Commentary

الولايات المتحدة لم يعد لها أهمّية في سوريا

Turkish army tank is being unloaded on a road near the Turkish border town of Ceylanpinar, Sanliurfa province, Turkey, October 18, 2019. REUTERS/Stoyan Nenov - RC1C41D0BF40

لقد أطلق التوغّل العسكري التركي في شمال شرق سوريا الأسبوع الماضي أزمة إنسانية سمحت الولايات المتحدة فعلياً بحصولها، بعد أن أعطى الرئيس ترامب الضوء الأخضر للبدء بالعملية التركية ثمّ سحب ألف جندي أمريكي من المنطقة. فشكّل ذلك خيانة لأكراد سوريا الذين أدّوا دوراً محورياً في الحرب على المجموعات الجهادية مثل تنظيم الدولة الإسلامية وخسروا 11 ألف مقاتل في جهود هذه الحرب.

وأمس أشيع أنّ واشنطن وقّعت اتفاقية وقف إطلاق نار مع أنقرة تفرض على المقاتلين الأكراد في وحدات حماية الشعب الانسحاب من “المنطقة الآمنة” التي تقترح تركيا إقامتها على حدودها بعمق 32 كيلومتراً. لكنّها اتفاقية ترتكز على أساس هشّ للغاية ومطروحة بناء على افتراضات مغلوطة جداً، فهي تفترض أنّه ما زالت للولايات المتحدة أهمّية في سوريا، لكن في الواقع لم يعد لها أهمّية.

ومع أنّ البيت الأبيض احتفل بهذه الاتفاقية، سبق أن رفضت الحكومة التركية الفكرة التي تقول إنّها وافقت على وقف إطلاق نار. فقد قال وزير الخارجية التركي إنّ الاتفاقية تفضي إلى تعليق الاعتداءات ليس إلا. وبالفعل تفسير الحكومة التركية للاتفاقية هو الأنسب. فلا تنصّ أحكام وقف إطلاق النار هذا صراحة على نطاق المنطقة التي ستخضع للسيطرة التركية، مع أنّ قوّات روسيةً وأخرى تابعة للنظام السوري منتشرة أصلاً في المنطقة التي أعلنت عنها الإدارة الأمريكية والتي يبلغ عرضها 32 كيلومتراً.

وتشير التقارير اليوم إلى أنّ تركيا ما زالت تقصف الشمال الشرقي. وما دامت الاتفاقية تفتقر إلى التفاصيل وأُبرمت بغياب قوات سوريا الديمقراطية أخذت تبدو أكثر فأكثر كمحاولة ساذجة لتحويل الضغط المحلّي والدولي بعيداً عن البيت الأبيض بسبب خيانته الأكراد. أما تركيا فلديها أسباب كثيرة تدفعها للاحتفال، حتّى ولو أنها ما زالت بعيدة عن تحقيق الأهداف التي عزمت على تحقيقها منذ المباشرة بعملية التوغّل. فقد أمّنت دعماً أمريكياً علنياً لتدمير هيكليات الحكم والأمن التابعة لوحدات حماية الشعب ودعماً أمريكياً علنياً لمحاولاتها الاستيلاء على مساحات كبيرة واستراتيجية من الأراضي السورية.

ولم تشرّع الاتفاقية التي أُبرمت البارحة العمليةَ التركية وتهجيرَ السكّان المحلّيين فحسب، بل فعلياً وضعت آخر مسمار في نعش الأهمّية التي تحظى بها الولايات المتحدة في سوريا أيضاً. وهي تمثّل نهاية مؤسفة أخرى للتدخّل الأمريكي في منطقة صراع، وهي توازي الانسحاب من العراق في العام 2011 الذي عجّل ظهور تنظيم الدولة الإسلامية وقوّى نفوذ إيران في العراق ووسّعه بشكل كبير.

وكان للولايات المتحدة دورٌ مهمّ في شمال شرق سوريا، على الرغم من انتشار ألف من جنودها فقط في البلاد. فهذا عدد ضئيل مقارنة بعشرات الآلاف الذين نشرتهم الدول المعادية لها. بيد أنّه على الرغم من الحضور الأمريكي المحدود، كان الشمال الشرقي فعلياً محمية أمريكية والجزء الأكثر استقراراً في البلاد الذي كان بمنأى عن الصراعات والاضطرابات الدامية التي لفّت باقي البلاد، وهذا الأمر ليس وليد الصدفة.

فقوّة الحضور الأمريكي الصغير تتضاعف لأن للولايات المتحدة في المنطقة بنيةً تحتية عسكرية ضخمة ما من منافس ولا منازع لها، وهذا واقع أدركته القوى المتحالفة مع النظام السوري بعد تجربة مريرة في فبراير 2018 عندما واجهت القدرات العسكرية الأمريكية المتفوّقة والجبّارة بعدما حاولت القيام بهجوم على القوّات الأمريكية. بعبارة أخرى، لا تتمحور القوّة العسكرية الأمريكية في سوريا حول جنودها في الميدان بل حول حضورها الإجمالي في الشرق الأوسط. ويعطيها هذا القدرة على فرض قواعد وحدود للحرب والتشجيع عليها، مثلما فعلت في الشمال الشرقي، ولكنّ ذلك لا يتمّ إلا بوجود الإرادة والعزيمة السياسيتين.

وما زال بإمكان الولايات المتحدة التهديد أو فرض العقوبات، ممّا قد يثني عن وقوع أسوأ العمليات التركية الممكنة، لكنّ نفوذها ضمن سوريا تلاشى الآن، شأنه شأن العازل عن نظام الأسد وداعميه وروسيا وإيران. فالعملية العسكرية التركية هديّة لتلك الجهات الثلاثة كلها. إذ أنّ انسحاب القوّات الأمريكية يُبعد حاجزاً مهماً من أمام محاولاتها لتوسيع امتدادها ونفوذها. وبفضل الدعمَين الروسي والإيراني، بات نظام الأسد الآن أقرب من استعادة “كلّ متر” من الأراضي التي خسرها في خلال الصراع، كما وعد بشار الأسد نفسه في العام 2016. وباتت روسيا، الراعي الأهمّ للنظام والقوّة المسيطرة في الأجواء السورية، الآن القوة العسكرية الأقوى في سوريا والآمر الناهي الأهمّ في البلاد بدون منازع، وذلك بفضل سنوات من الإرادة الصلبة والالتزام القوي بأهدافها الاستراتيجية. بالتالي، لن تتحرّك الجهات الفاعلة القليلة الباقية في سوريا بعد الآن من دون إيعاز روسي.

وستنظر إيران إلى هذه التطوّرات بسرور وهي أقرب إلى تأمين جسرها البرّي الذي يربط طهران ببيروت والشرق الأوسط. فقد اقتربت قوّاتها نحو المناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد من الجنوب. فإيران لم تعد مضطرّة لمواجهة الجيش الأقوى في العالم، بل ستكون واثقة من حظوظها بطرد تركيا والميليشيات العربية الوكيلة لها التي لبعضها صلات بتنظيم القاعدة وفروعه.

ويمثّل هذا الانهزام حكاية مؤسفة من الفرص الضائعة للولايات المتحدة نتيجة إهمال وتصرّفات خاطئة على مدى عهدين من الإدارات الأمريكية. فمسألة الاستقلالية التركية في سوريا كانت وما تزال إلهاء عمّا كان يجدر به أن يكون جهداً منسّقاً وأكبر لمنع نظام الأسد من التحلّي بصلاحية مطلقة في سوريا. وهذا الجهد كان ليخفّف تداعيات الصراع بين تركيا ووحدات حماية الشعب. بعبارة أخرى، لم تكن قضية وحدات حماية الشعب لتُحلّ بغياب استراتيجية متعدّدة الأوجه تعالج العناصر الهيكلية الأوسع للأزمة الراهنة، بما في ذلك مستقبل الأراضي غير الخاضعة للنظام ودور الجهات الفاعلة الكردية وغير الكردية ونفوذها في الشمال الشرقي وبشكل أساسي الدور الذي تريد الولايات المتحدة والدول الأوروبية الحليفة لها تأديته. لكن لم يرِدْ أحد في واشنطن أو أوروبا تطبيق استراتيجية كهذه.

لقد شكّك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه الحاكم حزب العدالة والتنمية في السابق بالمنطق القائل بملاحقة حزب العمال الكردستاني لما بعد الحدود التركية في الوقت الذي لم تعالج تركيا هذه المسألة في الداخل بعد. بالفعل، إنّ عدم استفادة تركيا من دروس الماضي قد يغدو هاجساً لا يفارق بالها في المستقبل القريب. فمغامرية تركيا العسكرية في سوريا منفصلة عن قدرتها على تأسيس عمليات انتقالية بعد الصراع شاملة قابلة للاستمرار، كما برهنت على ذلك تداعيات عملية غصن الزيتون في عفرين. والنتيجة النهائية أنّ حدود تركيا ستكون أقلّ أماناً. وفي الداخل، تخاطر تركيا بدفع الملايين من الأكراد نحو التطرّق، ممّا سيزيد أعداد المنتمين إلى حزب العمّال الكردستاني ويشدّ عزيمة تمرّدهم.

وراهنت أنقرة على أنّ الأسد وروسيا سيقمعان وحدات حماية الشعب، غير مدركة لتاريخ التعاون الواقعي ولا للاحتمال الكبير جداً بأنّ الهيكليات الإدارية الأمنية لدى وحدات حماية الشعب، عوضاً عن أن تصبح مفكّكة، قد تخضع لعملية تغيير وتعمل ضمن الحدود التي يحدّدها النظام السوري وروسيا والتي لن تروق بالضرورة لأنقرة.

عانت الولايات المتحدة انخفاضاً كبيراً في العمق الاستراتيجي في منطقة معادية حيث الجهات الفاعلة المتحالفة مع الغرب مثل وحدات حماية الشعب قد لا تكون راغبة في تنفيذ طلبات الولايات المتحدة في المستقبل. والمهمّ أنّ الولايات المتحدة خسرت البنية التحتية الأمنية والمخابراتية التي أسّستها وحدات حماية الشعب، وكانت هذه البنية حاسمة في الوقاية من هجمات تنظيم الدولة الإسلامية في الغرب. وقد تفاقم هذا الخطر بسبب الأعداد الكثيرة من الجهاديين الذي فرّوا من مراكز الاعتقال. إنما الانسحاب الأمريكي من سوريا انسحاب مؤسف وخطير وغير ضروري على الإطلاق.

 

Authors