Commentary

كيف ننقذ سوريا ونحمي الجنود الأمريكيين

A convoy of U.S. vehicles is seen after withdrawing from northern Syria, on the outskirts of Dohuk, Iraq, October 21, 2019. REUTERS/Ari Jalal     TPX IMAGES OF THE DAY - RC115088E3F0

ليست المرّة الأولى التي تكون فيها السياسة الأمريكية حيال سوريا فوضوية منذ اندلاع الحرب الأهلية في العام 2011. ففي العام المنصرم، وعد الرئيس ترامب بسحب القوّات الأمريكية التي يقارب عددها الألفي جندي والمتمركزة في شمال شرق البلاد عقب الهزيمة الأرضية لتنظيم الدولة الإسلامية، ثمّ غيّر رأيه بعد استقالة وزير الدفاع آنذاك جيم ماتيس نتيجة هذا القرار المفاجئ.

وفي وقت سابق من هذا الخريف، أعلن ترامب مرّة أخرى أنّ القوّات الأمريكية (وبلغ عددها بحلول تلك الفترة قرابة ألف جندي) ستغادر البلاد قريباً، وسَحَب على الفور أعداداً صغيرة من مواقعها على طول الحدود السورية التركية، حيث خطّط الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لشنّ عملية عسكرية ضدّ الأكراد ذاتهم الذين ساعدوا الولايات المتحدة على هزْم تنظيم الدولة الإسلامية. وفي إمعان بهذا النهج المتقلّب، قرّر ترامب بعد ذلك أن يُبقي على قرابة 600 عنصر في البلاد (مدعومين بنحو خمسة آلاف جندي في العراق وعدد موازٍ على الأقلّ في قاعدة العديد الجوية في قطر وقوّات أمريكية في الكويت وتركيا والبحرين والممرّات البحرية المجاورة أيضاً).

بيد أنّ الالتباس ما زال سيّد الموقف. فبعيداً عن أنّه من الواضح أنّ ترامب لا يستطيع أن يتّخذ قراراً نهائياً بخصوص بقاء الجنود أم مغادرتهم، تبقى المهمّة اليومية للقوات الأمريكية في سوريا وفي جوارها غير واضحة المعالم. فترامب يقول إنّ الولايات المتحدة متمركزة في البلاد “لحفظ النفط” الذي تُنتجه سوريا في مناطقها الشرقية النائية. بالمقابل، يشدّد قادته العسكريون على أهداف المهمّة المناهضة لتنظيم الدولة الإسلامية (فما زال الكثير من محاربي التنظيم في سوريا أو محتجزين لدى الأكراد أم مختبئين). أخيراً، تساعد القاعدة الأمريكية في التنف قرب الحدود الإيرانية على ردع الطموحات الإيرانية في المنطقة، وهذا من المفترض أيضاً أنّه مسألة مهمّة لإدارة ترامب على مستوى من المستويات.

وما هو غير واضح بشكل أساسي أيضاً هو كيفية ارتباط أيّ من هذه الأمور بالتحدّي الأكبر القاضي بإنهاء الحرب الأهلية في سوريا، وهو أمر لربّما أصبح في طيّ النسيان بالإجمال في الولايات المتحدة، لكنّ نهاية الحرب ما زالت بعيدة المنال. إذ يبقى مصير المنطقة الشمالية الشرقية في البلاد متقلّباً، بما في ذلك إن كان السكّان هناك سيحظون بأيّ نوع من الاستقلالية. ويبدو الرئيس السوري بشار الأسد، مع حزب الله وإيران وروسيا الحليفة له، غير واثقين من طريقة التعامل مع محافظة إدلب في الشمال الغربي، مع سكّانها البالغ عددهم ثلاثة ملايين شخص، بمن فيهم المحلّيون والمهجّرون داخلياً ومجموعة لا بأس بها من المحاربين الجهاديين السلفيين أيضاً. وقد لا يكترث ترامب كثيراً لهذه المسألة، لكن من الممكن أن تتأجّج الحرب وأن تُعرّض حلفاء الولايات المتحدة والقوّات الأمريكية لخطر جديد.

المشكلة في المقاربة الحالية

ما الذي ينبغي فعله؟ مع أنّ الرئيس ترامب ليس الرئيس الأمريكي الأوّل الذي يحجّم سياسته الخاصة حول سوريا أو يتناقض معها، نحن مدينون، بالحدّ الأدنى، لجنودنا المتمركزين في سوريا باعتماد مهمّة واضحة، وبإجراء سلامة أيضاً.

ومن شأن الغموض حيال التزام واشنطن بالمهمّة والغموض حول مواقع المراكز الأمريكية ضمن البلاد أن يؤدّيا إلى فشل الردع. فبإمكان إيران أو متعاقد عسكري خاص داعمٍ لروسيا، على غرار مجموعة واغنر، أن يهاجم المواقع الأمريكية على أمل أن تتخّلى الولايات المتحدة التي تتفادى أن يتعرّض جنودها لإصابات عن المهمّة على غرار الطريقة التي غادرت فيها القوّات الأمريكية لبنان بعد التفجير الكارثي لثكنة مشاة البحرية الأمريكية في العام 1983 أو الطريقة التي انسحبت الولايات المتحدة فيها من الصومال بعد مأساة سقوط طوّافة البلاك هوك في العام 1993. وفيما يبدو من غير المرجّح أن تهاجم القوّات السورية والروسية والتركية المواقع الأمريكية هجوماً مباشراً فتخاطر بوقوع أزمة أوسع، من الممكن أن يؤدّي الغموض حول نيّة القوّات الأمريكية بالبقاء إلى اشتباك غير متعمّد، مع إمكانية للتصعيد.

والجزء الأول من العمل التصحيحي الضروري للسياسة الأمريكية غير معقّدً. وفي حين أنّه من المؤسف أنّ الرئيس ترامب تخلّى عن رقعة من الأراضي في شمال شرق سوريا لصالح أردوغان وتركيا، مولّداً بذلك فرصاً للقوّات السورية التابعة للأسد والقوّات الروسية للدخول إلى مناطق لم يسيطروا عليها سابقاً، لم يتمّ فقدان كلّ شيء في الشمال الشرقي. فالتهديد بفرض عقوبات أمريكية قاسية على تركيا يمكنه أن يحدّ من نطاق أي عمليات تطهير عرقي تركية في المنطقة، وفي وسع حضورٍ أمريكي مستدام في أجزاء أخرى من الشمال الشرقي أن يُثبط تركيا من التوغّل كثيراً نحو الجنوب. في غضون ذلك، تبقى الحُجج الرئيسية الثلاثة التي عبّرت عنها الولايات المتحدة في الأشهر الماضية للبقاء في الشمال الشرقي السوري صالحة: قمْع تنظيم الدولة الإسلامية والحدّ من فرص إيران وحماية النفط، أجل حماية النفط (مع تدفّق العائدات للسوريين وليس لواشنطن!). وما علينا سوى أن نكون أكثر اتساقاً في الإعلان عن أنّ هذه الأهداف الثلاثة كلّها مشروعة. بما معناه أنّ القوّات الأمريكية ستبقى في البلاد في المستقبل المنظور. وما زال باستطاعة الرئيس ترامب الادّعاء أنّه احترم جوهر وعوده الأساسية التي قطعها لسوريا في الحملة الانتخابية الرئاسية في العام 2016، فخلافة الدولة الإسلامية سقطت، بفضل الاستراتيجية التي اتّبعها هو والرئيس أوباما، وانخفض عدد القوّات الأمريكية بمقدار الثلثَين منذ تاريخ تبوّؤ ترامب سدّة الرئاسة.

وماذا بشأن اعتماد استراتيجية أوسع لإنهاء الحرب وإعادة اللاجئين السوريين إلى ديارهم (قدر الإمكان) من تركيا والأردن وخصوصاً لبنان والقيام بما يكفي لإحلال الاستقرار في سوريا لكي لا يبرز تنظيم دولة إسلامية جديدٌ ردّاً على حكم الأسد السيّئ المستمرّ وعلى الفقر المدقع والبؤس الشديد في البلاد؟ طبعاً ما من خيار ممتاز متاح. فنحن للأسف في مرحلة من الحرب نجح فيها الأسد وحلفاؤه بدون شكّ في تحقيق معظم أهدافهم، ولم تحظَ الولايات المتحدة في عهد رئيسين بالإرادة ولا بالشركاء المحلّيين القادرين على تغيير هذا الواقع الأساسي. ومع أنّ الاغتيال أو الانقلاب يَبقيان دائماً احتمالَين بعيدَين على الأقلّ، لن يُهزم الأسد في ساحة المعركة ولا يُمكن إقناعه من خلال أيّ عملية للأمم المتحدة بالتفاوض للتخلّي عن السلطة لصالح حكومة مُنتخبة ديمقراطياً. ولطالما كان هذا الهدف الأخير غير واقعي، ولا سيّما منذ دخول روسيا إلى الحرب في العام 2015، وبالتالي بات هذا الهدف بحلول الوقت الراهن فكرة مستحيلة ببساطة. لذا ينبغي التخلّي عنها بالقانون وبحكم الواقع.

لكن ما زالت الولايات المتحدة والجهات الحليفة لها تتمتّع ببعض النفوذ. فهي تتحكّم بقدرة وصول سوريا إلى الأموال، التي هي على شكل مساعدات محتملة من الولايات المتحدة وأوروبا واليابان والدول الخليجية والبنك الدولي، وأيضاً من خلال رأس المال الخاص، والتي ستحتاج إليها البلاد والتي ستبلغ قيمتها عشرات المليارات من الدولارات من أجل إعادة إعمار البلاد واقتصادها. وبإمكان روسيا أن تقدّم بعض المساعدة، لكنّها، على غرار إيران، تواجه عقوبات غربية ولا يمكنها أن تشكّل بديلاً عن الدول والمؤسّسات التي تمتلك الأموال الضخمة. كذلك، كما يشير الرئيس ترامب بحق (حتى لو فعل ذلك لمرّات تفوق اللازم وبصراحة زائدة)، تتحكّم الولايات المتحدة في الوقت الراهن بقدرة الوصول إلى النفط السوري.

لنعقد اتفاقاً

بالتالي، يمكن تصوّر اتفاق ما.

من الممكن أن يبدو الجزء الأول منه كالتالي، ومن الممكن أن يحدث بسرعة لا بأس بها: علينا أن نطالب بدرجة من الاستقلالية للأكراد وغيرهم في شمال شرق سوريا، حيث يمكننا المساعدة على تمويل عملية إعادة إعمار كبيرة على الفور، فضلاً عن الحمايات الأساسية لخصوم الأسد السياسيين في أرجاء البلاد، بالإضافة إلى منع إلقاء البراميل المتفجّرة أو غيرها من الهجمات العشوائية ضدّ المدنيين. (يمكننا أيضاً الاتّفاق على نوع من التعاون السوري الروسي التركي الأمريكي غير الرسمي لملاحقة فلول تنظيم الدولة الإسلامية والجهاديين الآخرين.) ويمكن السماح للأسد عندئذ بالوصول إلى معظم عائدات بلاده من النفط لينفقها على الحاجات الإنسانية الأساسية (كما هو الحال مع برنامج “النفط مقابل الطعام” العراقي الذي وُضع في التسعينيّات). ويمكنه أيضاً تلقّي مساعدات إنسانية أساسية من العالم الخارجي، لكن من دون مساعدات لإعادة الإعمار بعد.

ثمّ في الجزء الثاني من الاتفاقية، إن أرادت سوريا الوصول إلى كمّيات أموال أكبر من أجل إعادة الإعمار وإنعاش الاقتصاد الفعليين، على الأسد الرحيل في نهاية المطاف. فيداه ملطّختان جدّاً بالدم لدرجة تحول دون اعتباره قائداً موثوقاً جامعاً لكلّ شعب بلاده في المستقبل أو شخصاً صالحاً لاستلام كمّيات كبيرة من الأموال المقدّمة كمساعدات دولية. لكن لا يجوز أن نتوقّع منه التنحّي لصالح حكومة تخلفه مُنتخبة ديمقراطياً (تكون بالتالي ذات أغلبية سنّية بدون شكّ)، فهذا ضرب من الخيال، بل علينا أن نسمح له، ضمن المعقول، باختيار خلفه، شرط أن يكون هذا الشخص أقلّ تورّطاً في جرائم الحرب وذا خلفية تكنوقراطية أكثر. وينبغي أن تتمثّل المجموعات الإثنية والطائفية السورية المختلفة في حكومة جديدة وفي القيادة العتيدة للقوّات المسلّحة. لكن علينا في هذه الحال أن نتقبّل الواقع بأنّ الأسد لن يتخلّى عن زملائه العلويين أو الأقليات أو الحلفاء الآخرين لصالح حكومة أكثرية منتخبة ستنتقم على الأرجح من تلك المجموعات ذاتها. أما الأسد فيمكنه إما البقاء في البلاد أو طلب اللجوء، حسب ما يراه مناسباً.

قد لا يلقى الجزء الثاني من هذا الترتيب إعجاب الأسد، وبالفعل يمكن الأخذ بالجزء الأول وحده، أقلّه لبعض الوقت، حتّى من دون الاتفاق الإضافي. لكنّ حلفاءه من العلويين والآخرين، من بينهم روسيا، سيرغبون على الأرجح في الجزء الثاني أيضاً، إذ يمكنهم تثبيت فوزهم بالحرب ونيل المساعدة في إعادة إعمار البلاد. وعلينا نحن في الغرب أن نبتلع الموس بعض الشيء للقيام باتفاق كهذا. فالخيارات ليس بكثيرة للأسف. فبعد ثماني سنوات من العبَث، ينبغي أن تنال استراتيجيةٌ تمنح أملاً بتحقيق استقرار داخلي وإقليمي وتنهي العذاب الإنساني المُرتبط بصراع أسفر عن مقتل نصف مليون شخص وتشريد 12 مليوناً الأولويةَ قبل أيّ شعور بالعفّة والنقمة الأخلاقيتَين. وسيفهم أخيراً هؤلاء الجنود الستمئة المتمركزون في الشرق، وسنفهم نحن والباقون، الأهداف اليومية والأهداف الكبرى للمهمة في المنطقة.

قد لا تستحقّ نتيجة كهذه لسوريا جائزة نوبل للسلام، لا بل يمكن اعتبارها إبراماً لصفقة مع الشيطان. لكنّها ستكون إنجازاً ومدعاة للفخر لأيّ شخص يقدر على تحقيقها، نظراً إلى البدائل الواقعية ونظراً إلى تاريخ سوريا المفجع منذ العام 2011 حتّى الآن.