Commentary

المغرب: معضلة الملك

استحدث صمويل هنتنغتون، في كتابه الصادر عام 1968 تحت عنوان “النظام السياسي لمجتمعات متغيرة”، مصطلح “معضلة الملك” الذي يسلّط الضوء على إحدى المشاكل الرئيسة التي تواجه الأنظمة الملكية، وهي كيف تتحرر هذه الأنظمة دون أن تفقد السيطرة. وبالنسبة لهنتينغتون، كانت الخيارات واضحة: فإما أن “يحاول الملك الحفاظ على سلطته من خلال الاستمرار في التحديث لكن مع تكثيف القمع اللازم للمحافظة على السيطرة”، وإما أن يحوّل ملَكيته إلى ملكية دستورية حيث “يسود الملك ولكنه لا يحكم”.

بعد مرور ست سنوات على اندلاع الانتفاضات العربية، يواجه العاهل المغربي محمد السادس نسخته الخاصة من معضلة الملك. وتشكّل الأزمة الحالية في تشكيل الحكومة المغربية اختباراً مهماً له. فحزب العدالة والتنمية ذو التوجه الإسلامي فاز بأكبر عدد من الأصوات في خلال الانتخابات البرلمانية التي جرت في أكتوبر 2016، مما سمح لأمينه العام عبد الإله بنكيران أن يحافظ على منصبه كرئيس للحكومة. لكن نفوذ بنكيران أخذ يضعف بعد استمرار الفشل في محادثات تشكيل حكومة ائتلافية لمدة زادت على أربعة أشهر، وعرقلتها من قبل الأحزاب الموالية للقصر.

تشير الأزمة السياسية إلى أن الوعود التي أعقبت الثورات العربية عام 2011، بتقاسم السلطة والملكية الدستورية، لم يتم الوفاء بها. والانقسام اليوم هو أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، فالدولة لا تزال تعمل دون وجود حكومة برلمانية فعالة، من خلال نموذج الحكم التقليدي في المغرب: أي النظام الملكي وديوانه. كيف وصل المغرب إلى هذه الحال، وما الذي ينتظره في المرحلة القادمة؟

ربيع مغربي؟

رغم تاريخ المغرب المعروف بالتحرر الاقتصادي والسياسي، إلا أن النظام الحاكم لم ينجُ من فورة الثورات العربية عام 2011. ففي 20 فبراير 2011، خرج آلاف المغاربة إلى الشوارع في الكثير من مدن المملكة، مطالبين بالتغيير السياسي والاجتماعي – الاقتصادي.

قام أكثر من 40 جمعية وحزب بتشكيل ائتلاف عُرف باسم حركة 20 فبراير، ضمت في البداية مجموعات من مختلف الأطياف السياسية، بما فيها الأحزاب اليسارية العلمانية والجمعيات الإسلامية الأكثر تحفظاً. أدى هذا التحالف إلى رد فعل سريع من قبل الملك، واكب ارتفاع الأصوات المطالبة بالإصلاح.

بعد أسابيع من الاحتجاجات الواسعة، ظهر الملك محمد السادس في خطاب متلفز يوم 9 مارس وعد فيه بإصلاحات دستورية واسعة، تشمل تعزيز قوة البرلمان والحد من سلطة العائلة المالكة. وعيّن لجنة لصياغة دستور جديد، تم الاستفتاء عليه في 1 يوليو، والنتيجة كانت موافقة 98,5 في المئة من الناخبين على الدستور المغربي للعام 2011. أهم هذه التغييرات الدستورية تمحورت حول فصل السلطات بشكل أفضل، وتعزيز استقلال القضاء، وزيادة صلاحيات رئيس الوزراء (الذي بفضل هذه التغييرات سوف يأتي من الحزب الفائز بأكبر عدد من الأصوات في الانتخابات البرلمانية).

على غرار دول المنطقة الأخرى، أدت الفترة التي أعقبت الثورات الشعبية إلى ظهور حزب من التيار الإسلامي (برئاسة زعيمه السياسي منذ مدة طويلة). ففي حالة المغرب، تمثل التيار الإسلامي بحزب العدالة والتنمية وبنكيران، وذلك بعد الانتخابات البرلمانية التي جرت في نوفمبر 2011.

ورغم الإشادة الواسعة بالإصلاحات الدستورية والسرعة التي تمت بها معالجة الوضع، إلا أن معظم أعضاء حركة 20 فبراير اعتقدوا أن التغييرات لم تصل إلى المستوى المطلوب. وشككوا في مركزية النظام الملكي في تشكيل الدستور الجديد، وشعروا أيضاً أن مطالبهم لم تتحقق على نحو كاف. وشهدت الحركة انقساماً أفقدها زخمها مع انطلاق عملية إصلاح النظام الملكي. وبحلول نهاية العام 2011، تمحور السؤال الأكبر حول تقاسم السلطة بين حكومة بنكيران التي يقودها الإسلاميون من جهة، والملك وأعضاء مجلس الوزراء من جهة أخرى.

الحكم: ليس سهلاً كما يبدو في الظاهر

أخذت حكومة بنكيران نصيبها من المعارك السياسية بين عاميّ 2011 و2016. فلدى المغرب تاريخ حافل من سيطرة القصر على النظام السياسي المتعدد الأحزاب. ورغم أن جميع الأحزاب الرئيسية التي تشارك في الانتخابات يجب أن تبقى على مقربة من القصر، إلا أن هناك درجات متفاوتة من القرب، الأمر الذي يولّد انشقاقات في صفوف الأطراف المتحالفة. في البداية، شكل حزب العدالة والتنمية ائتلافاً مع حزب الاستقلال القوي والحركة الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية عند وصوله إلى السلطة في العام 2011.

وفي نهاية المطاف، برز حزب الأصالة والمعاصرة على الساحة السياسية من خلال قيادته لتحالف أحزاب المعارضة. وبما أنه تأسس على يد فؤاد عالي الهمة، مستشار الملك، في العام 2008، يُنظر إلى هذا الحزب على أنه مقرب بشكل خاص من القصر. وفي خلال هذه الفترة، حدث تغير في الائتلاف الحكومي بانسحاب حزب الاستقلال ليحل محله حليف رئيسي مقرّب من القصر، هو حزب التجمع الوطني للأحرار. ومع إعادة تنظيم الائتلافات الحزبية في خلال فترة حكم بنكيران، تراجعت سلطاته: والدليل هو أن أهم الوزارات (الداخلية والخارجية والمالية والشؤون الدينية) كان يقودها سياسيون من الأحزاب أو التكنوقراط المقرّبين من القصر.

وعلى الرغم من هذه القيود المؤسساتية الموضوعة على سلطات بنكيران وحزب العدالة والتنمية، إلا أنّ أولوياتهما في التحرر الاقتصادي، وتحقيق التوازن في الميزانية، ومكافحة الفساد حصدت تأييداً شعبياً في معظم المدن الكبرى في الانتخابات المحلية عام 2015. فحصل حزب الأصالة والمعاصرة على مقاعد أكثر في المناطق الريفية، في حين سيطر حزب العدالة والتنمية على مقاعد المدن.

وبعد أن حققت الانتخابات المحلية في العام 2015 مزيداً من النفوذ لحزب العدالة والتنمية على الصعيد المحلي- رغم عمل حزب الأصالة والمعاصرة كقوة معارضة في المناطق الريفية- برزت مخاوف حقيقية حول أي من هذين الحزبين سيفوز في الانتخابات البرلمانية للعام 2016. لكن الأمر انتهى بتفويض شعبي لدور حزب العدالة والتنمية، وخصوصاً لشخصية لرئيس الوزراء بنكيران السياسية. ورغم الهجمات المستمرة على بنكيران، حقق حزب العدالة والتنمية وائتلافه الحاكم 125 مقعداً، بينما حقق حزب الأصالة والمعاصرة 102مقعداً، الأمر الذي خلق تحديات أمام أي اتفاق ضمني بشأن تقاسم السلطة بين القصر ورئيس الوزراء والأحزاب السياسية الأخرى.

2006: المأزق

رغم أن سلطة حزب العدالة والتنمية على المستويين المحلي والوطني بدت آمنة كفاية لضمان قدر أكبر من تقاسم السلطة في النظام السياسي المغربي، إلا أن محادثات الائتلاف الحكومي انطلقت بشكل غير متكافئ. فعلى نحو مفاجئ، انضمّ وزير الفلاحة والصيد البحري عزيز أخنوش (أحد أثرى رجال الأعمال في المغرب، وصديق مقرّب من الملك) من جديد إلى حزب التجمع الوطني للأحرار. شكّل ذلك إشارة للأحزاب السياسية والمراقبين المنتقدين بأن القصر سيؤدي دوراً فاعلاً في تشكيل التحالف الحكومي المقبل.

قام حزب التجمع الوطني للأحرار، الذي يقوده الآن أخنوش، بتشكيل تحالف مع حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والاتحاد الدستوري والحركة الشعبية، لمعارضة خطط بنكيران بتشكيل حكومة ائتلافية، ما أدى إلى خلق سلسة من العراقيل وإلى بقاء البلد من دون حكومة مدة أربعة أشهر. إنّ الأزمة الحالية، كما وصفها المفكر المغربي المعطي منجب، هي “صراع وراء الكواليس على السلطة بين القصر وحزب العدالة والتنمية”.

معضلة الملك: نسخة المغرب

ما التالي؟ يتضح من تاريخ التعددية الحزبية في المغرب، أن القصر يتحكم في النظام من الداخل. فالحفاظ على حلفاء القصر في الأحزاب السياسية الرئيسية في كل من الحكومة والمعارضة، هو أساسي لسيطرة العائلة المالكة على السياسة المغربية. في الوضع الحالي، فإن أخنوش- الصديق المقرب من الملك- موجود في المقدمة، ومن المرجح أنه سيدخل التحالف الحكومي وسيؤثر في القرارات السياسية.

يعكس هذا الوضع استمرار تأثير القصر على النظام السياسي، إن لم يكن تكثيفه. وبالتالي، فإن الوعود التي قُطعت في العام 2011 بتقاسم السلطة ضمن نظام ملكي دستوري لم تُحقق.

إذا قرر القصر الدعوة لإجراء انتخابات أخرى – وإن استمرّت محاولات تهميش حزب العدالة والتنمية – قد يشوّه ذلك صورة المغرب وقصة نجاح العملية الديمقراطية التي روّج لها القصر بعد الثورات العربية. وعلاوة على ذلك، صحيح أنّه يمكن تهميش حزب العدالة والتنمية على المدى القصير، إلا أن هذه الاستراتيجية لن تكون مجدية على المدى البعيد، في حال تمكّن الحزب أن يحافظ على زخمه في صناديق الاقتراع في الانتخابات المحلية والوطنية. من ناحية أخرى، إن لم يتم تقليم أجنحة حزب العدالة والتنمية، فمن المحتمل أن يصبح أكثر شعبية وتأثيراً. وهنا تكمن معضلة الملك الكبرى.

Authors