Commentary

مؤتمر برلين حول ليبيا: هل سيقوّض الرياءُ النتائج؟

Britain's Prime Minister Boris Johnson, Republic of Congo's President Denis Sassou Nguesso, Turkish President Recep Tayyip Erdogan, French President Emmanuel Macron, German Chancellor Angela Merkel, United Nations Secretary-General Antonio Guterres, Russian President Vladimir Putin, Egyptian President Abdel Fattah al-Sisi, Algerian President Abdelmadjid Tebboune, U.S. Secretary of State Mike Pompeo and European Commission President Ursula von der Leyen pose for a family photo during the Libya summit in Berlin, Germany, January 19, 2020. Murat Cetinmuhurdar/Turkish Presidential Press Office/Handout via REUTERS ATTENTION EDITORS - THIS PICTURE WAS PROVIDED BY A THIRD PARTY. NO RESALES. NO ARCHIVE

عبر إقصاء ليبيا علناً من المشاركة، خَرَق مؤتمر برلين حول ليبيا الذي أقيم في نهاية الأسبوع الماضية توجيهات الأمم المتحدة من أجل الوساطة الفعّالة للعام 2012 وتشديد هذه التوجيهات على “الشمولية” و”الملكية الوطنية” كعنصرين أساسيين للحلّ السلمي للصراعات. لكنّ البيان المفصّل لمؤتمر برلين، الذي يغطّي مجموعة واسعة من القضايا، يشير إلى أنّ المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والمبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة يستحقّان فضلاً أكبر بكثير من الذي سينالانه على الأرجح، بما في ذلك الفضل للتركيز في هذه المرحلة على الجهات الفاعلة الخارجية وليس الجهات الليبية ولإعادة إحياء انتباه العالم حول الصراع الليبي. وكان المؤتمر متماشياً مع منطق خطّة العمل الثلاثية الأقسام التي قدّمها سلامة لنيل تأييد مجلس الأمن في يوليو: هدنة لعيد الأضحى ومؤتمر دولي (مثلاً في برلين) وعملية بقيادة ليبيا ورعاية الأمم المتحدة.

يمثّل مؤتمر برلين مفترقَ طرق، فإمّا تُطبّق الجهات الفاعلة الخارجية ما التزمت ظاهرياً بالقيام به، بما في ذلك الانصياع لحظر السلاح الدولي المفروض على ليبيا (مُطبّق منذ العام 2011 ويُجدّد سنوياً) أو تُبيّن مرّة أخرى رياءها في دعم التقاتل المتجدّد.

المشهد في ألمانيا

في برلين، تمكّن سلامة وميركل، أقلّه على الورق، من مداهنة الجهات الفاعلة الخارجية التي تسبّبت بمفاقمة المآسي الليبية للتوقيع على أجندة موحّدة. إذ انضمّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى قرابة اثنتي عشرة شخصية أخرى (مع وزير الخارجية مايك بومبيو مُمثّلاً الولايات المتحدة) للإعلان عن نيّة لإنهاء التدخّل الأجنبي في مسائل ليبيا الداخلية، فقد ورد في البيان: “نلتزم بالامتناع عن التدخّل في صراع ليبيا المسلّح أو شؤونها الداخلية ونحثّ كلّ الجهات الفاعلة الدولية على حذو حذونا”، وذلك بلغة يأمل المرء أن يؤيّدها المشاركون بنيّة حسنة (وهذا سيكون غير اعتيادي لبعضهم).

وأبدى سلامة جدّية حيال مسألة المتابعة، إذ وضع مع فريقه خطةَ عمل، مُلحقة بوضوح بالبيان (وتمّ اعتمادها في البيان وتحظى بالتالي بمباركة المشاركين)، تشمل لجنة عسكرية مشتركة سبق أن وافقت الجهتان المتحاربتان في ليبيا على تعيين ممثّلين لهما فيها. ويبدو أنّ البيان يحلّ بعضاً من الاحتكاك الدبلوماسي المزعج والقديم والمُلهّي بين الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في ما يخصّ ليبيا عبر وضع الأمم المتحدة في الواجهة. (وقد سبق أن فعل مجلس الأمن ذلك مراراً وبأصوات أفريقية، مسبباً امتعاضاً لدى أديس أبابا. فقد تكون ليبيا مشكلة “أفريقية” بالفعل، لكنّها مشكلة عربية وأوروبية ودولية أيضاً). كذلك، تمّ التعامل بعقلانية مع الشكاوى السياسية والاقتصادية الكامنة في نزاعات ليبيا الداخلية، التي وحدهم الليبيون قادرون على حلّها.

باختصار، ينبغي النظر إلى مؤتمر برلين على أنّه المحاولة الأكثر جدّية منذ سنوات لمعالجة العوامل الدولية المُسبّبة لويلات ليبيا. ونَبَع منطقُ إقصاء الليبيين، المتماشي مع العرض الذي قدّمه سلامة أمام مجلس الأمن في يوليو، من واقع أنّ الجهات الفاعلة الخارجية هي التي تؤمّن الأسلحة والطائرات المُسيّرة المتطوّرة والمرتزقة والجنود الذين يسمحون لكلّ جهة من الجهتَين الليبيتين بأن تعتقد أنّها قادرة على إخضاع الجهة الأخرى عسكرياً، متفادية الحاجة لتسوية سياسية قاسية.

والسؤال الأساسي طبعاً هو إذا كان لأيّ من ذلك أهمّيةٌ على الأرض بالنسبة إلى السكّان الليبيين المحاصَرين. ويعتمد الجواب على ما ستقوم به الآن تلك الجهات الخارجية الأساسية، ولا سيّما تلك التي تتساهل مع رغبة خليفة حفتر الدموية في أن يصبح “القائد المُفدّى” العتيد لليبيا.

بإيجاز، يواجه الليبيون تصعيداً أو تهدئة، مع تحكّم العناصر الدافعة الخارجية بالدفّة. لكن للأسف، تاريخ الجهات الفاعلة الخارجية في الميل صوب التهدئة ولجْم الجهات الليبية الوكيلة لها عقب اللقاءات الدولية السابقة (مثلاً في باريس أو باليرمو) ليس واعداً.

لوح الشطرنج الليبي

بناء على إصرار الرئيس الروسي، كان فايز السرّاج، رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية المعترف بها دولياً، وخليفة حفتر، الرجل الذي عيّن نفسه قائداً لما يُفترض به أن يكون الجيش الوطني الليبي الذي يُحاصر طرابلس منذ أبريل، حاضرَين في العاصمة الألمانية. لكن، عمداً، لم يشاركا في المؤتمر ولا التقيا على انفراد، بل أطلعهما الألمان ومسؤولو الأمم المتحدة على نتائج المؤتمر.

وبإمكان السرّاج وحفتر على حدّ سواء، في حال أرادا ذلك، اختيار ما يناسبهما من البيان وخطّة عمل الأمم المتحدة للادّعاء بأنهما حقّقا إنجازات من ناحية أهدافهما المُعلنة والدفع بمؤيّديهم نحو الانتقال من مقاربة عسكرية إلى أخرى سياسية. ويبدو أنّ السرّاج متقبّل للموضوع، حتى لو لم يكن قادراً على الشعور بالارتياح  حيال فكرة أنّ المفاوضات السياسية المُقبلة ستُفضي إلى استبداله واستبدال حكومته بحكومة موثوقة أكثر وذات طابع تمثيلي وشمولي حقيقي. لكن تبرز الشكوك بأنّه ينبغي على حفتر، بشكل خاص، الشعور بكامل ثقل الضغط المستمرّ الذي تضعه روسيا ومصر والإمارات وفرنسا ليعيد النظر في رؤيته القاضية بتحقيق احتلال بطولي لطرابلس بالقوّة.

ومن خلال رفض اقتراح وقف إطلاق النار الذي تقدّمت به روسيا وتركيا الأسبوع الماضي (والذي قبل به السرّاج)، أبدى حفتر تجاهلاً غريباً لموسكو، نظراً إلى أنّ موسكو نشرت في الأسابيع مرتزقةً من مجموعة واغنر، مما منح حفتر أفضلية تكتيكية في معركة طرابلس. ويبدو أيضاً أنّ حفتر فوّت فرصة التخفيف من زخم الحشد العسكري التركي “العثماني الجديد” المستمرّ في ليبيا لمواجهة الدعم الروسي الذي يناله، مع تقارير عن وصول ما يقارب ألفَي عنصر سوري تركماني إلى الأراضي الليبية واحتمال جهوزية الآلاف غيرهم.

وعبر خنق الصادرات النفطية الليبية (التي انخفضت الآن إلى 72 ألف برميل في اليوم بعد أن كانت 1,2 مليون منذ أسبوع) كما استخلص المشاركون في برلين، برهن حفتر على ازدرائه مبادرة ألمانيا والأمم المتحدة أو أيّ خطوة أخرى نحو التسوية السياسية. ولا شكّ في أنّه بحلول اللحظة الراهنة، مع ادّعاءات حفتر المتكرّرة منذ أبريل “بتحقيق النصر في غضون أيّام”، حتّى داعمو حفتر الخارجيون يدركون أنّه ليس المخلّص الموحِّد الذي يدّعيه. بيد أنّ مصر والإمارات العربية المتحدة، رأته، أقلّه حتّى انعقاد مؤتمر برلين، على أنّه رهانهما الأفضل ضدّ الغيلان الإسلاميين الذين تربطانهم بحكومة الوفاق الوطني.

أما روسيا وبعض القادة الأفريقيين، فيبدو من جهتهم أنّهم يعتبرون حفتر وسيلة لقلب “الإذلال” الذي تسبّب به خلع العقيد معمّر القذّافي في العام 2011. فحفتر، الذي يفاخر بادّعاءات مشكوك في صحّتها بأنّه حاول إسقاط القذافي قبل العام 2011 حتّى، أعمى بشكل نرجسي لإمكانية أنّ الروس يستغلّونه لإعادة إحلال نظام شبيه بنظام القذّافي في روسيا (وربّما بشخص ابن معمر القذافي سعيد، حسب الإشاعات التي وردت في الأوساط الطرابلسية ذات النظريات المؤامراتية).

فرصة واشنطن

من المفترض أن يتبيّن في غضون أسابيع ما إذا كان مؤتمر برلين سيشكّل استئنافاً لعملية سياسية بنّاءة أم سيصبح مجرّد حاشية في تاريخ العنف المُندلع بعد العام 2011 في ليبيا والمُتأجّج بفعل عناصر خارجية. وعلى الرغم من التفاصيل الواردة في بيان مؤتمر برلين الذي فيه ما يناسب الجميع، سرعان ما ستظهر اختلافات واضحة في تفسيره وفي تحديد أولوياته بين الجهات الفاعلة الخارجية والجهات الليبية الوكيلة لها. ولمراقبة عملية التنفيذ وتشجيعها، أنشأ مؤتمر برلين لجنة متابعة دولية للتلاقي في اجتماعات عامة شهرية على مستوى كبار المسؤولين ومرتين في الشهر في أربع لجانٍ فنّية.

لكن لتكون آليات المتابعة فعّالة هي بحاجة إلى جهة مُنفّذة قوية، عادة ما تكون الولاياتِ المتحدةَ في دور تؤدّيه خلف الكواليس، للحرص على جدّية العمل. بيد أنّه على الرغم من مشاركة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في مؤتمر برلين، تبدو السياسة الأمريكية حول ليبيا على غير هدى، مع اعتبار واشنطن الوضعَ الليبي “مشكلة أوروبا”. وفيما تدعم كلّ من روسيا وتركيا إحدى الجهتين المتعارضتين في الصراع الليبي، حاولتا ملء الفراغ الذي خلّفه الغياب الأمريكي. وقد يطمح الاتّحادان الأفريقي والأوروبي لحذو حذوهما.

بيد أنّ القوّة الكاملة لماكينة الدبلوماسية الأمريكية المخصّصة للحثّ على تطبيق بيان مؤتمر برلين تعجز أيّ جهة فاعلة أخرى عن تقليدها. وبفضل برلين والأمم المتحدة، لواشنطن الآن خطّةٌ واضحة وضعها مؤتمر برلين حول ما ينبغي على المجتمع الدولي فعله. في هذه الحالة، من شأن امتناع الإدارة الأمريكية حتّى الآن عن استلام زمام الأمور بخصوص ليبيا أن يكون أمراً مفيداً: فمع مصالح مباشرة أقلّ وانخراط أقلّ من الجهات الفاعلة الخارجية الأخرى، في وسع واشنطن أن تكون الجهة الأكثر فعالية في تعزيز عملية التطبيق.

نظراً إلى أنّ النجاح ليس مضموناً، يستحقّ الألمان نيل الفضل للمخاطرة بتقديم المكانة والثقل السياسي اللذين تتحلّى بهما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لدعم جهود الوساطة التي تبذلها الأمم المتحدة لإنهاء الصراع الليبي. فإن طبّقت الجهات الفاعلة الخارجية الالتزامات التي تعهدّت بها في برلين، بإمكان التركيز أن ينتقل إلى المرحلة التالية من اقتراح الأمم المتحدة حول ليبيا، أي محادثات داخلية ليبية حول مجموعة من القضايا، بما فيها الأمن والاقتصاد والمالية والسياسة. لكن لا بدّ من التذكّر بأنّ الخطط للمحادثات الداخلية الليبية في أواسط أبريل دفعت إلى اتّخاذ حفتر قراراً بمهاجمة بطرابلس لأنّه يفضّل ذلك على التعامل مع ليبيّين تختلف رؤيتهم للبلاد عن رؤيته. بعبارة أخرى، لا يكفي للجهات الفاعلة الخارجية بالانتقال الآن إلى دور هامد فحسب، بل عليها استعمال نفوذها لإقناع حلفائها الليبيين بالتلاقي ووضع ترتيبات سياسية لإعادة توحيد البلاد.

Authors