا ضعضع شرعيّتها الاجتماعية وتأييدها الشعبي. ويمكن أن يكون لذلك الأمر أثر واسع النطاق، لأنّ ازدياد نفوذها مرتبط بقدرتها على جذب التأييد الشعبي. كذلك، يقلّل انسحاب الفصائل التابعة للسيستاني من قوّات الحشد الشعبي من سلطة الفصائل المتحالفة مع إيران.

بيد أنّ القوّات المسلّحة العراقية لها ما يكفيها من المهام، وهي تركّز على احتواء بروز داعش والمجموعات الميليشياوية الأخرى من جديد، فضلاً عن الحدّ من الصراعات القبلية والصراعات المحلّية الأخرى. في غضون ذلك، ما زال الكاظمي جديداً، ولا يحظى بقاعدة سياسية قوية بعد. وفي هذه المرحلة، ستؤدّي محاولة ضبط الميليشيات الغنية بالموارد وبالمتمرّسة في القتال التي تحظى بدعم إيراني قوي إلى تكبّد العراق الذي انهكته الحروب تكاليف تتخطّى المنافع المحتملة.

3- مساعدة الكاظمي في مسائل الحوكمة، بدون محاولة إعادة بناء الدولة العراقية

لقد تقبّلت الولايات المتّحدة أنّ إعادة بناء المؤسّسات العراقية في البيئة الراهنة سيعود بالفائدة على إيران على الأرجح. فقد فضلّت واشنطن عادة أن تعتمد خطّة طويلة الأمد فتنتهج مقاربة شاملة إزاء إعادة بناء المؤسّسات العراقية. لكنّ ذلك يشكّل صعوبات في البيئة السياسية الراهنة، نظراً إلى نفوذ إيران وإلى أنّه ينبغي على السياسيين العراقيين أن يرتّبوا شؤونهم الداخلية أولاً، أي الوصول إلى توافق حول قرارات السياسة الخارجية المحلّية والحاسمة، على غرار بقاء الولايات المتحدة في البلاد مثلاً.

عوضاً عن ذلك، بإمكان واشنطن التركيز على الفرص ذات المدى الأقرب. ومن بين الأمور التي تحقّق نجاحاً ممكناً، والتي يمكنها في نهاية الأمر أن تطلق الاقتصاد العراقي ومشاريع بناء الدولة على المدى الطويل، أمرٌ يمكن تحقيقه في وزارة المالية العراقية. إذ يدير الوزارة رجل دولة وتكنوقراطي عراقي قدير يدعى علي علاوي، وهو شخص يقدّر ضرورة استمرار الدعم الأمريكي. وينبغي على واشنطن العمل على تمكينه، عبر المساعدة على تأسيس بنية تحتية مصرفية ومالية حديثة والاستمرار بتمديد مهلة الإعفاءات على العقوبات والسماح بمؤازرة مالية إضافية من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومساعدة العراق على إعادة هيكلة ديونه.

4- الاستفادة من إقليم كردستان 

كلما طال الوقت الذي يستطيع فيه الكاظمي الاستمرار بالعمل على مدى الأشهر المقبلة، ازدادت الاحتمالات لحمايته المصالح الأمريكية. لكنّه لا يستطيع القيام بذلك بمفرده. فلبغداد عدّة مراكز قوّة تعرقل قدرته على وضع السياسات وتنفيذها، ولا سيّما عندما تناقض هذه السياسات سياسات المجموعة الواسعة من الكتل السياسية وقادة الميليشيات الأقوياء.

وينبغي على واشنطن العمل على تعزيز نفوذ الأكراد السياسي في بغداد والاستقرار في إقليم كردستان حيث للولايات المتّحدة حضور ضخم. وينبغي على الولايات المتّحدة تمكين الأكراد على اعتبار أنّها قد تضطّر إلى الانسحاب يوماً ما من العراق قبل تأمين المصالح الأمريكية الأساسية، وبعد ذلك ستحتاج إلى اللجوء إلى الأكراد لنقل قوّاتها إلى إقليم كردستان أو استعمال الإقليم كمعبر تؤمّن من خلاله المصالح الأمريكية الحيوية في المناطق الأخرى في العراق. وعلى المدى الأقرب، يمكن للولايات المتحدة أن تحرص على عدم خضوع حكومة إقليم كردستان تحت وطأة أزمتها المالية ونزاعاتها مع بغداد. وسيحفظ ذلك واحدة من الأوراق القليلة جداً التي تمسك بها الولايات المتحدة في بغداد وتعزّزها.

5- عدم تجاهل الأصدقاء

منذ العام 2011، كانت الولايات المتحدة العدو الأسوأ لذاتها في العراق. فقد وقفت وقوف المتفرّج فيما تمّ تهميش الفصائل العربية السنّية الموالية للولايات المتّحدة وقمعها. فلم يعد لمكوّنات الطبقة السياسية الشيعية، الذين تفادوا تاريخياً توطيد العلاقات مع إيران، خيارٌ سوى الارتماء في أحضان طهران لأنها ملأت فراغاً. وفي العام 2017، عارضت الولايات المتحدة قيام استفتاء كردستاني للاستقلال لكنّها لم تحرّك ساكناً عندما حاربت الجهات الوكيلة لإيران، المسلّحة بأسلحة أمريكية تمّ تزويد الحكومة العراقية بها، البشمركة في كركوك وهزمتها.

ليس من الضروري أن تتّفق الولايات المتّحدة والجهات الحليفة لها على الأمور كافة، لكن ينبغي على واشنطن أن تتفادى الخطوات التي تُضعف بشدّة مكانة حلفائها أو تتيح المجال أمام بروز مسارات تزيد من نفوذ خصومها. فشركاء إيران يزدهرون لأنّ طهران تتعامل مع الهجمات على حلفائها على أنّها هجمات على إيران وتتوسّط لحلّ الخلافات بينهم. وينبغي على الولايات المتّحدة القيام بالأمر ذاته مع حلفائها.

6- بناء علاقات مع الجيل المقبل من القادة العراقيين

تفتقر المجموعة الحالية من القادة السياسيين في العراق إلى الشعور بالهدف والاتحاد وضرورة معالجة تحدّيات البلاد الطويلة الأمد. فالحكومة الحالية هي فعلياً حكومة انتقالية، أو حكومة أزمات لها هدفان أساسيان: إبعاد البلاد عن الهاوية وإجراء انتخابات تستطيع استعادة شرعيّتها.

لذا ينبغي على واشنطن أن تركّز على إشراك الجيل المقبل من القادة العراقيين القادرين والمُهتمّين بالإصلاح، بمن فيهم أولئك الذين هم في الحكم الآن وأولئك المنخرطون في السياسات على المستوى الشعبي، وعلى تمكينهم، وعليها أيضاً أن تشجّع القادة في بغداد على حذو حذوها. فمن شأن فتح الفرص للفاعلين على المستوى الشعبي والتشجيع على إنشاء طبقة سياسية هدفها الإصلاح أن يساعد على حثّ المعسكرات المتنافسة في العراق، التي إمّا تريد المحافظة على النظام السياسي الراهن أم تريد تغييره برمّته، نحو المساومة.

يشكّل الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتّحدة والعراق جزءاً من عملية أوسع هدفها حلّ سلسلة من المسائل العالقة. بيد أنّ الأزمات والتحديات الهيكلية في العراق ستبقى بعد أن ينتهي عهد الإدارتين الأمريكية والعراقية الحالتين. لذا لا ينبغي رفع سقف التوقّعات عالياً، بل كما يشير ما جاء أعلاه، الخيارات متاحة لواشنطن. فمن الممكن تطوير علاقة فعّالة ذات منفعة متبادلة، وهي علاقة يمكن أن تسفر عن استراحة ونتائج يحتاج إليها الشعب العراقي حاجة ماسّة.

Authors