Commentary

معنى الانسحاب الأمريكي من سوريا بالنسبة إلى تنظيم داعش وإيران والحلفاء الأكراد

A man gestures at U.S military vehicles driving in the town of Darbasiya next to the Turkish border, Syria April 28, 2017. REUTERS/Rodi Said     TPX IMAGES OF THE DAY - RC15AC3FC730

يأتي إعلان ترامب بأنّ الولايات المتحدة ستسحب قواتها من سوريا في وقت حرج للمنطقة، حيث أنّ الجهات الفاعلة المختلفة المتورّطة بالحرب تحضّر للنظام السياسي لمرحلة ما بعد الصراع في سوريا والحملة بقيادة الولايات المتحدة تحاول القضاء على جيوب المقاومة الأخيرة لتنظيم داعش. 

وقد يبدو انتشار قرابة ألفَي جندي أمريكي انتشاراً قليل العدد، لكن في المسألة صورة مهمة أوسع. بداية، إنّ لإبقاء الجنود في سوريا رمزيةً كبيرة. علاوة على ذلك، يتعاظم الوجود الأمريكي بشكل شبه دائم بفعل البنية التحتية العسكرية الضخمة التي تتمتّع بها الولايات المتحدة في المنطقة والتي لا ندّ لها ولا منازع. وقد تعلّمت القوى المتحالفة مع النظام السوري هذا الأمر إثر ضربة موجعة تلقّتها في فبراير، ويدرك أعداء الولايات المتحدة أنّ جبروت القوّة العسكرية الأمريكية في سوريا قادرٌ على الامتداد بسرعة ليتخطّى انتشار جنودها على الأرض – لكن يبدو أنّ هذه النظرة اختفت. 

فقد يتيح الانسحاب الأمريكي بروزَ تنظيم داعش من جديد في سوريا والعراق على حدّ سواء وخلقَ فراغ من المرجّح أن يملأه نظام الأسد وإيران والتخلّيَ عن الحلفاء الأكراد (والعرب) على الأرض.

مشاكل المرحلة التي سبقت ترامب

لقد كانت الولايات المتحدة في هذا الوضع من قبل. فقد مرّ داعش، بتنظيمه السابق، أي تنظيم القاعدة في العراق، بمرحلة صعبة للغاية بعد أن عملت الولايات المتحدة بشكل أوثق مع قوى عراقية سنّية عربية محلّية عُرفت باسم “حركة الصحوة” من أجل مقاومة الجهاديين وتحرير شمال العراق. غير أنّ الجنود الأمريكيين انسحبوا في العام 2011 بأمر من الرئيس أوباما. وفي غضون ثلاث سنوات فقط، عاد الجهاديون إلى الظهور عن طريق السيطرة على مساحات شاسعة في سوريا والعراق، مستغلّين الحرب الأهلية السورية والتوترات الطائفية وانهيار القوّات العسكرية العراقية من خلال تأسيس بداية دولة لهم وإعلان نشوئها في يونيو 2014.

وكما أظهر أيضاً انسحاب أوباما من العراق في العام 2011، تتحلّى إيران بقدرة أكيدة وفعّالة لملء الفراغات التي خلّفتها الولايات المتحدة لترسيخ جهاتها الوكيلة وتقويتها، ممّا يُضعف بشكل مباشر مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة. ففي العراق، أدّى ذلك إلى قمع السنّة العرب وإنشاء مؤسّسات حكومية موازية وبروز ميليشيات شيعية طائفية مدعومة من إيران، فتمخّض عن ذلك كلّه ظلم وظروف أتاحت بروز تنظيم داعش في العام 2014.

معنى الانسحاب بالنسبة إلى تنظيم داعش

صحيحٌ أنّ تنظيم داعش قد خسر “الخلافة” وأنّه يشهد مرحلة تراجع، غير أنّه لم ينهزم بعد، لا بل يزال يشكّل تهديداً خطيراً على سوريا والعراق على حدّ سواء. ففي كلا البلدَين، تبيّن أنّ هذا التنظيم الجهادي قوّة عظيمة وعنيدة، محافظاً على جيوب مقاومة ضدّ القوى المحلّية في خضمّ محاولته لإعادة تشكيل نفسه، بالإضافة إلى إطلاقه حملةً من الاغتيالات والضراوة والابتزاز ضدّ المجتمعات المحلّية.

بعبارة أخرى، يرتكب ترامب الأخطاء عينها التي ارتكبها الرئيس أوباما. فسيتيح انسحاب ترامب من سوريا لتنظيم داعش إعادة إنعاش نفسه في الأشهر والسنوات المقبلة، وإلى إعادة ابتكار ذاته واستعادة السيطرة على أراضٍ تسود فيها بيئات من الصراع قد تساعد المجموعة على البروز لسنوات كثيرة قادمة. وسيحظى تنظيم داعش وغيره من المتطرّفين بحرّية أكبر في حشد السوريين السريعي التأثر الذين لهم شكاوى متنوّعة. ومع أنّ ترامب قد يعتقد أنّ روسيا ستأخذ على عاتقها مواجهة تنظيم داعش وأمثاله، يُظهر سجلّ موسكو في خلال الصراع واقعاً مختلفاً.

معنى الانسحاب بالنسبة إلى إيران

بعيداً عن الهواجس المتعلّقة بتنظيم داعش، لا شكّ في أنّ الانسحاب الأمريكي سيترك فراغاً أكبر سيملأه أعداء الولايات المتحدة. فقرار ترامب سيمكّن عشرات آلاف العناصر الوكلاء لإيران في سوريا، أو مزيج من أولئك العناصر والقوى المتحالفة مع النظام السوري.

وفي سوريا، ستحظى إيران بقدرة فريدة على رسم معالم المشهد السياسي نتيجة انسحاب ترامب، إذ ستكسب الجرأة على التأثير أكثر في سياسات سوريا واقتصادها وقطاعها الأمني، بالإضافة إلى موارد إعادة الإعمار التي قد يضخّها المجتمع الدولي في البلاد في مرحلة ما. وسيساعد الانسحابُ إيرانَ من الناحية الاستراتيجية، فيمنحها مساحة أكبر لاستئناف الجسر البرّي الذي لطالما سعت إليه والذي يربط طهران ببيروت والمتوسّط مثلاً. بشكل عام، سيكون للانسحاب الأمريكي تداعيات في أنحاء المنطقة، مرجّحاً كفّة ميزان القوّة أكثر لصالح إيران.

ويأتي كلّ هذا في وقت وضعت فيه العقوبات الأمريكية، بالإضافة إلى التوغّلات الإسرائيلية في سوريا، إيرانَ تحت ضغط كبير في الأشهر الأخيرة. فمن خلال إبقاء الولايات المتحدة على جنودها في الشرق، ضيّقت الخناق على إيران وقدّمت لبعض السوريين متنفّساً من الصراع.

معنى الانسحاب بالنسبة إلى حلفاء الولايات المتحدة في سوريا

أخيراً، يشكّل الانسحاب الأمريكي خيانةً لحلفاء الولايات المتحدة، أي تلك المجموعات على الأرض التي هي مَن قاتلت وهرقت الدماء والتي تتضمّن العناصر الكردية والعربية من قوّات سوريا الديمقراطية. فقد اعتُبر تاريخياً دعم الأكراد، الذين غالباً ما يتشاطرون القيم الغربية ويتوقون إلى شراكة مع الولايات المتحدة في وجه قمع الجهات الفاعلة الإقليمية، ضرورةً أخلاقية.

وتكمن المشكلة طبعاً في أنّ وحدات حماية الشعب (YPG) فرعٌ من فروع حزب العمّال الكردي (PKK)، الذي تعتبره تركيا والولايات المتحدة تنظيماً إرهابياً. بالتالي، أدّى التعاون بين الولايات المتحدة ووحدات حماية الشعب في سوريا إلى بروز معضلة شائكة إزاء تركيا، حليف الولايات المتحدة في منظّمة حلف شمال الأطلسي. غير أنّ اللوم يقع على واشنطن وأنقرة سواسية لعجزهما عن وضع استراتيجية مستدامة وصالحة جعلت من وحدات حماية الشعب جهةً فاعلة مقبولة أكثر، عن طريق تمكين خصومها وجعل الدعم الأمريكي للمجموعة مشروطاً باستعدادها لتشاطر السلطة مع جهات فاعلة أخرى وجدتها تركيا مقبولة أكثر.

وقصّرت الولايات المتحدة في تطوير شراكاتها مع الجهات الفاعلة من غير الدول في الشرق الأوسط والاستفادة منها، بما فيها المجموعات الكردية والعربية في سوريا والعراق. فلا تعطي واشنطن، على عكس خصومها في المنطقة، قيمةً كافية لأهمّية هذه المجموعات الطويلة الأمد في محولاتها للتأثير في المشهد السياسي. وقد لا تجد الولايات المتحدة في المستقبل شركاء راغبين، بما فيه خارج المشرق العربي، في أماكن مثل ليبيا وأفغانستان.

ومن المرجّح أن تدخل وحدات حماية الشعب في المستقبل في مفاوضات مع النظام السوري لإحباط التوغّلات التركية الواسعة النطاق والإبقاء على حدّ معيّن من الاستقلال الذاتي. فبطريقة أو بأخرى، ستستمرّ وحدات الشعب بكونها عنصراً ثابتاً في هيكليات سوريا السياسية والحاكمة. في غضون ذلك، سيخفّ النفوذ الأمريكي أو يختفي.

أين يتركنا هذا الوضع؟

باختصار، يعني الانسحاب الأمريكي من سوريا أنّ: بإمكان تنظيم داعش أن يعاود تجميع قواه ويعاود الظهور وأنّ إيران ستحظى بمركز أقوى في البلاد وأنّ الحلفاء الأكراد سيُجبَرون على الأرجح على إبرام صفقة مع نظام الأسد. ويترك ذلك نظامَ الأسد وشريكَه المهيمن على الأرض، إيران، الفائزَين المرجّحَين في هذه النكسة.