Commentary

إسرائيل تعود إلى الحافة

Israeli Prime Minister Benjamin Netanyahu waves to supporters following the announcement of exit polls in Israel's election at his Likud party headquarters in Tel Aviv, Israel March 3, 2020. REUTERS/Amir Cohen

في الدوامة المستمرّة للسياسات الإسرائيلية، يمكن بسهولة ألّا يتنبّه المرء أنّه يوم الإثنين، أجرت البلاد انتخاباتها الوطنية الثالثة في أقلّ من سنة. بيد أنّ هذا التكرار السياسي المُخدّر يخفي وراءه الرهانات الكبيرة التي تنطوي عليها هذه الانتخابات المتكرِّرة.

فبعد الانتخابات الثانية، في سبتمبر، كتبتُ أنّ أمراً واحداً نتج عن تلك النتائج المُبهمة: “لقد وصلت إسرائيل إلى الحافة في مسألتَين أساسيتين، وقد خطت الآن نصف خطوة إلى الوراء. تطيح نتائج الانتخابات الثانية هذه بخطط نتنياهو لتطبيق القانون الإسرائيلي رسمياً على أجزاء من الضفّة الغربية، فيضمّ بذلك وادي نهر الأردن، وللجم سلطات المحكمة العليا الإسرائيلية من أجل ضمان الحصانة من المقاضاة بتهم الفساد الموجّهة إليه”. فما وضع حافة السياسة الإسرائيلية بعد الانتخابات الثالثة التي جرت في 2 مارس؟

نتائج الجولة الثالثة
بدت ليلة البارحة في إسرائيل، حيثما كنتُ عندما صدرت استطلاعات رأي المقترعين، احتفالاً كبيراً بالانتصار لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وداعميه. فاعتبر فوزه رائعاً بقدر فوزه الأوّل، في العام 1996. فعلى عكس التوقّعات، تحسّنت نتائجه بشكل ملحوظ مقارنة بالانتخابات الثانية التي جرت منذ خمسة أشهر.

وتمنح استطلاعات رأي المقترعين كتلة نتنياهو ستّين مقعداً بالضبط، أي أقل بمقعد من الأكثرية النيابية. ومع صدور النتائج الأولية لنسبة 93 في المئة من التصويت، ما زال من المتوقّع أن ينال حزب الليكود التابع لنتنياهو تقدّماً بثلاثة مقاعد عن الحزب المعارض الأساسي، حزب أزرق أبيض. لكن إن بقيت النتائج الأوّلية كما هي، ستحظى كتلة الأحزاب المؤيّدة لنتنياهو بقرابة 58 مقعداً من أصل 120، أي أقلّ بثلاثة مقاعد من الأكثرية.

لكن قد تبدو هذه الاحتفالات محيِّرة نوعاً ما لأنّ 58 مقعداً ليس أكثرية في النهاية، والنتائج قريبة من نتائج الانتخابات الأولى في أبريل. ففي تلك الانتخابات، بدا أنّ نتنياهو أمّن فوزاً مضموناً، لكن رفض حليفه آنذاك أفيغدور ليبرمان الانضمام إلى تحالفه. ومن دون ليبرمان، كان لنتنياهو كتلة من 60 مقعداً، أي بالضبط نصف مقاعد الكنيست البالغة 120 مقعداً. ومع عجز نتنياهو عن نيل الأكثرية لتشكيل حكومة جديدة، علماً أنّه بحث بشكل مسعور عن شخص يميل من المعارضة ليعطيه الأفضلية، ومع خوفه من أن يحظى خصمه بيني غانتس بالفرصة لتشكيلها، أطلق نتنياهو تصويتاً لحلّ الكنيست.

وفي الجولة الثانية، في سبتمبر، انقلبت مراهنة نتنياهو بالعودة إلى الاقتراع ضدّه. فقد خرج فصيل المعارضة حزب أزرق أبيض الأكثرَ عدداً في الكنيست، ومع أنّ أحداً من الجهتَين لم يحظَ بالأكثرية، كانت الكتلة المعارضة لنتنياهو أكبر بعض الشيء من الكتلة الموالية له، وكان حزب ليبرمان الكفّة المرجّحة. ولأول مرّة منذ زمن بعيد، بدا وكأنّ نتنياهو هو المستضعف. لم يستثنه أحد من الحسابات طبعاً، لكنّه لم يعد يستأثر بالانتباه ذاته.

ومن خلال مناورات لا تنتهي وتمكُّنٍ من المشهد السياسي، حال نتنياهو دون الوصول إلى نتيجة في الكنيست العالق الذي تلا الانتخابات الثانية. وبدأ فوراً حملة شرسة تهدف إلى إبراز مكانته الدولية. وصدرت “صفقة القرن” التي وضعتها إدارة ترامب والتي تنحاز كثيراً لصالح إسرائيل، بصدفة بحتة، في أنسب توقيت لحاجاته الانتخابية. وأطلق حملة لنزْع صفة الشرعية عن الدعم المقدّم من القائمة المشتركة المرتكزة على العرب لغانتس لتشكيل حكومة، بغية الحؤول دون ظهور حكومة أقلّية برئاسة غانتس مدعومة سراً من القائمة. وشرع حزب الليكود التابع له بهجمات سافرة لا أساس لها ضدّ غانتس نفسه. فاعتمد الليكود أسلوب كارل روف واتّهم غانتس بالقيام بممارسات فاسدة، وكأنّ ليس نتنياهو في الواقع في ورطة قانونية بادّعاءات الفساد.

والآن، في الصباح الذي تلا جولة الانتخابات الثالثة، يبدو نتنياهو من جديد السياسي البارع لإسرائيل المعاصرة. فقد تحسّن أداؤه بشكل بارز مقارنة بالجولة الثانية. صحيح أنّه حقّق النتائج ذاتها تقريباً التي حقّقها في الجولة الأولى، لكنّه حققها على الرغم من اتّهامه رسمياً بارتكاب ثلاث جرائم. وستبدأ محاكمته في غضون أسبوعين فقط. فيبدو الآن أنّ المقترعين أعطوا نتنياهو انتصاراً، على الرغم من القضيّة المرفوعة ضدّه، أو ربّما بسببها حتّى. وفي حين أنّ الكثيرين ممّن يُفترض أن يكونوا خبراء ظنّوا أن نتنياهو انتهى عندما وجّهت الاتهامات الأوّلية إليه، تجمّع داعموه لمعارضة ما اعتبروه محاولة انقلاب تقوم به الدولة العميقة ضدّ ممثّل الإرادة الشعبية.

الخطوات التالية
ما زال من الممكن أن تتغيّر هذه النتائج بمقعد أو مقعدَين لكلّ جهة عندما يتمّ عدّ كلّ الأصوات، من ضمنها أصوات الجنود والمساجين (الذين يستطيعون التصويت في الانتخابات الإسرائيلية شأنهم شأن أيّ مواطن آخر) وللمرة الأولى، أولئك الخاضعين للحجر الصحي لاحتمال تعرّضهم لفيروس كورونا. لكن افتراضاً أنّ مقاعد الكتلة الموالية لنتنياهو لم تصل إلى 61، يبدو أنّه يمكن سلوك ثلاثة مسارات.

1- سبق أن بدأ حلفاء نتنياهو بالكدّ للعثور على فائزين من أحزاب معسكر اليسار الوسط قد ينضمون إلى تحالفه. فإن عثروا على عدد كافٍ لترجيح كفّة الميزان سيشكّل نتنياهو تحالفاً ضيّقاً سيعتمد على كلّ أعضائه لنيل الدعم. وإن بقيت نتائج الانتخابات الأولية على حالها فشخصان يكفيان لترجيح هذه الكفّة. وسيؤدّي ذلك إلى ظهور حكومة متشدّدة للغاية، على الرغم من أنّه بعد تشكيلها قد يحاول نتنياهو اجتذاب أحزاب أخرى من المعارضة للتخفيف من قوّة المتطرّفين في معسكره.

2- قد يقرّر حزب من المعسكر المعارض لنتنياهو أن يدعمه، وبشكل خاص، حزب إسرائيل بيتنا التابع لأفيغدور ليبرمان. فقد يكون احتمال إجراء انتخابات أخرى رابعة مقلقاً كفاية وفوز نتنياهو الرمزي واضحاً كفاية لدرجة قد تجعل ليبرمان يقرّر السماح بتشكيل حكومة يمينية حتّى لو بقي خارجها، أقلّه في البداية. فبعد صدور استطلاعات رأي الناخبين، شدّد ليبرمان على وعدَين: لا انتخابات رابعة ولا انضمام تحالف لنتنياهو تشارك فيه الأحزاب الأرثوذكسية جداً. فإن قرّر ليبرمان الامتناع عن التصويت عند منح الثقة مثلاً يمكن تشكيل حكومة أقلّية يمينية وتفادي انتخابات رابعة. وسيصبح نتنياهو عندئذ رئيس وزراء من جديد، لكن من دون دعم برلماني ثابت.

3- في سبتمبر 2020 تقريباً، قد يتمّ اتّباع الطقوس السياسية الإسرائيلية، ويمكن أن أعود لأكتب مجدداً عن نتائج انتخابات وطنية إسرائيلية (رابعة) وعن الفروقات بين 59 و61. لكنّني سأتفهّم إن كان لديكم أمور أهمّ تهتمّون بها.

هل عادت إسرائيل إلى الحافة؟
لقد كانت الحملة الثانية في هذه السنة المضطربة مسألة قذرة وبشعة. أما الثالثة، وقد انتهت لتوّها، فكانت أسوأ بكثير. فنجاح نتنياهو، على الرغم من بروز ربما أكثرية طفيفة من المقترعين الذين عارضوه، يمنحه تفويضاً خطيراً إزاء مصاعبه القانونية. فإن كان لا يزال قادراً في جولة الانتخابات الأولى على أن ينكر أنّه مهتمّ بالالتفاف حول مشاكله القانونية من خلال تشريعٍ يحميه، يستطيع الآن، في حال كسب الأصوات اللازمة، المتابعة بتشريع كهذا بحجّة أنّ الناخبين يدعمون هذه الخطوة. في هذا السياق، تعود إسرائيل إلى حافة الإصلاحات القانونية التي تهدف أولاً إلى حماية مدّعٍ عليه واحد.

وهذا ما يجعل التفاصيل الأخيرة لكتلته السياسية غاية في الأهمّية. فثمانية وخمسون مقعداً مختلفة تماماً عن 61 مقعداً. فإن لم يضمن دعم الـ61 بالكامل، من بينهم المنضمّون إلى كتلته من المعارضة، ستتأجّل التهديدات لسلطة القضاء جزئياً على الأقل. وقد يخضع القضاء لإصلاح مع ذلك، لكن ستصبح المحاولات الفاضحة لحماية شخص واحد من الخضوع للمحاكمة أقلّ ترجيحاً.

بيد أنّ المحاولات لضمّ أجزاء من الضفّة الغربية مسألة مختلفة تماماً. فحيال هذه المسألة الدرامية، وعلى عكس الحصانة لنتنياهو، يبرز دعم كبير في صفوف الأعضاء الذين يميلون إلى اليمين ضمن المعسكر المعارض لنتنياهو أيضاً، من بينهم ليبرمان وحزبه وعدّة أعضاء من حزب أزرق أبيض. بالتالي، حصول الضمّ أو عدمه يقع على عاتق نتنياهو بحدّ ذاته، إذا ما أراد القيام بذلك بدون إطلاق حملة، وعلى عاتق القرارات المتّخذة في واشنطن.

هل سيقرّر نتنياهو الضمّ، في حال تمكّن من تشكيل حكومة جديدة؟ هزأ الكثيرون من هذه الفكرة، مدّعين أنّها لدعم الحملة لا أكثر. لكن أنا لا أشاطرهم الرأي. فخطّة ترامب فرصة لنتنياهو لرفع السقف في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بطريقة ما كان قادراً على فعلها أبداً من قبل. ولعلّها اللحظة التي يطرح فيها مقاربته الحذرة للدبلوماسية جانباً لصالح غياب دائم للحلّ للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. فإن لم يرَ أيّ عوائق من واشنطن في الأشهر المقبلة، قد يسير قدماً.

علاوة على ذلك، إن لم ينجح إلا في تشكيل تحالف ضيّق، سيكون متّكلاً على كلّ أعضاء التحالف، من ضمنهم اليمين المتطرّف الذي دعا إلى تشكيل “حكومة سيادة” (على الضفّة الغربية). وبإمكان حساباته السياسية، التي لها كلمة الفصل عادة، أن تقوم بذلك بسهولة.

ربّما وصلت هذه السنة الغريبة المديدة في السياسات الإسرائيلية إلى نهاية شبيهة ببدايتها، أي مع نتنياهو مبتسم وفائز على ما يبدو ولا فائز حقيقياً وإسرائيل عادت إلى الحافة.