Commentary

وطن منقسم: لماذا قد يكون تقسيم ليبيا السبيل الوحيد للحفاظ عليها؟

Libyan forces allied with the U.N.-backed government take cover during a battle with Islamic State fighters in Sirte, Libya, July 15, 2016. REUTERS/Goran Tomasevic/File Photo - RTSLTSD

التاريخ يعيد نفسه، هذا ما يُقال غالباً. ليس الصراع – ذلك الذي ولد من رحم الانقسامات الداخلية وأحياناً القبلية وتغذى منها –الذي تواجهه ليبيا المعاصرة إلا التكرار الأحدث لنمط طويل الأجل. وفقاً لما اكتشفه الإيطاليون خلال فترة استعمارهم لليبيا، ولما اكتشفته داعش حين احتلت مدينة سرت، ولما اكتشفه المجتمع الدولي مؤخراً بأشكال متنوعة، ليبيا هي دولة مقسمة تقسيماً عميقاً. سيظلّ الليبيون العدو الأـسوأ لأنفسهم ، من دون أي مقاربة حقيقية لذلك الواقع – بما في ذلك ربما إرساء نموذج كونفدرالي خاص بليبيا.

 في الماضي

شكّلت الانقسامات القبلية في ليبيا منذ القدم حقيقة واقعة للإيطاليين الذين احتلوا هذه الدولة الواقعة في شمال أفريقيا منذ العام 1912 بعد أن انتزعوها من تركيا، وحتى العام 1943، حين خسروها لصالح البريطانيين. . هذا وقد استخدمت إيطاليا أيضاً تلك الانقسامات لصالحها منذ أوائل العام 1928، حين هزمت قبائل المغاربة المتمردة وآخرين – ممن قاتلوا الجيش الملكي الإيطالي، وقاتلوا كذلك وقبل كلّ شيء بعضهم بعضاً. احتل الإيطاليون ممر سرت، وهو خطّ فاصل مثالي، واستولوا على واحات الجفرة، وزله، وأوجله، وجالو، المعزولة في صحراء برقة على بعد 150 ميل عن البحر الأبيض المتوسط. بعد فترة قصيرة، تشكلت مجموعات متنقلة من آلاف الجنود الإيطاليين، من إقليمي طرابلس وبرقة ضمن حركة مزدوجة (تكتيك الكماشة) مستهدفين المتمردين في ممر سرت، والذي سقط أيضاً.

سمحت هذه التطورات بتوحيد المستعمرتين، طرابلس وبرقة، تحت قيادة المشير بيترو بادوليو. وشكل ذلك تحولاً كبيراً: حتى تلك النقطة، ضمّت ليبيا حكومتين سياسيتين وقيادتين عسكريتين وإدارتين مختلفتين.

واجه الإيطاليون مجموعة هائلة من الخصوم، وأحسنوا صنعاً في التشجيع على استخدام الفرق المتوفرة كافةً أرضاً وجواً، لينزعوا السلاح فوراً وبشكلٍ كامل من السكان ويحوّلوا حكومة ليبيا من حكومة عسكرية إلى حكومة سياسية في نهاية المطاف.

ثمة درس مهم في التاريخ هنا لليبيين والقوى الأجنبية التي تسعى لبسط نفوذها هناك: حين حاول الإيطاليون توحيد المنطقتين المنقسمتين أصلاً بعمق، واجهوا عدواً مندفعاً جداً يضم مقاتلين أشداء وخبراء جيدين في التضاريس ويحظون بدعم الشعب. وكان ذلك العدو يملك جميع متطلبات الفوز إلا أنه افتقر إلى أمر واحد: الوحدة.

 اليوم

بعد مرور فترة طويلة على مغادرة الإيطاليين ليبيا وحصول الأخيرة على استقلالها، بقيت مدينة سرت منطقة استراتيجية في البلاد. فقد كانت مسقط رأس الزعيم الليبي معمر القذافي الذي حكم البلاد لفترة طويلة وهي مكان نشأة الاتحاد الأفريقي في العام 1999. وحتى يومنا هذا، لا تزال سرت خط الاتصال الأساسي بين المنطقتين الرئيسيتين في ليبيا.

منذ عام، استولت داعش على هذه المدينة. ومذاك، قاتلت ميليشيات متنوعة – أتى نحو 70 بالمئة منها من مصراتة والبقية من مختلف أنحاء ليبيا. كانت المعركة أكثر من مجرد معركة – فقد قرر الليبيون في شوارع سرت إنشاء تحالفات ستحدد مصير بلادهم. باتت الميليشيات المتعادية تاريخاً حليفة الآن والعكس صحيح، في حين خسرت داعش الأرض وانسحبت إلى الكثبان الصحراوية، لتضع استراتيجيات أكثر مرونة.

إنّ الليبيين يكسبون المعركة، وليس الحرب. في ليبيا اليوم، لا تشكل داعش التهديد الرئيسي، ولم تكن كذلك يوماً من الأيام. لكن المشكلة الحقيقية في ليبيا هي الليبيون أنفسهم المشحونين بانقسامات داخلية، تماماً كما كانوا قبل قرنٍ من الزمان. يميل الكثيرون إلى اعتبار الوجود الأجنبي – حتى وإن كان حاسماً لتحقيق النصر، كما هي الحال الآن –تهديداً أكثر من كونه حليفاً حقيقياً. طلب رئيس الوزراء فايز السراج والعميد محمد الغصري (قائد عملية البنيان المرصوص) رسمياً مشاركة الغرب في الحرب ضد داعش. إلا أن ذلك الوجود، الذي كان حاسماً جداً من الناحية العسكرية، يمكن أن تكون نتائجه عكسية على الصعيد السياسي.

من اللافت في الحقيقة أن ألد أعداء الفريق خليفة حفتر(رجل طبرق القوي، المدعوم من الروس والفرنسيين) والصادق الغرياني (مفتي ليبيا الذي يعيش في طرابلس) –قد اتفقا على إدانة التدخل الأمريكي، لا بل وكذلك على ضعف فايز السراج. والسراج مشكلة أخرى، فقد تمّ اختياره لكونه معتدلاً، إلا أن اعتداله بدا على الأرجح سبب إخفاقه في وقتٍ كان بإمكان الكاريزما السياسية أن تُحدِث فرقاً. وليزيد الطين بلة، أعلن المبعوث الخاص لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا مارتن كوبلر، الأسبوع الماضي أن الدعم الذي تحظى به حكومة الوفاق الوطني “ينهار” وسط تزايد مشاكل الطاقة والانهيار السريع للعملة الليبية.

أما الموضوع الساخن الآخر، فهو كما جرت العادة، انخراط العقيد حفتر وجيشه الوطني في حكومة الوفاق الوطني. ولكن حالياً – وبفضل الدعم الأجنبي الخطير والغامض، بما في ذلك بشكل خاص الدعم الروسي – لا يبدو الفريق حفتر راغباً في منح حكومة الوفاق الوطني أي شيء. بعد عامين من الحرب الأهلية، لا تزال الأمور على حالها، وهو عارض واضح لمرضٍ أخطر بكثير: صراع وطني متجذر في الصراعات المحلية ذات الجذور التاريخية. لا شكّ أن عيوب القذافي كانت كثيرة، إلا أن عيوب الليبيين كثيرة أيضاً. اليوم، يتشارك الليبيون والقبائل التي سكنت البلاد منذ قرنٍ مضى في أموراً كثيراً، علماً أن كلا الطرفين يعيشان صراعاً دائماً للسيطرة على المراعي والأراضي. في النهاية، تبقى النتيجة واحدة: يقاتل الليبيون بعضهم بعضاً على الصعيد المحلي والإقليمي والوطني. اليوم، تماماً كما كانت الحال في العام 1928، يبدو أنّ الأطراف غير مستعدة لوضع مصالحهم الفردية الخاصة جانباً والالتفات إلى مصلحة الأمة العليا.

في عشرينيات القرن الماضي، انتصر الإيطاليون في ليبيا لأن تحركاتهم العسكرية والسياسية كانت صحيحة. صحيح، إلا أنهم انتصروا على الليبيين قبل كلّ شيء بسبب انقساماتهم. “فرّق تسد”، هذا ما قاله الرومان القدماء – وما فعله الجيش الملكي الإيطالي بشكلٍ صحيح، ويُعزى ذلك جزئياً إلى أن الليبيين كانوا أصلاً قد قسموا أنفسهم. مرّ قرنٌ على ذلك. غادر الإيطاليون البلاد، وقُتل القذافي، ويبدو أن المصير ذاته ينتظر داعش. ولكن مرة جديدة، يبدو أن ليبيا تواجه دائماً العدو الحقيقي ذاته: ليبيا. سيبقى الليبيون العدو الأسوأ لأنفسهم – إلا إذا تمكنوا، بالشراكة مع المجتمع الدولي، من التوصل إلى نموذج سياسي يستفيد من تنوعهم بدلاً من أن يحاول إلغاء هذا التنوع.