Commentary

ما الحل لمشكلة الميليشيات الشيعية في العراق

Shi'ite fighters chant slogans in al-Fatha, northeast of Baiji, October 18, 2015. Iraqi forces backed by Shi'ite militia fighters say they have retaken a mountain palace complex of former President Saddam Hussein from Islamic State fighters, as government forces push ahead on a major offensive against the insurgents. REUTERS/Thaier Al-Sudani - RTS4Z0Y

يكاد يكون من المؤكد أنّ عملية تحرير الموصل ستنهي سيطرة الدولة الإسلامية على الأراضي في العراق وستكون المسمار الأخير في نعش ما يسمى بـ “دولة الخلافة”. ولكن ماذا بعد ذلك؟ يفتقر العراق إلى الموارد والقدرة على إعادة بناء البلدات والمدن التي دُمّرت منذ بدء الحملة ضد داعش، ولا شيء يضمن أن المجتمع الدولي سيملأ ذلك الفراغ.

يعاني العراق عواقب الفساد والطائفية وحكومة غير فعالة – بيد أن كل تلك العوامل ليست بجديدة. ولتصعيب الأمور أكثر على الدولة العراقية وشعبها، عليها أن تتعامل مع صعود الميليشيات الشيعية.

فهم المشكلة

برزت الميلشيات الشيعية، التي تشكل جزءاً من الغطاء للمجموعات الميليشية المتنوعة المعروفة باسم الحشد الشعبي، بسبب انتصاراتها في أرض المعركة ضد داهش بعد انهيار الجيش العراقي في العام 2014. تمت تعبئة أكثر من 100 ألف مقاتل شيعي (وبعض السنة العرب) لملء الفراغ الأمني – كما وساعد آية الله السيستاني عندما أصدر فتوى تدعو جميع العراقيين القادرين جسدياً على الدفاع عن بلادهم.

غالباً ما تتحدى جهات غير حكومية عنيفة حول العالم سيادة الدول وتضعفها. حتى أن داعش أعلنت نهاية نظام الدولة القومية الذي ساد منذ القرن الماضي في الشرق الأوسط. إلا أن التعامل مع الجهاديين سيكون بشكل مباشر أكثر مما هو مع الميليشيات الشيعية. وقد تشكلت أقواها كقوة معارضة لنظام البعث في الثمانينيّات والتسعينيات من القرن الماضي، أما الميليشيات الأخرى فقد نشأت بعد الفوضى والفراغ الذي أعقب حرب العام 2003. وهي تتداخل بشكل كبير ثقافياً ودينياً وسياسياً مع السكان الشيعيين المحليين وكذلك مع الدولة العراقية. حتى وأنّ بعض قادة الميليشيات الشيعية قد تولوا مناصب وزارية، كما وأنّ مقاتلوها قد خدموا – ولا يزالون يخدمون – في الجيش والشرطة.

عملت هذه الجهات المدججة بالأسلحة والغنية بالموارد بشكل مستقل وتحدت الدولة في مناسبات عديدة. فهي لا تتصور قيامة الدولة العراقية، لأنّ دولة أقوى -التي تحتكر استخدام القوة وتكون المؤمن الأساسي للخدمات وتقيّد الشبكات الموروثة استناداً إلى الطائفة والعشيرة– من شأنها أن تضعف بشكل كبير العديد من الميليشيات.

إن الروايات بأنها الضحية التي تنشرها (استناداً إلى التهديد الذي يطرحه المقاتلون السنة العرب وقمع نظام البعث على الشيعة) وكذلك الرمزية الدينية الشيعية، تلعب أهمية كبيرة بالنسبة لهويتها. فهي تعني أنه من الصعب على هذه الميليشيات أن تصبح جهات فاعلة تعددية من شأنها بناء تحالفات سياسية طويلة الأمد مع جهات فاعلة لا تتفق مع عقيدتها وسياساتها، وبالتالي تقوض الرواية التي بنوا عليها وجودهم.

من شأن هذه المزايا السياسية والاجتماعية والدينية للميليشيات – إلى جانب قدرتها على الرفض أو الثبات داخل الدولة – أن يجعل التعامل معها أمراً أصعب أكثر. ستكون هزيمتهم عسكرياً صعبة إن لم تكن مستحيلة، وفِي مطلق الأحوال ستكون الكلفة التي سيتكبدها العراق الضعيف أصلاً أكبر من المكاسب التي قد يحققها.

ما العمل؟

الا أن العراق لا يمكن أن يستمر إن سمح بحكم الميليشيات التي شارك بعضها في الأعمال العدائية الطائفية. إن التنازل عن السلطة لميليشيات لا يمكن محاسبتها سيبقي على مساحةٍ للعنف والتطرف ويساهم في تطورها وسيتيح على الأغلب بقيامة داعش مجدداً في المستقبل.

تتوفر خيارات أمام صناع السياسة في العراق والولايات المتحدة لضمان ألا تتحول المكاسب التي تحققت ضد داعش مؤخراً إلى تكاليف طويلة الأمد. يحاول أحياناً صناع السياسة، سواء في العراق أو في أي دولة أخرى حول العالم، لا سيما في أمريكا اللاتينية وأفريقيا، إدراج بعض الجهات غير الحكومية العنيفة، مثل الميليشيات، وملوك الحرب والقوات شبه العسكرية (التي تستعمل جميعها للدلالة على الجهات غير الحكومية العنيفة التي تعمل مستقلة ضمن الدولة) ضمن الدولة. إلا أن غالباً ما يكون ذلك غير قابل للتصديق.

لا بد من إعادة تحديد هذه العملية بحيث لا يُطلب من الميليشيات التخلي عن سلاحهم ونفوذهم، بل يتم دمجها في عملية الحوار والعقد الاجتماعي الذي يهدف إلى ضمان حصتها في العراق وتحديد دورها بشكلٍ أفضل. أما الآن، فالميليشيات الشيعية في العراق تعمل داخل ثغرة اجتماعية وقانونية، لاسيما وأن علاقتها مع الدولة والمجتمع لا تزال مبهمة وغير محددة بشكل جيد. ومن شأن هذا أن يولد حالة من عدم اليقين، وبالتالي، عدم الرغبة في الدخول في حوار وسياسات قائمة على التوافق.

ولمعالجة الأمر، لا بد أن تُحدد سلطة الميليشيات بشكل أفضل: أين تبدأ سلطة الميليشيات وأين تنتهي؟ من شأن تحديد هذه المعايير القانونية – وأيضاً الأهم من ذلك، العلاقة الاجتماعية-الثقافية بين الميليشيات والدولة والمجتمع – أن يساعد على خلق ثقافة المساءلة. يتمتّع المدنيون، على عكس ما يُعتقد، بقوة كبيرة في مناطق الصراع، ويمكنهم أن يحثوا الجماعات المسلحة على احترام حقوق الإنسان واعتماد المعايير الأساسية مثل حسن السلوك والحس بالمسؤولية. تعتمد الميليشيات الشيعية بشكل كبير على الدعم الشعبي وهي من المرجح أن تتفاعل مع المجتمعات المحلية أكثر من النخب السياسية العراقية وأطراف خارجية، مثل المسؤولين الحكوميين والمنظمات غير الحكومية ومجموعات حقوق الإنسان. يمكن للولايات المتحدة أن تساعد في هذا الصدد من خلال توفير الدعم المالي والتدريب والتعليم للجهات الفاعلة الحقيقية والشرعية في المجتمع المدني كجزء من الجهود الرامية إلى تمكين المكان لجهود تحقيق الاستقرار.

ولكن، قد لا تُعجب هذه المقترحات العديد من الميليشيات. فمن غير المرجح أن تقبل أقوى الميليشيات العراقية بمقترحات تحد من استقلاليتها أو من نفوذ الجهات الممولة في إيران التي تمدها بالمال والأسلحة (والتي ستحاول استغلال الانقسامات للحفاظ على قبضتها على البلاد). بيد أن هذه المجموعات هي أضعف مما تبدو عليه. فهي في وجه شعب قد يصبح يمتعض قريباً من حكم الميليشيات، كما كان الحال بعد العام 2008 عندما خفّت حدة الصراع الطائفي وأنشأت الميليشيات ثقافة شبيهة بالغوغاء.

وبالإضافة إلى هذه المجموعات المتحالفة مع إيران، نجد أيضاً الميليشيات القوية الموالية للحكومة في بغداد – هي قوات قومية تعارض بشدة هيمنة الميليشيات المدعومة من إيران والنفوذ الإيراني بشكل عام. نجد أيضاً الميليشيات التي تخضع لمؤسسة آية الله العظمى السيستاني الدينية، وهو يحظى باحترام مختلف المجموعات العرقية والدينية وقد عارض على مر التاريخ التدخل الإيراني في الشؤون العراقية. كما أنه انتقد علناً الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران للأعمال الوحشية التي تقترفها.

في بعض الأحيان، قد اختارت الميليشيات أشكال تصالحية وغير عنيفة للجدال، من خلال صناديق الاقتراع على سبيل المثال – ولكن غالباً ما كان يحدث ذلك عندما كانت الدولة العراقية أقوى. يجب أن تُجبر الميليشيات على الاختيار بين عملية مأسسة تعترف بوجودها ومواجهة مسلحة لا يمكنها الفوز بها على المدى الطويل.

في الحالة الثانية، ينبغي على الولايات المتحدة الاستفادة من الانقسامات والتجاذبات بين قوات الحشد الشعبي والمؤسسة السياسية الشيعية. لا بد للولايات المتحدة أن تتواصل أكثر مع الميليشيات المتحالفة مع الدولة وأن تنظر في تزويدها بالمزيد من الدعم المالي والسياسي.

وهناك أيضا فرصة لزيادة الدعم المقدم لرئيس الوزراء حيدر العبادي، الذي يشكل أخطر تهديد لحكم الميليشيات. فهو يقف بينها وبين الميزانية الوطنية، وبينها وبين أعضاء الطبقة العراقية السياسية الشيعية المؤيدين لإيران (بما في ذلك، رئيس الوزراء السابق المثير للجدل والسلطوي نوري المالكي)، علماً بأن هذه الميليشيات حاولت إزاحته من السلطة خلال العامين الماضيين.

لا تزال الدولة العراقية تحمل بصمتها في المعايير الدولية للسيادة وتبقى الممثل الوحيد القادر على بناء النظام الدستوري والقانوني في البلاد وتشكيله. في الماضي، حتى المليشيات المتشددة سعت لكي تُدمج في العملية السياسية، لا بل اعتمدت على ذلك من أجل اكتساب الشرعية والمصداقية. لا بد من الترحيب بذلك مرة أخرى، ولكن شرط أن تكون الدولة العراقية ومؤسساتها هي التي تحدد قواعد اللعبة، وليس العكس